إعادة إعمار غزة

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 31 مايو 2021 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

لا تكاد الحرب الإسرائيلية الرابعة على غزة تضع أوزارها، حتى ينبعث السجال بشأن إشكالية إعادة إعمار القطاع المُدمَّر، وفق الاعتبارات التى تحددها المسوح الميدانية لمؤسسات محلية ودولية، وحسب الآلية المُتبعة من قبل الأمم المتحدة، بالتناغم مع الشروط الإسرائيلية، التى تحتم الحيلولة دون توظيف حركة حماس لمستلزمات الإعمار ذات الاستخدام المزدوج، مثل الأنابيب والسكر ومواد البناء، علاوة على بقايا الصواريخ والمقذوفات الإسرائيلية، لأغراض استنهاض وتطوير قدراتها العسكرية، سواء بالاعتماد على إمكاناتها وخبراتها الذاتية، أو بمؤازرة مالية وتقنية من طهران.
مع إخفاق استراتيجية الحصار الإسرائيلية فى إحكام الرقابة المطلقة أو العزل التام على قطاع غزة، عمد جيش الاحتلال إلى تغيير قواعد اللعبة مع الحركة، مطالبا قيادته السياسية بعدم السماح لها بتسلم المساعدات المالية التى تقدمها قطر لسكان القطاع، على أن تتولى الأمم المتحدة مهمة تلقيها وإيصالها إلى مستحقيها، بعد مراجعة الوثائق والضمانات الضرورية. بموازاة ذلك، مضت إسرائيل قدما فى إغلاق المعابر، وتشديد الحصار البرى والبحرى والجوى، الذى فرضته على غزة قبل خمسة عشرعاما، بغية تجفيف منابع الدعم الذى تستغله حماس فى توسيع وتحديث بنيتها العسكرية. الأمر الذى أبطأ وتيرة الإعمار بعدما أعاق إدخال متطلباته الحيوية من الأموال والتجهيزات إلى القطاع بسلاسة. وخلافا لما هو متبع عقب انتهاء أية جولة تصعيدية ضده، يتمسك الاحتلال هذه المرة برفض توسيع نطاق الصيد البحرى للسكان الغزيين، معمقا بذلك أوجاعهم المعيشية.
من جانبه، حرص المجتمع الدولى على التماس جميع السبل المنوطة بتحييد حركة حماس عن عملية إعادة الإعمار، مقابل تعزيز دور السلطة الوطنية، بوصفها شريكا شرعيا ينبذ العنف ويلفظ الإرهاب. وفى هذا السياق، راج الحديث عن تشكيل لجنة دولية للإشراف على تلك العملية، وضمان تحويل التدفقات المالية المخصصة لها عبر السلطة الفلسطينية. فبعدما قررت استثمار نصف مليار دولار بهذا المنحى، عهدت القاهرة إلى شركات مصرية بتخطيط وتنفيذ جميع مشاريعها التنموية داخل القطاع، بالتنسيق مع رام الله. وبعدما أكد التزام بلاده بالعمل مع المجتمع الدولى لتخفيف معاناة الفلسطينيين وإعادة إعمار القطاع، من خلال السلطة الشرعية، متعهدا بتخصيص مساعدات تنموية أمريكية، واستئناف أخرى أوقفها سلفه ترامب، ومعاودة تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وإعادة فتح القنصلية الأمريكية بالقدس الشرقية، بعدما أغلقها ترامب، دعا الرئيس بايدن العالم إلى الاعتراف بأبى مازن زعيما للشعب الفلسطينى، والتعاطى مع حماس كمنظمة إرهابية.
ما برح الصدع الذى يباعد بين حماس والسلطة الفلسطينية، يمثل عقبةً كَأْدَاءَ أمام إنجاح جهود إعمار غزة. فلطالما تسبب إخفاق الفلسطينيين فى رأبه عبر التوافق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، ذات برنامج سياسى، يتبنى تصورا لإعادة إعمار القطاع، فى تأخر وصول الدعم العينى إلى المناطق المنكوبة أعوام 2009 و2014. وفى حين تشترط الدول المانحة، اختصاص السلطة الفلسطينية ــ دون سواها ــ بتلقى الأموال الموجهة لهذا الغرض، ابتغاء تعضيد شرعيتها، وتلافيا لتمكين حماس من إعادة بناء قدراتها القتالية، تأبى الحركة إلا تشكيل لجنة وطنية، لا تستبعد رجالاتها، للاضطلاع بهذه المهمة.
وبينما يتحمل الساسة الفلسطينيون نصيب الأسد من مسئولية استمرار تشظيهم المروع، لا يمكن إغفال الدور الإسرائيلى فى إذكائه. فطيلة اثنى عشر عاما خلت، تفنن نتنياهو وحلفاؤه من اليمينيين المتطرفين، فى تكريس الشقاق بين سلطة فلسطينية واهنة، وإن كانت شرعية، وحركة حماس المنبوذة سياسيا، فيما يستعصى تجاهلها استراتيجيا، على الرغم من إدراج واشنطن وبروكسيل لها ضمن قائمة المنظمات الإرهابية. فبتغذيتهم ذلك الانقسام، ينشد الإسرائيليون تقويض حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، مع مواصلة الترويج لفرية غياب شريك فلسطينى موثوق، يمكن التفاوض معه لإدراك اتفاق سلام ينهى صراعا داميا وممتدا. أما نتنياهو، فيرنو لتقديم نفسه عالميا، كما لو كان مُهددا من جانب الإرهاب «الإسلامى»، بما يسوغ له استئناف عدوانه على الفلسطينيين، وقتما شاء، متوسلا تحسين موقفه السياسى المتدهور، ومتوخيا إجهاض القدرة القتالية الضاربة للمقاومة الفلسطينية، متذرعا بسردية محاربة الإرهاب.
لا تفتأ حماس تشكك فى مشروعية ــ أو بالأحرى واقعية ــ إقصائها عن المشهد السياسى الفلسطينى، أو جهود إعادة إعمار القطاع المنكوب، مستشهدة بمطالبة عواصم غربية، ذات ثقل، بعدم تجاهل الدور الحمساوى كلية، بعدما أخذ فى التعاظم بمجرد إتمام إسرائيل انسحابها الأحادى والاضطرارى من القطاع عام 2005. فلقد خطت حماس خطوات وثابة لترسيخ دعائم نفوذها العسكرى فى ربوعه، من خلال إقامة بنيتها العسكرية التحت أرضية. أما سياسيا، فقد أسبغ عليها اكتساح قائمة «التغيير والإصلاح» المحسوبة عليها للانتخابات التشريعية، التى أجريت مطلع العام 2006 ــ مظلة من الشرعية، لم تدخر الحركة وسعا فى استثمارها لترسيخ هيمنتها على القطاع،حتى نفذت انقلابها على سلطة رام الله أواسط يونيو 2007. أما اليوم، فيأبى المجتمع الدولى إلا تحجيم النفوذ الحمساوى، معلقا اعترافه بأية حكومة وحدة وطنية فلسطينية محتملة، على ضرورة خلوها من أى تمثيل للحركة.
لما كان نجاح عملية إعادة الإعمار يتطلب، إلى جانب توافر الموارد الاقتصادية اللازمة، انطلاق عملية سياسية تتيح هيكلة الكيان الفلسطينى ومأسسته، كما تعيد تأطير العلاقة بين سلطته ومجتمعه، تظل عملية إعمار غزة، التى تنخرط فيها الولايات المتحدة، ومصر، وقطر، والاتحاد الأوروبى، والمبعوث الأممى إلى الشرق الأوسط، ضمن آلية إعادة الإعمارالمنبثقة عن المرجعية المتمثلة فى الاتفاقية الثلاثية المؤقتة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية والأمم المتحدة، بحاجة ماسة إلى شريك فلسطينى شرعى تجسده السلطة الوطنية. وفى هذا السياق، جاء تأكيد رئيس الوزراء الفلسطينى، محمد إشتية، على تعطش عملية إعادة إعمار القطاع إلى أفق سياسى يرسى دعائم السلطة الشرعية، ويهيئ الأجواء لاستئناف مفاوضات سلام، تفضى بدورها إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، بما يوصد الأبواب نهائيا أمام اندلاع العنف والدمار فى قابل الأيام.
إذا كانت التحركات المصرية الحثيثة، المدعومة دوليا، قد أسفرت، بشق الأنفس، عن التوصل إلى اتفاق قلق لوقف إطلاق النار بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، فإن تدشين عملية متكاملة وناجعة لإعادة إعمار غزة، لن يتأتى إلا بتثبيت وترسيخ ذلك الاتفاق على الأرض، توطئة لبلوغ هدنة طويلة الأمد. وأظنها غايات جد عصية، طالما بقيت إسرائيل ترهن التوصل إلى أى اتفاق تهدئة بعيد المدى، بتنفيذ شروطها المتمثلة فى: تجميد مشاريع حماس لتطوير قدراتها التسليحية، وربط أى تقدم فى دفع جهود إعمار غزة للأمام باستعادة الأسرى والمفقودين كما رفات القتلى الإسرائيليين فى القطاع. فى المقابل، ترفض الحركة التعاطى مع المطلب الأول، فيما تعترض على ربط أية صفقة لتبادل الأسرى بأى اتفاق آخر، ولو كان بخصوص الهدنة الممتدة، ما لم يتضمن رفع الحصار عن غزة.
لا تزال علاقات حماس بكل من إيران وجماعة الإخوان المسلمين، تكبل تحركات الدول والجهات المانحة فيما يتصل بمساندة جهود إعادة إعمار غزة. وقد عزا «معهد بروكينجز» عام 2017، تعثرالمساعى الدولية السابقة بهذا الصدد، إلى التعنت المتبادل من قبل حماس وإسرائيل، إضافة إلى استياء أطراف شتى جراء تقارب الحركة المشبوه مع جماعة، تعتبرها دول شتى منظمة إرهابية، ودولة يحملها المجتمع الدولى مسئولية جل التوترات والنزاعات التى تهدد أمن واستقرار الشرق الأوسط.الأمر الذى عرقل تدفق معدات ومواد البناء، وكذا المساعدات الإنسانية إلى القطاع، مثلما فاقم عزلة حماس، ليس على المستوى الفلسطينى فحسب، وإنما على الصعيدين العربى والدولى.
من رحم ذلك الخلل المزمن والمستعصى، تنبلج عقبة لوجيستية فارقة، تتعلق بتباطؤ المانحين الدوليين فى الوفاء بتعهداتهم الخاصة بإرسال المساعدات المالية لجهود إعادة إعمار غزة. وهو المشهد الذى أضحى صنوا لمؤتمرات الإعمار التى قلما تلتئم عقب انتهاء الاعتداءات البربرية التى تشنها قوات الاحتلال على القطاع، والتى تتعهد خلالها الجهات المانحة بإغداق الأموال، ثم لا تلبث غالبيتها أن تحنث بوعودها.
لعله إذا فتور الإرادة المتولد من شعور مؤلم بالإحباط وعدم جدوى تقديم دعم، يعلمون علم اليقين، أنه سيلاقى نفس المصير المأسوى، الذى آل إليه أسلافه. بحيث يتهاوى ويغدو أثرا بعد عين، تحت وطأة الهجمات الإسرائيلية الوحشية، التى تتعاقب على القطاع، بين الفينة والأخرى، وعلى مرأى ومسمع من العالم، ثم تمضى، بغير حساب لمرتكبيها، أوتحميلهم، ولو نذرا يسيرا، من المسئولية القانونية أو الأخلاقية. على الرغم من اعتبارالمفوضة السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة تلك الهجمات بمثابة جرائم حرب، كونها تستخدم القوة العشوائية وغير المتناسبة لاستهداف الأبرياء والأعيان المدنية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved