ثقافة الفحش فى معالجة الخلافات

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 31 مايو 2017 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

دون لطم الخدود وجلد الذات، لنعترف بوجود قابلية مجتمعية ثقافية فى بلاد العرب للتعامل مع خلافاتنا ــ أيًا تكون تلك الخلافات ــ من خلال استعمال أساليب التزمُت وخطاب الفحش. يصدق ذلك على الكثير من الأفراد والتنظيمات والمذاهب الدينية والحكومات. كما يشاهده الإنسان فى كل ساحات الأنشطة الحياتية: فى السياسة، والدين، والرياضة، والفنون، والإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعى، وحتى فى السجالات الفكرية البحتة.
ويتمثًل ذلك الفحش فى أشكال لا حصر لها، مثل: التجريح، والكذب، والمبالغات، والمراوغة، وخلط الأمور، والتخوين، والتكفير، والجدل السفسطائى المتذاكى، وغيرها كثير.
ولقد راعنى، عندما قمت بمقارنة قائمة ممارسة الفحش تلك بقائمة ما اعتبرها الكاتب الفرنسى «أندريه كونت سبونفيل» كممارسات للفضائل الكبرى، راعنى التناقض التام المفجع بين القائمتين؛ لقد اعتبر ذلك المفكر الفرنسى أن الفضائل الكبرى تتمثل فى ممارسة التأدُب، التعقُل فى الحكم على الأشياء، التعفُف وضبط النفس، العدالة والرحمة، البساطة والتواضع، التسامح ونقاء السريرة، الرقَّة وحبً الآخر.
عند ذاك أدركت بأن ممارسة الفحش فى خلافاتنا بكل أساليبه تلك، هو فى الحقيقة ممارسة للرذائل وللعلاقات الإنسانية الفجة الذميمة.
من يتابع المماحكات العبثية، وعلى الأخص الدينية والسياسية منها، فيما بين الأفراد على شبكات التواصل الاجتماعى بجميع أنواعها، من يتمعن فى المبالغات والمغالطات والادعاءات والشتائم التى يسمعها ويراها مبثوثة على الأخص على محطات التليفزيون الدينية المتكاثرة مؤخرا كالأرانب، من يقرأ افتتاحيات وكتابات أصحاب الأعمدة الصحفية المليئة بالحقد والكراهية وتمزيق لحمة المجتمعات والتخوين والتعابير البذيئة وإشعال الحرائق الطائفية والعرقية والمناطقية، من يحلُل المشاحنات والصراعات والمؤامرات والتجييش المجنون المتعمد لكل قوى الغوغائية التى تزخر بها ساحات الإعلام الرسمى الحكومى العربى، من يفعل ذلك يستطيع أن يرى الكارثة الأخلاقية، والعهر الثقافى البليد، وممارسات الفحش المجنون فى خلافاتنا، بكل أنواعها وفى كل الساحات والمناسبات، والتى تعيشها المجتمعات العربية فى هذه اللحظة البائسة من تاريخنا ووجودنا.
***
ظاهرة الفحش فى القول تلك تتمظهر الآن بشكل ملفت ومقلق فى ساحتين:
الساحة الأولى هى ساحة الصراعات والخلافات المذهبية الطائفية التى أصبحت أكثر الأسلحة استعمالا فى السياسة. هنا لا يقتصر الأمر على المحاججة التاريخية والفقهية، والتى هى تتمة لمسيرة فقهية وسياسية طويلة عبر تاريخ الإسلام والمسلمين، والتى هى إلى حدٍ ما مقبولة طالما أنها تلتزم بالمجادلة الحسنة التى أمر الله رسوله الالتزام بها حتى مع المشركين.
لكن الأمر لا يقف عند تلك الحدود، إذ سرعان ما يختلط الحابل بالنابل وتقحم فى تلك النقاشات الفقهية المواقف السياسية من إيران أو العراق أو لبنان أو اليمن أو المملكة العربية السعودية أو دول غربية، ويشار إلى الشيعى، فقط لأنه شيعى، بأنه عميل لهذه الجهة وإلى السنى، فقط لأنه سنى، بأنه عميل لتلك الجهة. ويبدأ السب والشتم بأفحش الأقوال لهذه الشخصية الإسلامية التاريخية أو تلك، ويُخرج الموتى من قبورهم لمواجهة المحاكمات السفيهة المبتذلة.
إن ما يميز تلك المجادلات أنها لا تصل قط إلى نتيجة أو تراضٍ أو تسامح، ويظلُ أبطالها وممارسوها يدورون فى حلقة مفرغة، وتظل الأمة تنزف دما وتزداد تخلفا، ويصبح الفقه ورما ينخر فى جسم الأمة.
الساحة الثانية هى ساحة الإعلام العربى. لا يكفى أنه عبر العقدين الماضيين اشتكى الكثيرون من فقدان الإحساس بالقيم الأخلاقية والروحية وضعف الإلزام بالثوابت الوطنية والقومية، حتى نفاجأ مؤخرا بقدرة بعض جهات الإعلام العربى الخليجى على التنافس فى استعمال الفحش فى القول من أجل دعم هذه الممارسة السياسية أو تلك، لهذه الدولة الخليجية أو تلك.
لقد كنا نتصور أن إعلاما ينتمى لدول تنتمى إلى مجلس تعاون، وإلى حد ما وحدوى، واحد، سيأخذ بعين الاعتبار حقائق الترابط الوجودى بين دول المجلس، وبالتالى لن يسمح لنفسه أن ينجر إلى تأجيج نيران الخلافات فيما بين بعض دول المجلس بدلا من أن يساعد على إخماد تلك النيران.
لكن غلب الطبع على التطبع. فما قلناه عن وجود قابلية مجتمعية ثقافية عربية للتعامل مع خلافاتنا بأساليب التزمت والفحش فى القول تغلب، وبنجاح مبهر، على مشاعر والتزامات العروبة من جهة، وعلى متطلبات العضوية فى مجلس التعاون من جهة أخرى.
***
هنا أيضا اختلط الحابل بالنابل، ففتحت دفاتر الماضى، ونبشت أسرار الحياة الشخصية، وأقحمت الصراعات الدولية، وفتحت ثغرات للإعلام الصهيونى الخبيث ليلعب أدواره الحقيرة. ومع الأسف فقد كان ذلك طبيعيا فى أرض لم تعرف قط ولم تمارس قط الأسس التى تقوم عليها الديمقراطية من الأخذ والعطاء، واحترام وجهة نظر الآخر، والأخذ بعين الاعتبار مصالح الكل.
الممارسات المفجعة للخلافات فى حقلى الدين والإعلام، بل وفى كل الحقول الحياتية الأخرى، تشير إلى الحاجة الملحة لإجراء مراجعات كبرى فى الثقافة العربية وفى الفكر السياسى العربى.
إن ثقافة لا تستطيع رسم طريق للحوار الهادئ الموضوعى العفيف الحسن فيما بين المنتمين لها، لهى ثقافة تحتاج إلى تغييرات كبرى جذرية. فغياب الحوار، الذى يلتزم بالقيم الفاضلة، لن يقود إلا إلى الكوارث التى نعانى منها فى حياتنا العربية.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved