أين هديلك وتغريداتها؟!

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 31 مايو 2020 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

تتسلل هى بهدوء إلى مضجعك، تقف عند حافة يومك تقول هذا يوم آخر فلماذا وفيما تتثاءبين وعينيك على تلك النافذة ومنها تطلى على المدينة، تتحسنين السرير، تفتحى كل حواسك على مصراعيها تحاولين مرارا وتكرارا قبل أن تلملمى نفسك وتغادرى فراش آخر، تحاولين أن تتعرفى على الزمان والمكان.. ترددين أولا بصمت ثم بصوت أعلى فأعلى وتصابى بشىء من الرعشة لأنك لا تعرفى فى أى مدينة أنت وأى سرير احتضنك الليلة الماضية.
***
هكذا تتنقلين منذ سنين لا تعرفى سوى غرف متشابهة رغم تنوعها ودرجاتها المختلفة من ذات الخمس نجوم لتلك التى لا تحمل إلا ظلمة عتمة الحروب والنزاعات.. من رفاهية الغرف الواسعة الدافئة بالشتاء والمكيفة بالصيف، إلى تلك التى لا تعرف الدفء أبدا، وحتى عندما تغتسلين فليس أمامك إلا برودة ظلمة العتمة التى انتشرت بين الدمار.. تتعودين شيئا فشيئا على هذه أكثر من تلك وترددين لنفسك لماذا أتذمر وهم لم يعرفوا سوى صعيق الخيمة.
***
تعودى لتتحسسى تفاصيل تلك المدينة من خلف زجاج النافذة وفى البدء تدركين أنها ليست تلك التى فى بيتك العتيق حيث لكل زاوية حكاية. هناك يوقظك العصفور الساكن فى الشجرة المظللة التى تحميك من قساوة شمس الصيف الحارقة وكذلك أعين المتلصصين بحثا عن قصة تروى فى مساءاتهم المملة.. وهى أيضا ليست فى ذاك البيت الذى حولتيه إلى مسكن لأن هناك لم تستطع الحمامة إلا أن تزور شباكك كل صباح وكأنها بهديلها ترفع الغطاء عنك وتردد «صباحك ورد».
***
تحاولين أن تطلقى الإشارات المتلاحقة لمشهد تلك المدينة على دماغك الذى يعمل على فتح كل المشاهد الكثيرة المخزنة فى دولاب الذكريات القريبة والبعيدة ليطمئنك أنك لم تصلى بعد إلى مرحلة فقدان الذاكرة الكلية.. كان الخوف قد تسرب لك مؤخرا فالأسماء ترحل سريعا وتقفين محرجة عندما يقابلك أحدهم بكثير من الترحيب والمودة.. لا «ليس بعد.. ليس بعد» انتظر يا زمن بعض الشىء فلا يزال الكثير قادما وقد يكون هو الأجمل.
***
ترتيب المدن ليس حسب الأهمية ولا التسلسل التاريخى ولا شىء سوى فقط لأنك لا زلت غير متخيلة أنك لا تعرفين أين نمت وفى أى زاوية من الكون صحيتى.. تتدافع الصور ليست بمجملها قريبة ولا بعيدة جدا. صورة القذيفة فى تلك الحرب العبثية وهى تمر خلف نافذتك فى ذلك الفندق العريق الذى اشتهر بكثرة الصحفيين الساكنين فيه، وعنوان مقالتك «لا عصافير تسكن هذه المدينة» كلها رحلت حتى هى ذرفت دمعة وحملت عشها وانطلقت بحثا عن مكان لا يعرف الجنون.. سماء المدينة وغيرها من تلك المدن التى كانت محط رحلات كلها تسكنها الشياطين وأرضها ضاقت بالقبور المنفردة والجماعية فلا وقت لغسل الموتى وتكفينهم ثم دفنهم، لا وقت لهم فهناك رصاصة قناص عليهم أطلقها فى رأس برىء ينزلق بين الأزقة ليوفر بعض الماء ورغيف الخبز.
***
مشهد تلك المدينة الصغيرة عند خاصرة افريقيا الشرقية وهى تتفاجأ بالعدد الهائل من الصحفيين الذين تسابقوا لإيجاد غرفة فى فنادقها المعدودة وأنت ونساء ثلاث تجرين بين النازحين من نار حرب أخرى هى أيضا عبثية، أليست كل حروبنا ما هى إلا كثير من موت مجانى على الهوية!! وتنتقل لتلك الساحرة سراييفو والبياض يغطيها وهدوء مخيف وعربات تتوقف فى منتصف الطرق فقد «خلص البنزين».. ألا تذكرين كيف كان ذاك الفندق الواسع خاليا إلا من غرفة أخرى لفريق إعلامى آخر.
***
وغيرها وغيرها من بيروت إلى القاهرة إلى لندن وتونس والرباط والخرطوم وبرلين وباريس ونيويورك وجنيف.. هى كثيرة، ما يهمك بها الآن ولماذا تسترجعينها حتى تطمئنى نفسك بأنك لا زلت بخير ولم تفقدى عقلك بين مدينة وأخرى.. قالت لك تلك الزميلة منذ سنين «عندما بدأت أصحو ولا أعرف فى أى مكان أنا، أدركت أنه قد حان الوقت لأترجل» وكانت استقالتها قد وصلت قبل وصولها هى إلى مقر عملها فى مدينة أخرى وسرير ومزهرية وزنبق أو قذيفة.
***
تغادرين الفراش وتتوقفين عند الشباك الواسع المطل على ذاك النهر وتتنفسين الصعداء «عرفتها، عرفتك أنت عاشقة أخرى»،
تصابى بموجة من الضحك وتجرين للاستعداد ليوم آخر ولأيام ستأتى ومدن تباغتك فى صباحات أيامك.. متى تترجلين أنت أيضا كما فعلت هى، متى؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved