نظام الحزب الوطنى الطارد للقيادات

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 31 مايو 2010 - 10:12 ص بتوقيت القاهرة

 نادرة تلك التصريحات السياسية للدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء التى يمكن أن أتفق معها. لا أوافق على قوله إن الشعب المصرى تنقصه الديمقراطية، ولا أوافق على تصريحات سياسية أخرى له. ولكنى أجد نفسى متفقا مع ما قاله من أن النظام ــ وأفهم ذلك على أنه نظام الحزب الوطنى الديمقراطى ــ لم ينجب قيادات بديلة، ومن ثم فلا مفر فى رأيه من التسليم فى إطار الحزب، بقيادة الرئيس حسنى مبارك.

وأسباب اتفاقى مع هذا التصريح هو أولا أن السيد رئيس الوزراء عضو بارز فى لجنة السياسات بالحزب الوطنى الديمقراطى، وهو دائم الالتقاء بحكم منصبه بقيادات الحزب على أعلى المستويات، وإذا كان هو بحكم معرفته الوثيقة بهذه القيادات، وبحكم مستوى تعليمه وخبراته، لا يرى أن أيا منها بخلاف الرئيس لا يصلح لتولى منصب رئيس الدولة، فعلينا أن نصدقه، فقد شهد شاهد من أهلها.

والسبب الثانى الذى يدعونى للاتفاق معه، هو أن تلك بالفعل هى طبيعة النظام السياسى الفردى السلطوى الذى يحكم مصر، فلا مكان فى مثل هذا النظام إلا للزعيم الفرد، ولا يمكن أن يسمح مثل هذا النظام بظهور أى قيادة أخرى، لأنه سيجرى اعتبارها قيادة منافسة للزعيم الفرد فى الحاضر أو فى المستقبل، وهو ما لا يمكن لهذا الزعيم الفرد أو المحيطين به أن يسمحوا به.

مصر، وليس الحزب الوطنى، ولادة، والقيادات البديلة فى مصر قد ظهرت برغم أنف الحزب، أو أتيح لها أن تنمى مواهبها خارج مصر مثل الدكتور البرادعى، حيث لا يملك الحزب سطوة أو سلطانا. أضيف إلى ذلك أنه لو كان النظام السياسى فى مصر مختلفا عن النظام السلطوى الفردى الذى يحكمها لكنا قد شهدنا تعددا فى القيادات الصالحة على كل المستويات.

يتميز النظام السياسى فى مصر فى الوقت الحاضر ليس فقط بطابعه السلطوى، ولكن بطابع فردى مفرط. فحتى فى النظم السلطوية هناك مجال لظهور قيادات بديلة إما بحكم القواعد التى تسير عليها هذه النظم، أو بحكم تاريخها ومؤسساتها.

النظام العسكرى الذى حكم البرازيل فى الستينيات وحتى منتصف الثمانينيات كان نظاما عسكريا بكل تأكيد، ولكن كانت تحكمه قواعد فى رئاسة الدولة، وهى تناوب الرئاسة بين قادة أفرع القوات المسلحة فيه، ولذلك على الرغم من وحشيته فى التعامل مع الأحزاب السياسية والقيادات النقابية والمثقفين الثائرين على سياساته، إلا أن تداول السلطة فيه كان أمرا مستقرا ومنتظما، بل وحتى فى ظل نظام ثورة يوليو كان هناك إلى جانب جمال عبدالناصر فى بداية الثورة وقرب انتهاء حكمه عدد من القيادات البديلة، كان هناك عبداللطيف البغدادى وكمال الدين حسين حتى بداية الستينيات، وكان هناك زكريا محيى الدين وعلى صبرى فى نهاية الستينيات، بل وعلى مستويات أدنى تربت داخل الاتحاد الاشتراكى قيادات تميزت بثقافة واسعة وحس سياسى رفيع. ومن ثم لم تكن هناك مشكلة فى أن تقوم هذه القيادات بدور فاعل على مستوى المراكز والمحافظات، وهو أمر مازال يشيد به المواطنون الذين خبروا هذه التجربة عن قرب عندما يقارنونهم بقيادات الحزب الوطنى على المستوى المحلى فئ الوقت الحاضر.

وقد ورث النظام الحالى بعض هذه القيادات لكى تكون القيادات الوحيدة بين صفوفه التى تملك حسا سياسيا. ولنتساءل من هم الوزراء السياسيون الذين عرفهم النظام السياسى المصرى على عهد الرئيس حسنى مبارك؟ أليس هم خريجو الاتحاد الاشتراكى سابقا. ومن أبرزهم الدكتور مفيد شهاب والدكتور على الدين هلال وفى فترات سابقة الدكتور محمود شريف والدكتور حسين كامل بهاء الدين. ولا يجد الحزب الوطنى فى الوقت الحاضر من هم أبرع فى تسويق سياساته من كل من على الدين هلال ومفيد شهاب، أيا كانت درجة اختلاف كاتب هذه السطور مع الحجج التى يسوقانها دفاعا عن سياسات هذا الحزب.

ومما يدعو إلى السخرية أنه حتى عندما تتوافر فى الحكومة أو الحزب الوطنى شخصيات لها من المصداقية والاستقامة والكفاءة والقبول من الرأى العام، إلا إنه سرعان ما يجرى التخلص منها بطريقة أو بأخرى. وهناك أمثلة متعددة بدءا من الدكتور كمال الجنزورى والدكتور أحمد جويلى والسيد عمرو موسى. كلها شخصيات مقبولة من الرأى العام، وتملك القدرة على التواصل معه. أقيل الدكتور كمال الجنزورى لأنه أشيع عنه أنه يريد أن يكون رئيس وزراء «بحق وحقيق» أى أن يمارس دوره فى رسم السياسات الداخلية والخارجية والتنسيق بين الوزارات القائمة عليها.

ولقى الدكتور أحمد جويلى وزيرا للتموين ثم التجارة تعاطفا من الرأى العام بسبب حسه الاجتماعى المرهف فى إدارته لملف الدعم، وحرصه على تدعيم الجمعيات التعاونية لتقوم بدور فعال فى حماية المستهلك، وأثبت براعة فى التعامل مع قضايا التجارة الدولية دفاعا عن مصالح الدول النامية عندما شارك فى اجتماعات منظمة التجارة العالمية فى سنغافورة، ووجدت تصريحات عمرو موسى عن إسرائيل صدى طيبا لدى الرأى العام، كما رحب الرأى العام بمواقفه الأخرى التى خرجت عن حدود مهامه كوزير للخارجية عندما شارك مثلا فى جنازة المرحوم فرج فودة الذى دفع حياته ثمنا لدفاعه عن العلمانية. كما تصدى للولايات المتحدة الأمريكية عندما انعقد مؤتمر تجديد معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فى سنة 1995.

كل هذه القيادات امتلكت مهارات فى الرؤية السياسية والقدرة على التواصل مع الرأى العام لم تتعلمها من الحزب الوطنى، ولكنها قدرات فردية كانت هى ذخيرتهم فى العمل السياسى، وهى بكل تأكيد مطلوبة فى العمل العام ولكنها شديدة الخطورة عليهم فى نظام سلطوى فردى، لأنها تعنى أنهم لا يدينون فى وجودهم فى مناصبهم فقط لإرادة الزعيم الفرد ولأنهم يملكون مؤهلات لا علاقة للزعيم الفرد بها، ومن ثم هم يمكن أن يستقلوا بالرأى، ويمكن أن يكون لهم رصيدهم المستقل من تأييد المواطنين، وهو ما يحسبه الزعيم الفرد أو المحيطون به خصما من شعبيته، ومن ثم لا يطول عمرهم فى مناصبهم العليا، ويتشرب من يخلفونهم فى هذه المناصب هذا الدرس لسببين، أولا يجرى اختيارهم من بين هؤلاء عديمى الموهبة بحيث لا يخشى منهم خطر، أو أنهم يتجنبون أن يظهر منهم ما يبدو أنه انحراف عن إرادة الزعيم الأوحد، ومن ثم يكررون فى كل تصريحاتهم أنهم لا يقومون بأمر إلا بناء على التوجيهات العليا، وأنهم إذا وفقوا فى أمر من الأمور، فمجرد توفيقهم هو الحكمة البالغة الكامنة وراء هذه التوجيهات السامية الصادرة ممن وضعهم فى مناصبهم فى المقام الأول..

ليس هذا هو الوضع فى النظم الديمقراطية. فلديها من القواعد والمؤسسات ما يجعل وجود القيادات البديلة فى أى موقع أمرا مألوفا. هل يذكر القارئ الانتخابات البريطانية الأخيرة وما جرى فيها من مناظرات. تنافس على رئاسة الوزراء ثلاث كل منهم يمكن أن يكون رجل دولة بالمعنى الكامل، كان هناك جوردون براون رئيس الوزراء العمالى السابق، ودافيد كاميرون زعيم حزب المحافظين، ونيك كليج زعيم الأحرار الديمقراطيين، ولكن المهم أنه إلى جانب كل منهم كان هناك آخرون فى كل حزب مستعدين لتولى منصب القيادة ولهم كل مؤهلاته، مثل دافيد ميليباند فى حزب العمال، ووليم هيج فى حزب المحافظين وفينس كيبل فى حزب الأحرار الديمقراطيين.

وقد كنت منذ سنوات فى زيارة للهند التقيت فيها بقادتها على أرفع المستويات، كما التقيت أيضا بالعديد من العاملين فى مراكز الفكر، وكان من الذين التقيت بهم السيد مونماهان سينج رئيس الوزراء فى الوقت الحالى، وكان وقتها زعيما للمعارضة، وقد كان فى هذه اللقاءات فسحة من الوقت سمحت لى أن أخبر عمق ثقافة هذه الشخصيات، وإحاطتها بمشكلات العالم، وقدرتها على طرح حججها بطريقة خلابة ومقنعة، مما لا أجد مثيلا له فى مصر.

لا يتعلق الأمر بفوارق جينية بيننا وبينهم، ولكنها طبيعة النظام الديمقراطى بما فيه من فرص لتداول السلطة، وهو ما يجعل أى حزب مستعدا لمواجهة مهام الحكم عندما تأذن بذلك إرادة الناخبين، وهو ما يجعل قياداته تبتعد عن الوعود غير الواقعية لأنها تعرف أن الوقت سيأتى عندما يتعين عليها الوفاء بوعودها، التى سيحاسبها عليها الناخبون، كما أن تولى القيادة فى هذه الأحزاب هو عن طريق الانتخاب، ومن ثم تتكفل قواعد الديمقراطية الداخلية بألا يتواجد فى هذا المنصب إلا من استطاع إقناع غالبية أعضاء حزبه بجدارته بتولى هذا المنصب، ولا يملك فى سبيل ذلك سوى قوة الحجة، وحسن الخطاب فضلا عن القدرة على تعبئة الأنصار، ولا توجد فرصة للوصول إلى السلطة فى هذه النظم إلا من خلال رضاء الناخبين الذين يتعين على هذه القيادات إقناعها بجدارتها لتمثيل مصالحهم والدفاع عنها.
ليس لدينا أى من تلك القواعد والمؤسسات، ولكننا نتحرق شوقا لأن يكون لدينا مثلها. ألم يحن يا عزيزى القارئ وقت انتقالنا من نظام سلطوى فردى إلى نظام ديمقراطى بالمعنى الصحيح؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved