ديوان وطنيتى

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الأربعاء 31 يوليه 2019 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

فى أوليات القرن الماضى كانت الصحافة مطاردة، تدرك سلطات الاحتلال والأذناب أنها الخطر الحقيقى الفاعل فى إيقاظ الوعى وتنبيه الشعب بحقوقه والأخطار المحدقة بالوطن.. توالت الإنذارات والمصادرات والإيقافات على الصحافة الوطنية، وتحملت صحافة الحزب الوطنى (القديم): «اللواء» وفروعها أو بدائلها أوفى نصيب من هذه الملاحقة، ونالت المطاردة صحيفة «المؤيد» التى كان يصدرها الشيخ على يوسف، كما نالت الشيخ عبدالعزيز جاويش الذى حوكم مرتين، الأولى 1908 بتهمة نشر أخبار مثيرة عن السودان، والثانية فى يونية 1909 عن مقاله: «ذكرى دنشواى».. وكانت إعادة قانون المطبوعات تستهدف مزيدا من تطويق الصحافة!.. وصادف حصار الحكومة وسلطات الاحتلال أن شجر خلاف بين ورثة مصطفى كامل على ملكية جريدة «اللواء»، وعين يوسف المويلحى حارسا قضائيا على الجريدة، واستلم إدارة «اللواء» بينما كانت مطاردة السلطات وقضيتها على الحزب الوطنى وجرائده قائمة على قدم وساق، وأراد الحارس القضائى أن يتدخل فى سياسة التحرير، فرفض محمد فريد.. وأعلن أن الجريدة لم يعد لها علاقة بالحزب الوطنى فى ظل هذه الحراسة القضائية، وسارع إلى إصدار جريدة «العلم» لتكون لسانا معبرا عن الحزب الوطنى، فصدر أول أعداد «العلم» فى 7 مارس 1910 وأقبل عليهـا الشعـب إقبالا كبيرا، بيد أن السلطات لم تطق صبرا على «العلم» مثلما لم تطق صبرا على اللواء، فأصدرت الحكومة قرارا فى 20 مارس بإيقاف الجريدة شهرين بذريعة أنها خرجت فى كتاباتها عن حد الاعتدال!!!

الفارس محمد فريد

لم يتراجع الفارس محمد فريد، ولم يرتض انحباس صوت الحـزب الوطنى لسان حال الشعب، فأصدر فى اليوم التالى جريدة «الشعب» ثم «العدل» و«الاعتدال»، ودبج محمد فريد فى جريدة الشعب مقالا ناريا، وأعاد إصدار «العلم» فور انتهاء مدة الإيقاف، حتى لا يسكت لسان الشعب يوما واحدا!

إمعـان السلطات

ولكن السلطات أمعنت فيما تريده من حصار وتطويق ومحاربة للحركة الوطنية، فأصدرت الحكومة فى 16 يونيه 1910 القانون 27 /1910 الذى تضمن إحالة تهم الصحافة إلى محاكم الجنايات بعد أن كانت من اختصاص محاكم الجنح، رامية بذلك إلى تغليق فرصة إجراء المحاكمة الصحفية على درجتين «جزئية واستئنافية»، وسنت بذات اليوم القانون 28 /1910 بتعديل بعض نصوص قانون العقوبات للمعاقبة على الاتفاقات الجنائية ولو لم تدخل حيز التنفيذ، كما تناول التعديل منع نشر المرافعات فى القضايا الجنائية إذا رأت المحكمة فى نشرها إضرارا بالنظام العام، كما أقامت المسئولية الجنائية فى حق رؤساء تحرير الصحف عما ينشـر فيها ولـو لم تتوافر فى حقهم أركان الاشتراك الجنائى، وهو ما يسمى بالمسئولية الافتراضية التى قضت المحكمة الدستوريـة العليـا (فيما بعد فى 1/2/1997) بعدم دستوريتها لمخالفتها مبدأ شخصية المسئولية والعقوبة!

موقف محمد فريد

لم يسكت الأستاذ محمد فريد فارس الوطنية، فكتب مقالا ناريا بجريدة «الشعب» اللسان الجديد للحزب الوطنى تحت عنوان: «سياسة الشدة».. انتقد فيه بشدة هذه التعديلات، ونعت مشروع القانون بأنه يشبه «قانون المشبوهين» الذى فرضته الحكومة الثورية فى فرنسا فى أواخر القرن الثامن عشر للانتقام من كل من يخالف سياستها، ولتكميم الأفـواه!.

ديوان وطنيتى

سارعت السلطـات فى يوليو 1910 إلى ضربة رادعة، انتهزت فيها صدور ديوان «وطنيتى» للأستاذ على الغاياتى المحرر «باللواء»، بتقديم (سابق الكتابة) من محمد فريد الذى لم يطالع الديوان وكان بخارج البلاد عند صدوره، وكان قد حرر هذا التقديم سابقا قبل سفره، كما قدمه أيضا الشيخ عبدالعزيز جاويش، فرأت السلطات أن هذا الديوان فرصة لضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، بمقالة أن بعض قصائده تنطوى على تحبيذ الجرائم والتحريض على ارتكابها وإهانة هيئات الحكومة، وكانت النيابة العامـة قـد غضت عنه النظر لسابقة نشر جميع قصائده فى الصحف، إلا أن الحكومة طفقت توعز إلى النيابة، وأمرت بمصادرة الكتاب وشرعت فى التحقيق مع الشيخ على الغاياتى والشيخ عبدالعزيز جاويش، وأرجأت الأمر بالنسبة لمحمد فريد لحين عودته من الخارج، وأحالت كل مـن الشيخ على الغاياتى والشيخ عبدالعزيز مع آخرين بتهمة مدح وإطراء الكتاب إلى محكمة الجنايات!!

نظر القضية

نظرت قضية ديوان «وطنيتى» فى أغسطس 1910 أمام محكمة الجنايات برئاسة محمد مجدى بك، وعضوية على ذو الفقار بك، والمسيو سودان، وجلس فى كرسى النيابة محمد توفيق نسيم بك رئيس نيابة الاستئناف فى ذلك الوقت، وجرت محاكمة الغاياتى غيابيا لأنه كان سافر متوجسا قبل المحاكمة إلى الأستانة ثم سويسرا، بينما حوكم الشيخ عبدالعزيز جاويش حضوريا، فنهض بالدفاع عنه فارسان من فرسان المحاماة والحزب الوطنى (القديم): أحمد بك لطفى، ومحمد على علوبة بك (باشا) المحامى الذى توالى ظهوره من بعد فى المشهد المصرى فى العديد من المواقع والمواقف.

فى 9 أغسطس صدر الحكم (غيابيا) بحبس المؤلف الشيخ على الغاياتى لمدة سنة وحبس من أطرى الكتاب شهرين مع الإيقاف، وحضوريا بحبس الشيخ عبدالعزيز جاويش لمدة ثلاثة أشهر مع النفاذ جرى تنفيذها عليه فورا، ومع الاستياء الشعبى الشديد الذى قوبل به الحكم، أخذ الوطنيون ينتظرون ماذا سوف تفعل السلطات مع محمد بك فريد حين يعود إلى البلاد؟!

التربص بمحمد فريد

لـم يكن فى المقدمة التى كتبها محمد بك فريد لديوان «وطنيتى» ما يمكن أن يؤاخذ عليه قانونا، أما القصائد التى حواها الديوان فلم تكن تحت نظر محمد بك فريد حينما كتب المقدمة فى فبراير 1910، فالشيخ الغاياتى لم ينته من الديوان ولم يقدمه للطبع ولم يظهر إلا فى يوليو 1910 بعد أن كان محمد فريد سافر فى مايو 1910 إلى أوروبا، ومع ذلك اعتبرته التهمة ـ لكتابته المقدمة! ـ شريكا للغاياتى فيما تضمنه الديوان، وجعلت السلطات تتربص عودته إلى البلاد لمحاكمته.. فما كاد يصل فى أواخر ديسمبر 1910، حتى أخذت النيابة العمومية فى التحقيق معـه، واستجوبـه رئيس النيابـة آنذاك محمد توفيق نسيم بك، حيث أحيل إلى محكمة الجنايات بتهمة أنه حسن وامتدح ديوان «وطنيتى» فى المقدمة التى كتبها له قبل سفره!

محاكمة محمد فريد

انعقدت المحكمة فى يناير 1911 برئاسة المستر دلبر وجلى، وعضوية: أحمد ذو الفقار بك، وأمين بك على، ومثل النيابة رئيسها محمد توفيق نسيم بك، وصمم الأستاذ محمد بك فريد على ألا يصاحبه أحد من زملائه المحامين، اعتمادا على أقواله المبداة بحجتها، وبأن التهمة لا تحتاج إلى دفاع حالة كونها ظاهرة البهتان ولا أساس لها من الحق والقانون !

ولا نعتقد أن محمد بك فريد فارق الحيطة أو الحذر، فالحق فى الدعوى أبلج واضح كفلق الصبح، لا يخفى على المحكمة إن أرادت الحق، فإن أرادت غيره فلن يجدى دفاع أيا كان، وتكون الوقفة بغير محام أجدى فى كشف النقاب وفضح المستور أمام الشعب !
وقد كان !!

بعد بضع دقائق لا تكفى للمراجعة والموازنة والتقدير بعد سماع مرافعة النيابة التى لم تسمع المحكمة غيرها، أصدرت المحكمة حكمها بحبس الزعيم محمد فريد ستة أشهر مع النفاذ !!.. أما محمد فريد، فقد تلقى الحكم بقلب ثابت، وانطلق مع الحرس إلى السجن.. لم يطلب سوى بعض الكتب، مودعا فى ثبات دموع الوطنيين الذين صدمهم الحكم، مشجعا إياهم على الحق والصبر والثبات.

تأتى الأمور بغير ما تشتهى السفن !

على عكس ما قدرت السلطات، كان حبس محمد بك فريد باب تأليب وإلهاب للمشاعر، لم يفت فى عضد الحركة الوطنية، وزادها اشتعالا !!.. قدرت السلطة محاذير هذا الالتهاب، وتزايد شعبية محمد فريد والحزب الوطنى والحركة الوطنية بعامة، فدفعت الخديو للالتفاف حول محمد بك فريد متسربلة بالعطف وهى لا تبغى سوى إفقاده شعبيته !.. أوفد إليه الخديو بمحبسه بسجن الاستئناف بباب الخلق ـ عثمان بك غالب، عارضا عليه استعداد الخديو لقبول طلبه بالعفو عنه، ملحا عليه أن يتقدم للخديو بالطلب مؤكدا له قبوله، ورغبة الخديو السامية فى إصدار العفو عنه، بيد أن الفارس محمد بك فريد رده بعتاب يشبه اللوم، مؤكدا أنه لا يطلب عفوا، ولا يسمح لأحد بأن ينوب فى طلبه.. قال له محمد فريد فيما حفظته مدونات التاريخ: « أنا لا أطلب العفو، ولا أسمح لأحد من عائلتى أن يطلبه عنى.. وإذا صدر العفو فلن أقبله » !

هكذا كان الرجال، وبهم سطرت مصر صفحات تاريخها الوضاء !

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved