تأميم قناة السويس: سؤال الستين سنة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 31 يوليه 2016 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

لا يوجد فى التاريخ استقلال وطنى بالمجان ولا أدوار قيادية بالادعاء.

قبل ستين سنة بالضبط، فى (٢٦) يوليو (١٩٥٦)، أمم الرئيس المصرى الشاب «جمال عبدالناصر» الشركة العالمية لقناة السويس «شركة مساهمة مصرية».

كان ذلك زلزالا مدويا فى أرجاء العالم وفاقت جسارته حدود كل تصور.

لم يعد هناك سر مخبوء فى قصة السويس، فكل شهادات أبطالها وصناعها، وكل وثائقها ومحاضر اجتماعاتها السرية، وكل تفاصيل الحرب التى شنت على مصر، باتت متاحة لمن يريد أن يقرأ ويستوعب التاريخ كما هو، قبل إصدار الأحكام بالجهل أو التجاهل بالنسيان.

بتعبير الروائى الكبير الراحل «نجيب محفوظ» «آفة حارتنا النسيان»، وقد كاد النسيان أن يسدل ستائره الكثيفة على الذاكرة العامة فى الذكرى الستين لأكثر المعارك إلهاما فى التاريخ الإنسانى المعاصر.
وقد يرجع ذلك لسببين.

أولهما: أن العالم العربى، ومصر فى قلبه، منشغل بحرائقه المشتعلة وتراجعاته الفادحة دون أن يرى أمامه بوصلة ترشد أو أملا يرتجى.

وثانيهما: أن العصبية المفرطة جراء الاستقطابات الحادة تمنع أى حوار جدى ينظر فى التاريخ وتحولاته وآثاره الممتدة لنعرف عن علم لماذا انتصرنا حين انتصرنا.. ولماذا انهزمنا حين انهزمنا؟

رغم ذلك فإن تعبيرا آخر للشاعر الفلسطينى الكبير «محمود درويش» يضع حدا لخشية الانزلاق إلى فقدان الذاكرة فـ«النيل لا ينسى كما كنا نظن».

سلامة الذاكرة، رغم أى عصبية مفرطة واستقطابات حادة، من ضرورات رفع الهمة العامة.

عندما تسود الخزعبلات فى قراءة التاريخ على حساب الحقائق فإن كل معنى مستباح وكل قضية منتهكة.

لم يكن بوسع أحد فى العالم توقع تأميم قناة السويس قبل إعلانه من فوق منصة «ميدان المنشية» بالإسكندرية.

فمصر دولة من العالم الثالث لا تقاس قوتها على أى نحو بالإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية التى أضيرت بفداحة مصالحهما الاستراتيجية فى الشرق الأوسط، حيث منابع النفط الذى تمر حمولاته عبر قناة السويس.

جسارة التحدى تأخذ معناها الحقيقى من سياقها فى الصراع على الشرق الأوسط، فقد حاولت مصر بعد ثورة يوليو الخروج من دوائر النفوذ الاستعمارية، قاومت الأحلاف العسكرية وسياسات ملء الفراغ، وأيدت حركات التحرير الوطنى فى العالم العربى ودعمت بالإعلام والسياسة والتمويل والسلاح الثورة الجزائرية، كسرت احتكار التسليح بصفقة الأسلحة السوفييتية ولعبت دورا جوهريا بتأسيس قوة دولية جديدة، خارج استقطاب الحرب الباردة، للدول المستقلة حديثا فى «باندونج».

رغم صعوبة قرار التأميم إلى حدود شبه مستحيلة فإن تفسيره فى سياقه وكفاءة إدارة أزمته فى دقة حساباته لمتغيرات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

بعض أسباب شبه الاستحالة يعود إلى الذاكرة القريبة من مطلع الخمسينيات فيما جرى للزعيم الإيرانى «محمد مصدق» بعد تأميم البترول فى بلاده.

وقد كان «عبدالناصر» مدركا للمخاطر التى تعترض مستقبله وحياته، لكنه قبل خوضها لاكتساب الاستقلال الوطنى الذى هو عنده شرعية حكمه ومعنى يوليو نفسها.

إذا كان هناك من يعتقد أن استقلال القرار الوطنى يمنح ولا ينتزع فهو واهم، فلكل استقلال تكاليفه وتضحياته ومعاركه.

بمعنى أوضح اكتسبت مصر استقلال قرارها الوطنى الكامل فى حرب السويس، بفواتير الدم المبذولة وشجاعة الأجيال الجديدة التى هرعت لحمل السلاح لمواجهة العدوان الثلاثى البريطانى ــ الفرنسى ــ الإسرائيلى، لا باتفاقية الجلاء التى وقعها «جمال عبدالناصر» نفسه عام (١٩٥٤) وانطوت على تنازلات تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.

بدت الحرب نقطة الذروة فى قصة السويس.

هناك من يعتقد أن مصر كان يمكنها تجنب العدوان إن لم يقدم «عبدالناصر» على قرار التأميم.

بالوثائق ذلك استنتاج متعجل، فلم يكن مسموحا لمصر بأن تتطلع لاكتساب قرارها الوطنى بالتأميم أو بغير التأميم.

بحسب تقرير استخباراتى أمريكى فى ربيع (١٩٥٦) كشف عنه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى كتابه «ملفات السويس» فإن خطط الانقلاب والغزو وقتل «جمال عبدالناصر» سبقت فعل التأميم.

فى التقرير دعوة بريطانية صريحة لاستخدام القوة لإسقاط الحكومة المصرية بالمشاركة مع إسرائيل التى سوف يسند إليها الهجوم المباشر على غزة ومناطق الحدود الأخرى وعمليات خاصة ضد مخزون مصر من إمدادات الذخيرة والطائرات والدبابات.

وهو ما حدث بالضبط فى حرب السويس، بعد إضافة فرنسا لقوة العدوان بدافع ثأرها لخسائرها فى الجزائر، التى تلقى ثوارها أكبر شحنة سلاح من مصر أثناء تلك الحرب.

فى الحرب اكتشفت مصر نفسها من جديد وبدت أمام «الباب المفتوح» بتعبير رواية الدكتورة «لطيفة الزيات» عن تلك الفترة والروح التى بثتها فالتحقت المرأة بقوافل المتطوعين للمقاومة فى بورسعيد، حيث كانت المواجهة الحاسمة.

من الأساطير الذائعة رد تأميم قناة السويس إلى رفض البنك الدولى تمويل مشروع السد العالى خارج كل سياق للصراع فى الشرق الأوسط وعليه.

بمقتضى سياق الحوادث كان رفض التمويل نقطة فاصلة لكنه يأخذ معناه من مشروع التحرر الوطنى نفسه، من الشعور بالكبرياء الوطنى والقدرة على الدفاع عن الحقوق الوطنية بلا وجل.

الكلام عن استعادة قناة السويس دون تأميم أو قتال أقرب إلى الخزعبلات.

كان «شارل رو» رئيس مجلس إدارة شركة قناة السويس واضحا مع «شيمون بيريز» رجل «ديفيد بن جوريون» فـ«مطامع المصريين لا تقف عند حد» وأن «جمال عبدالناصر» هو العدو الحقيقى.

كان ذلك قبل تأميم القناة.

بعد السويس بدت مصر قوة إقليمية عظمى وعاصمتها القاهرة لا يمكن تجاهلها فى الحسابات الدولية.

اكتسبت أدوارها القيادية فى إفريقيا بأثر وضوح سياساتها وقدرتها على المبادرة والإسناد والتأثير لتحرير القارة، كما اكتسبت أوزانا استثنائية فى عالمها الثالث من إلهام أن دولة نامية قادرة على التحدى وكسبه.

قبل التأميم وبعده لم يكف رئيس الوزراء البريطانى «انتونى إيدن» بما يشبه الهستيريا عن طلب رأس «عبدالناصر»: «أريد أن أدمره تماما» «أريده جثة أمامى» حتى اضطر هو أن يستقيل من منصبه بعد فشله الذريع فى حرب السويس، التى لحقتها تطورات جوهرية فى المنطقة رفعت من منسوب الاستقلال الوطنى بصورة لم يكن ممكنا الوصول إليها بلا الجسارة التى أبداها «عبدالناصر» قبل أن ينكسر كل معنى للاستقلال الوطنى بالسياسات التى انقضت على عهده.

رغم آلاف الوثائق والشهادات والكتب التى نشرت عن حرب السويس فإن هناك من يطلب نزع أى قيمة عن التضحيات التى بذلت حتى يكون استقلال القرار الوطنى مستحقا.

كما يقال دائما فإن بضدها تتمايز الأشياء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved