هَــشَّ

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 31 مارس 2023 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

لي معارف وأصدقاءٌ ما رفعت الهاتفَ وسَمعت أصواتهم؛ إلا وطابت الحالُ، ففي حضورِهم ارتياحٌ وفي نبراتِهم انتعاشٌ وانطلاق، تنضح كلماتُهم بالهشاشةِ والبَهجةِ وتُخفّف من متاعبِ الحياة. ندر اليوم أن تأتيَ مُكالمةٌ إلا وكانت مَصحوبةً بالشكوى، مَمزوجةً بالسُّخرية العَميقة، مَختومةً بالدعاءِ والاستجارة.
• • •
يأتي الفعلُ هشَّ في قواميس اللغةِ العربيَّةِ بأكثرِ من مَعنى؛ إذا هَشَّ المَرءُ في وَجه مُلاقيه فقد تبسَّم وانبسطت قسماتُه، وإذا هشَّ إلى فِعلِ الخير فقد انشرح له صدره، أما إن هَشَّ الراعي إلى الغَنَم فقد ساقها في الطَّريقِ ليُبعدَها عن خَطرٍ، وربما وجَّهها نحو مرعاها أو أعادَها لحظيرتها. الفاعلُ هاشٌّ ولا يلزم أن يكون من بني البَشر؛ يُقال هشَّ الخبزُ أيّ رَقَّ وبات خفيفًا سهلَ الكسر، وهشَّت الفرسُ أيّ صارت عليلةَ الجَّسد مُتهافتة. المَفعولُ به مَهشوشٌ إليه، أما المَصدر فهشاشَة؛ ولهذه المُفردة استخداماتٌ أخرى مُتنوعة.
• • •
صاحبُ الابتسامة المُتفائلة دومًا؛ شخصٌ هاشٌّ، رقيقُ الحاشية، تحلو صحبتُه وإن غامت الأجواءُ، ويُضفي وجوده قبسًا من الفَرح. غالبًا ما تتلازم المفردتان هاشٌّ وباشٌّ، فإحداهما تُكمِل الأخرى وتؤكد معناها؛ خِفَّةُ الروح والقَسماتُ المُنبسِطَة وتعبيراتُ الوجه اللطيفة؛ كلها من مَحاسِن الصّفات.
• • •
أنشد إيليا أبو ماضي: هشَّت لك الدنيا فمالكَ واجِمًا .. وتبسَّمَت، فعلام لا تتبسَّم؟ هشَّت الدنيا أيّ أقبلت وانفتحَت، وبالتالي حقُّ أن يُقابَل فعيلُها بالمِثل. تقولُ الأبياتُ اللاحقةُ: إن كنت مُكتئبًا لعِزٍّ قد مَضى .. هيهات يُرجِعه إليك تندُّم .. أو كنت مُشفقًا لحلولِ مُصيبةٍ .. هيهات يمنع أن تحلَّ تجهُّم.. أو كنت جاوزت الشبابَ فلا تقُل .. شاخَ الزمانُ فإنه لا يَهرَم. أبو ماضي مِن أعظم شُعراءِ المَهجرِ صِياغةً، وأعذبهم كَلمةً وأعمقهم مَعنى، والقصيدةُ مِن بَحرِ الكاملِ وعنوانُها "كم تشتكي"، وقد درسناها طلابًا في المَرحلةِ الثانويَّة، ولا أعلم إن كانت بعد ضِمن منهج اللغة العربيَّة، أم حُذِفَت كغيرها بدعوى التسهيلِ والتيسير. على كلٍّ قد يحدث العكس؛ فيهشُّ المرءُ في وجه الدنيا بينما تقابله بالعبُوس، ويبشُّ لها فتستدير عنه وتُدبِر، والثابتُ رغم هذا أن دوامَ الحالِ مِن المُحال؛ فما تعسَّر اليومَ صار مُمكنًا في الغد.
• • •
رَوَى لي قريبٌ عزيزٌ دَرَس في كليةِ الطِبّ أنه دَخَلَ امتحانًا شفاهيًا في مادةِ الطُفيليات؛ فإذا بالأستاذ الكبير يسأله بعدما انتهى من اختبارِه وقبل أن يسمحَ له بمُغادرةِ اللجنة؛ عن معنى كَلمةِ "ذباب" في اللغة العربيَّة، ولما سَكَت وأُسقط في يده، عاد الأستاذُ يقول: ماذا تفعل حين تقفُ على وَجهِك ذبابةٌ؟ فأجاب: أهشُّها. لكنها تعود مِن جَديد، الذباب كلما ذُبَّ؛ آب، أيّ كلَّما هششته وأبعدته، عاد إليك أكثر إصرارًا.
• • •
إذا أشاح واحد في وجهِ الآخر بيدِه وقال: هِشّ مِن هنا، ينطقها بكسر الهاء طالبًا منه المُغادرة؛ فالشاهد أنه يعامله مثلما يُعامَل كائنٌ في مرتبة أدنى مِن الإنسان، إذ قد يهشُّ الواحد قطًا أو كلبًا أو غيرهما من الحيوانات، قد يهشُّ كذلك حشرةً؛ لكنه لا يهشُّ أبدًا إنسانًا، إلا إن قصَدَ الإساءةَ وتعمَّد إظهارَ التحقيرِ والازدراء.
• • •
إن تبدَّت العلاقةُ بين اثنين هشّةً واهيةً؛ كانت على الأغلب حصيلةَ غشّ وخداع، فشراكةٌ قائمةٌ على ادعاءاتٍ كاذبةٍ وصورٍ زائفة؛ تنفَضّ وينفصِمُ عراها فور انكشافِ الجَوهر.
• • •
تُصيبُ هشاشةُ العِظامِ النساءَ بأكثر مما تُصيبُ الرجال؛ الوَهن والآلامُ المُتنقلةُ، وقابليةُ الإصابة جرَّاء أتفه الأسباب. تنشأ العِلةُ عن تغيُّرات جَسديةٍ طبيعيةٍ يُمكن تداركُها؛ فالمقياسُ مَوجود والعلاجُ أيضًا، وإن كانت تلك نقيصة؛ فقوةُ التحمُّل النفسيةِ عند كلّ امرأةٍ مَيزة، تحظى بها على امتداد حياتها، والحقُّ أنها تبدو أكثرَ قُدرةً من الرَّجلِ على خَوضِ العُبابِ وتخطّي المشاق.
• • •
الإنسانُ الذي يُعرَف بأنه هشُّ الشخصية ضعيفُها؛ لا يَملِك بحكمِ تكوينِه قوةً نفسيَّةً تُعينه على مُواجهةِ الظُّروفِ الصَّعبة، فإن صادفته إحدى نوائبِ الدَّهر؛ تخلخَلَ بنيانُه في مُواجهتها وربما انهار. قد يختلفُ المآلُ بعضَ المرَّات، فثمَّة مَن تُقويه المَصاعبُ، وتدفعه إلى التطوُّر في اتجاه أفضل، بل وثمَّة من تُقسّيه الأيامُ وتجعله وتدًا صلبًا؛ لا تطرفُ له عينٌ إزاء الملمَّات، ولا تهتزُّ في رأسه شعرَة.
• • •
ربما يُوصَف بناءٌ بالهشاشة؛ والقصد أنه لا يصمُد أمام الهزَّاتِ العنيفةِ ولا يتحمَّل ضرباتِ المَعاوِل. قد يكون البناءُ من حَجَرٍ وأسمنت وحديد، وقد يكون من سِماتٍ وصِفاتٍ ومَشاعر، أما البناءُ الماديُّ فخاضعٌ لمُواصفاتٍ وقياساتٍ مُعمَّمَةٍ ثابتة؛ إن تعرَّضت للتلاعب نخَّ وهَوى، وأما المعنويُّ فنتاجُ تربيةٍ وثقافةٍ ومَوروثاتٍ جينية، تُشكّلُ المَرءَ وترسم طريقَه؛ فإن اجتمعت على جعله هشًّا؛ باتت حياتُه مُرهِقَةً مَريرة.
• • •
مثلها مثل البَشر؛ قد تُوصَف الدُّول بأنها عفيةٌ ذات بأس؛ يَصعبُ تجاهلها واستبعادها من خرائط القوى وتوازناتها، أو بأنها هَشَّةٌ ذات مَرض مُقيم؛ يأكل السُّوسُ قلبَها وينخر أحشاءَها، ويجعلها ريشةً تطيحها هبَّةُ ريح. ليست الدولةُ بكيانٍ مُنفَصِل عن الناس، وما مِن أوطانٍ دون مواطنين؛ فإن داموا في عِزَّة واكتفاء؛ صَحَّت بهم وارتفعت، وإن باتوا في ذِلةٍ واحتياج؛ هانت وتدنَّت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved