الأزمة مع قطر ومحنة النظام العربى

عزت سعد
عزت سعد

آخر تحديث: الجمعة 31 يوليه 2020 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

فى 5 يونيو الماضى تكون قد مرَت ثلاث سنوات على إعلان كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر، قطع علاقاتها الدبلوماسية بقطر، حيث سلمتها قائمة من 13 مطلبا لتنفيذها جميعا إذا ما أرادت استعادة علاقاتها بها، منها: خفض تمثيلها الدبلوماسى مع إيران، وطرد أعضاء من الحرس الثورى وإغلاق القاعدة العسكرية التركية فى أراضيها، وتسليم جميع المطلوبين من الدول الأربع بتهمة الإرهاب وقطع روابطها بجماعة الإخوان المسلمين وحزب الله وتنظيم القاعدة وداعش. وبعد شهرٍ من الإعلان، أصدرت الدول الأربع بيانا مشتركا من القاهرة تضمَن مبادئ ستة لإجراء محادثات مع الدوحة من بينها التزام الأخيرة باتفاق الرياض عام 2013 والاتفاق الملحق به وآلية تنفيذه لعام 2014، الذى يلزم بالاصطفاف مع دول الخليج والدول العربية الأخرى عسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

ورغم دخول المقاطعة عامها الرابع، لا يبدو أن قطر مستعدة لتغيير سياستها وبدلا من ذلك فتحت خزائنها لكل من يحمل أجندة تدخلية معادية للرباعى، وبصفةٍ خاصة مصر، والتواطؤ مع تركيا فى ليبيا وفى منطقة القرن الإفريقى ارتباطا بالسد الإثيوبى، الأمر الذى باتت معه الدوحة بمثابة تحدٍ خطير للاستقرار والأمن الإقليمى. ومن سوء حظ العرب أن نظام الحوكمة العالمية قد ضربه ما يسمِيه بعض الكتاب الأمريكيين بـ«الفساد الاستراتيجى» والذى تستفيد منه قطر بامتياز لحشد الدعم لها من داخل وخارج الإقليم على السواء. والملفت فى هذا السياق أن التعاون القطرى الإيرانى أو مع تركيا أو حتى التركي/ الإيرانى، لا يمثل أى قلق للأمريكيين رغم سياسة «أقصى ضغط». وبالمثل لم يبد ترامب اكتراثا بتورط تركيا فى معاونة إيران للالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة عليها.
والحال كذلك لا تزال الدوحة مصممة على التمسك بتقاليدها الخاصة بتوفير ملاذ للإرهابيين، ولم تتوقف الجزيرة عن تحريضها السافر ورسالتها المضللة والداعمة للإسلام السياسى بل ووجدت بيئة إعلامية معززة لذلك فى تركيا حليفها الأكبر، والقليل الذى غادر الدوحة من الإرهابيين والمتطرفين تستضيفه إسطنبول. وكانت قطر قد تحفظت فى 23 يونيو الماضى على قرار المجلس الوزارى لجامعة الدول العربية رقم 8523 حول التطورات فى ليبيا، فيما يتعلق بالبند الخاص بضرورة طرد المرتزقة وتفكيك الميليشيات وتسليم أسلحتها، مطالبةً بحذفها، وحذف بند يرحب بإعلان القاهرة. وبحكم التغلغل التركى فيها بأموال قطر، تبنت الصومال الموقف ذاته، بل والاعتراض على دعوة القرار لسحب القوات الأجنبية من ليبيا. وكما فعلت عام 2018، قدمت الدوحة نحو 15 مليار دولار لتركيا خلال الأسابيع الماضية لوقف تدهور سعر صرف الليرة التركية. وسبق ذلك توقيع اتفاق تعاون أمنى استراتيجى عام 2014 أعطى أنقرة قاعدة عسكرية فى قطر. وفى 7 يونيو 2017، أى بعد فرض المقاطعة بيومين صدَق البرلمان التركى على اتفاقيتين للسماح بعمليات عسكرية مشتركة مع قطر ونشر قوات تركية فيها. وذهب عشق تميم لأردوغان إلى حد إهدائه طائرة بوينج 747ــ8 بجانب استثمارات ضخمة فى قطاع الصناعات الدفاعية التركية الذى يهيمن عليه عناصر من أسرة أردوغان.
***
وحتى الآن تموّل قطر الميليشيات المسلحة فى ليبيا امتدادا لدورها فى الأزمة منذ عام 2011 عندما استغلت الوضع الإقليمى آنذاك وكانت شريكة رئيسية فى تأزيمه من أجل لعب دور متزايد فى الانتفاضات بدءا بتقديم نفسها كقيادة إقليمية تتجاوب مع الأزمات فى العالم العربى، معترفةً بمشروعية هذه الثورات ومقدمةً نفسها للغرب كبطل للانتفاضات الشعبية فى شمال إفريقيا، ولاحقا كلاعب خارجى رئيس فى الحرب الأهلية فى سوريا.
وجاءت ردود الفعل القطرية على ثورات الربيع العربى امتدادا لسياسة قطر منذ انقلاب عام 1995 عندما قامت بترسيخ علاقاتها بالإخوان المسلمين ومد يدها إليهم بالدعم شريطة عدم التدخل فى الشأن القطرى، ونوعت روابطها بالفروع الإقليمية للحركة. وجاء سقوط نظام القذافى، ومن قبله مبارك، ليمثل منصةً آمنة لعبت عليها قطر دور القوة التى تدافع عن أهداف تتفق والقيم الغربية، كما وفرت انتفاضة سوريا فرصة مماثلة للدوحة. وفى الحالتين كان التحول من الوساطة فى النزاعات إلى الدفاع عن التدخل والتآمر ممارسة طبيعية فى السياسة القطرية، وذلك من خلال استغلال الأحداث لصالحها وسرعة اتخاذ القرار دون قيود داخلية مستفيدة فى ذلك من ثروة هائلة. وكانت قطر بمثابة حلقة وصل بين قادة الميليشيات والتمرد ضد القذافى وحلف شمال الأطلنطى. كما بذلت جهودا لا يستهان بها فى توحيد هؤلاء فى قوة واحدة وقادتهم فى الهجوم النهائى على مقر القذافى فى طرابلس. ووفقا لأحد كبار العسكريين الأمريكيين المتقاعدين، «على حين كانت الولايات المتحدة تقود من الخلف فى ليبيا، كان القطريون يتقدمون الصفوف».
وقد توسعت قطر فى تمويلها للإرهاب مؤخرا، حيث أثار إطلاق سراح موظفة الإغاثة الإيطالية، سيلفيا رومانو الشهر الماضى من قبضة جماعة وثيقة الصلة بحركة «الشباب» الصومالية، علامات استفهام كبرى حول الدور القطرى فى تمويل الإرهاب. ورغم محاولة الدوحة موضعة نفسها جزءا من جهود الإفراج عن الموظفة، إلا أن الواقع يقول إنها تمتلك علاقات وثيقة بالحركة تستخدمها لتمويلها وجنى ثمار سياسية، وذلك حسبما أشار عبدالله محمد المدير السابق للاستخبارات الصومالية لفضائية العربية، حيث ترتب قطر دفع الفدية للحركة بعد اختطافها رهائن غربيين منذ سنوات ولا يجب نسيان أن مدفوعات الفدية ظلت جزءا مهما من تمويل القاعدة لسنوات، كما شاركت قطر فى الممارسة ذاتها لجبهة النصرة. وقد تقدم أحد الرهائن الأمريكيين الذى أفرجت عنه جبهة النصرة مؤخرا، بدعوى قضائية ضد بنك قطر الإسلامى لتسهيله تمويل الإرهاب. ويقدر الكاتب جورج ما لبرونو المتخصص فى قضايا الشرق الأوسط أن الدوحة دفعت ما يزيد على 100 مليون دولار للإرهابيين كفدية فقط، وأنها باتت «البقرة الحلوب» التى تحتاجها الجماعات الإرهابية لتمويل أنشطتها بيسر. ومن الثابت فى هذا السياق أن قطر كانت اللاعب الأساسى لصفقة فدية ضخمة عام 2017 شملت توجيه نحو مليار دولار إلى كلٍ من جبهة النصرة ومتطرفين سنَة متحالفين معها من جهة، وميليشيات شيعية تسيطر عليها إيران من جهةٍ أخرى.
***
والسؤال الذى يطرح نفسه هو: كيف أمكن لقطر الصمود أمام تدابير المقاطعة والاستمرار فى ممارساتها فى تمويل ودعم الإرهاب وتبنى أجندة تنطوى على تهديد خطير للأمن القومى العربي؟ لا شك أن سياسة الإدارة الأمريكية وبعض الدول الغربية بجانب كل من تركيا وإيران، هى التى ساعدت قطر على الصمود بل والتمادى فى سياستها التخريبية. فقد وفرت واشنطن للدوحة مخرجا للتشكيك فى الاتهام الرئيسى الموجه إليها بتمويل الإرهاب، عندما وقعت معها، فى 11 يوليو 2017، مذكرة تفاهم «لمحاربة تمويل الإرهاب»، وسبق هذه الخطوة توقيع وزير الخارجية القطرى مع وزير الدفاع الأمريكى السابق ماتيس صفقة شراء طائرات F ــ15 بقيمة 12 مليار دولار، كجزء من صفقة أكبر بقيمة 21 مليار دولار اتفق عليها فى نوفمبر2016. وكان ماتيس أكثر المسئولين الأمريكيين نشاطا وهمَة فى العمل على احتواء تداعيات المقاطعة التى اعتبرها «صدمة» حسبما ذكر أحد الضباط المقربين منه.
وهكذا، وأمام سخاء الدولة الصغيرة وفساد النخبة السياسية فى واشنطن ومصالحها، اتخذت هذه الأخيرة المزيد من الخطوات الداعمة للقيادة القطرية، بدأت بالإعلان عن بدء حوار استراتيجى أمريكي/ قطرى فى 30 يناير 2018 فى واشنطن، كما استقبل ترامب تميم ثلاث مرات إحداها فى 19 سبتمبر 2017 على هامش الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، والثانية فى زيارة رسمية لواشنطن فى 10 إبريل 2018 أشاد فيها ترامب بدور قطر فى مكافحة تمويل الإرهاب، والثالثة فى يوليو 2019 غرد ترامب بمناسبتها: «بعد عشاء رائع فى وزارة الخزانة مساء الاثنين مع أمير دولة قطر، كان لى شرف استقبال الأمير من جديد فى البيت الأبيض».
والحال على ما تقدم، من الطبيعى ألاَ تكون الولايات المتحدة مؤهلة للقيام بدور الوساطة، بفرض أنها صادقة النوايا فى مسعى كهذا أصلا. ويقترب الموقف البريطانى من الموقف الأمريكى، حيث زار بوريس جونسون قطر عام 2017 عندما كان وزيرا للخارجية ضمن جولة شملت الكويت أيضا، بعد فرض المقاطعة. ويعتبر البريطانيون قطر أداة دعم رئيسية لاقتصادهم عامةً ولمدينة لندن خاصةً ارتباطا بسوق العقارات فيها.
ولا يجب تجاهل التعاون الوثيق بين تركيا وإيران وقطر، وهو ما ساعد الأخيرة فى إنشاء منافذ وموانئ خاصة بها مكَنتها من التعايش مع الواقع الذى فرضته المقاطعة وامتصاص تداعياتها. وكان من بين ما اهتمت به فى حركتها الخارجية القارة الأفريقية متبنية فى ذلك أجندة تركية فى المقام الأول سعيا إلى ضرب المصالح المصرية أينما وجدت، لاسيما فى منطقة القرن الإفريقى وبخاصة إثيوبيا والسودان فى عهد البشير.
والخلاصة أنه على خلاف ما تحاول قطر تسويقه بأنه دبلوماسية نشطة نجحت معها فى كسر مقاطعة الدول الأربع، فإن أيديولوجية هذه الدولة وتوظيفها ثروتها الهائلة لخدمة مغامرات ومصالح دول إقليمية غير عربية وأخرى كبرى، هو الذى غلب فى النهاية، رغم ما يحمله ذلك من مخاطر جدية على الأمن القومى القطرى على المدى الطويل. وتجُسِد أزمة قطر بوضوح مأزق النظام العربى وتفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول تداعيات اتساع هوة عدم الثقة فيما بين النظم العربية والصعوبات المرتبطة بعدم وجود آليات كفيلة بجسر هذه الهوة، بما يقلص من فرص لجوء بعض هذه النظم أو حتى الفاعلين من غير الدول فيها إلى قوى إقليمية غير عربية طلبا للحماية، على حساب أمن واستقرار الإقليم والمصالح المشتركة لدوله. وفضلا عن ذلك وبحساب العائد والتكلفة، هل تقتضى الواقعية من الدول الأربع إعادة تقييم الموقف برمته بما يخلق نوعا من الرَدع للدوحة؟، وهل هذا ممكنٌ؟، وهل من المجدى الدخول فى مثل هذه التحالفات ابتداءً، خاصةً وأن الأزمة مع هذه الدولة الصغيرة لم تخدم سوى تركيا أولا وأخيرا؟.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved