أفتقدك أيها الحظر

كريم البكري
كريم البكري

آخر تحديث: الجمعة 31 يوليه 2020 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

27 يونيه 2020.. التاريخ الذي تطلع إليه المصريون على مدار ثلاثة أشهر من الإجراءات الاحترازية التي شملت تطبيق حظر تجول كان الأول من نوعه، فهو لم يكن جرّاء أحداث شغب أو مشكلات سياسية أو تظاهرات ميدانية، ولكنه خطوة لتقليل الزحام والتكدس والاحتكاك في مواجهة جائحة كورونا.

كنت أستمع لكلمات رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في مؤتمره الصحفي، وبشكل لا إرادي تخيلت صيحات الجماهير التي تهلل خلفه عقب الإعلان عن إعادة فتح المقاهي والمطاعم، وكأني شعرت باهتزاز ملعب كرة قدم فرحا بهدف قاتل للأهلي بعد الدقيقة 90، ثم تكللت السعادة بتصريحات المتحدث باسم الحكومة حول إلغاء حظر التجول تماما منذ 27 يونيه 2020.
انقسمت الآراء حول قرارات الحكومة، بين مؤيد لها سئم المنزل واشتاق لحياة الزخم والزحام والضجيج وأصوات أبواق السيارات واحتواء المقهى وأحاديث الأصدقاء، ومُعارِض يخشى عدم الالتزام بالإجراءات الوقائية؛ والغوص في رمال كورونا المتحركة.
ولكن مع احترامي لوجاهة الرأيين السابقين، أزمتي لم تكن كذلك.. أنا فقط سأفتقد الحظر وسماه ونجومه وقمره وسهره.. أفتقدك أيها الحظر.

*****

كوني أعشق المنزل أو كما يصفني البعض «بيتوتي»، ليس هو السبب في اشتياقي لحظر التجول، فهذا الإجراء الاستثنائي الذي انتزع من القاهرة لقب «الساهرة» وأجبر المواطنين على البقاء في منازلهم كان له جانب إيجابي - من وجهة نظري -.
تابعت هاشتاج «صورتك وأنت في المطبخ» الذي امتلأ بصور الرجال وهم يستعرضون مهاراتهم في الطهي أو غسيل الأطباق أو الأعمال المنزلية الأخرى، ليكتشف فجأة الرجل أنه مُقصر في حق تلك الأنثى أُمًا كانت أو زوجة.
كما أن حظر التجول، أعطى العائلات فرصة لتوطيد علاقات أفرادها، بعدما بات كل شخص يهرب إلى عالمه الخاص ولا يُعطي التجمع العائلي حقه؛ فهناك من يُلقي بذاته إلى شاشات التلفزيون، بينما الشباب -وبعض الكبار أيضًا- باتوا لا يتخلون عن هواتفهم المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن السهر خارج المنزل في المقاهي والكافيهات والمطاعم، حتى أصبح -للأسف- أفراد العائلة غرباء في بيت واحد.
لكل زمان دولة ورجال، وكل جيل له عاداته التي لا يجب أن نزايد عليها، ولكن فضيلة التجمع العائلي تلاشت واختفت بسبب وتيرة الحياة السريعة، وعدم المرونة الفكرية بين الآباء والأبناء؛ فكلي أمل أن تكون فترة الحظر قد قرّبت من وجهات النظر، وأعادت أواصر الترابط التي فككتها السوشيال ميديا وأعباء الحياة.

******

كذلك أيضًا تزينت السماء بالطائرات الورقية التي حقًا لم أرها منذ أكثر من 20 عاما؛ حتى كادت تُطمس تماما وتتحول إلى قصة خالدة في الأرشيف المصري، بعدما كانت أحد أهم وسائل الترفيه التي يتبارى فيها الشباب.
فبناء طائرة ورقية أمر ليس بالهيّن، بل كان يتطلب خطة وإعداد ومصاريف حتى يتحول الخرازان والخوص والأوراق البلاستيكية إلى هذا الشكل الجمالي، ثم تأتي مرحلة الطيران ليتحول ماسك الخيط إلى «كابتن طيار» يقود طائرته ويحلّق بها ويبذل مجهودًا مميزًا في تحريكها، ثم يبذل مجهودًا في الدفاع عنها تجاه أي عدوان مفاجئ من طائرة أكبر حجمًا.
شكرًا أيها الحظر الذي أعاد الطائرات الورقية للذاكرة ثم للسماء، كما أعاد الحياة لعادات كنا نظنها اختفت، وأعاد الشباب إلى التريض في الشوارع بالمشي أو الركض أو ركوب الدراجات.

*****

أجد نفسي من المحظوظين الذين سمحت لهم مهنتهم بالسير في أوقات حظر التجوال الرسمية؛ فأنا واحد من الذين شاهدوا القاهرة كما لم يعرفوها من قبل -أتحدث بالطبع عن الشوارع والمحاور الرئيسية- وجدت نظافة وهدوءا، واستنشقت الهواء العليل، واستمتعت بالقاهرة الساهرة بدون ساهرين.
وبالحوار مع أحد أصدقائي الإسكندرانية، أكد إعجابه بعروس البحر المتوسط التي رأيناها عروسا حقا في شم النسيم الماضي -الذي أغلقت فيه الدولة الشواطئ- وكان بحرها أزرقا صافيا مبهجا يستمتع بتلك الهدنة من التلوث وسوء الاستخدام.
سألت نفسي: لماذا لا تبقى الحياة هكذا؟ تغلق المِحال مبكرًا، وتسير السيارات في أوقات محدودة، ونستمتع بالبحر وفقا لضوابط مشددة؟ فالمدن الساهرة أيضًا لها الحق في النوم قليلا.
في هذا الصدد، قال وزير الدولة لشؤون الإعلام أسامة هيكل، إن الحكومة تبحث مقترحا باستمرار الغلق المبكر بعد أزمة كورونا، وربما قرأت تقريرا يرصد أحد القوانين الألمانية التي تنظم عمليات الفتح والإغلاق؛ تنظيما للحياة وتوفيرا للكهرباء وتمكنينا للدولة للقيام بأعمال الصيانة المختلفة في فترات المساء.

وزارة العدل الاتحادية بالتعاون مع جمعية حماية المستهلك في ألمانيا وضعت القواعد التالية:
1. تبقى المحلات كافة مغلقة يوم الأحد وفي كل أيام العطل الرسمية.
2. تُمنع المحلات (في أيام العمل العادية وبضمنها السبت) من الفتح قبل الساعة السادسة صباحا، وتمنع من استمرار الفتح بعد الساعة الثامنة ليلاً.
أما الصيدليات، فهناك جداول خفارة معلنة لأيام العطل، وبعض الصيدليات تتقاضى أسعار دواء مضاعفة في أيام العطل. أما عيادات الأطباء فتغلق بالكامل، لكنّ المستشفيات تبقى عاملة وتستقبل الطوارئ كيفما كانت وحسب التخصصات.
محطات تعبئة الوقود تفتح لمدة أربع وعشرين ساعة سبعة أيام في الأسبوع، أما منافذ البيع والمطاعم ومحلات الخدمات في المطارات وفي مدن السياحة، فلها قوانينها الخاصة بتوقيتات الفتح والاغلاق.

وحاليا أتمنى تعميم التجربة بمصرنا.. ولا أجد ظرفًا أنسب من هذا الظرف ليخفف الزحام والضغط البشري عن كاهل المدينة، ولا مانع من السماح لبعض المنشآت والمحال بالسهر والإغلاق المتأخر ولكن وفقا لضوابط وقوانين وضرائب وتصاريح معينة.

*****

في ليلة جليدية على سواحل فنلندا من عام 2010 اجتمع خبراء التسويق في مطعم لدراسة خرائط تحويل مكان بعيد ومتوسط المساحة إلى وجهة سياحية شهيرة على مستوى العالم، التحدي الذي كانوا يواجهونه هو أن فنلندا تُعرف بهدوئها، ولكن التحدي الأكبر الذي وقف في طريقهم هو إيجاد أي مصدر للضوضاء؛ نظرًا لأنها قد تُنعش المدينة وتجذب السياحة، ولكن حبل الأفكار كان يلتف حول أعناق الخبراء باحثين عن ميزة، حتى علق أحدهم: "الهدوء، لا يبدو الهدوء سيئا". وهذا ما دفعهم للتفكير قليلا.
وبالفعل باتت فنلندا تسوق لسياحتها بأنها المكان الأهدأ ذو الهواء الأنقى، ووفقا لدراسة حديثة أجرتها منظمة الصحة العالمية، تعد لابلاند الفنلدنية واحدة من أفضل وأنقى المدن هواء في العالم.

*****

تقول متسلقة الجبال الأمريكية سامانثا لارسون: «الأماكن الهادئة لا تعني خُلوها تماما من الصوت، قد يكون هناك تغريد للعصافير وحفيف للشجر وخرير للماء، ولكنها الضرورة القصوى من الأصوات؛ لافتقارها تماما أي ضوضاء صنعها الإنسان».

ربما أكون شخصا انطوائيا يعشق الهدوء والعزلة ويكره الصخب، ولن أشغلك عزيزي القارئ بمئات الدراسات التي أكدت التأثير السلبي للضجيج والصخب على المخ والصحة النفسية ومعدلات الإنجاز، ولكن حتى إذا كنت انطوائيا.. فالكاتبة الأمريكية سوزان كين، تقول في أحد مؤلفاتها إن ثلث العالم يتشكل من الانطوائيين أساسا، وثلثي العالم المتبقي هم أصحاب الحياة الجامحة، والتي يعيشونها على حساب ثلث العالم الانطوائي. حيثُ إن المنفتحين فرضوا طريقة حياتهم الصاخبة كأسلوب حياة عام، كطرق اختيار الموظفين وإدارة الشركات. وتحت هذه المعايير، أصبح النجاح حليف كل منفتح منطلق اجتماعيا فقط، وبات الانطوائي الهادئ يُعامل معاملة المريض الذي يجب أن يُعالج ليصبح منفتحا ناجحا!

فلنتطلع إلى الهدوء الذي أصبح سلعة نادرة؛ حتمًا سيحتاج لها الناس هربا من الضجيج ونمط الحياة المتسارع التي بات يحول بين الفرد وذاته وإبداعه اللامحدود.

لذلك أفتقدك وبشدة أيها الحظر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved