الدولة والمرور

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 31 أغسطس 2014 - 11:54 ص بتوقيت القاهرة

الدولة، بدءا برئيس الجمهورية مرورا برئيس الوزراء ووصولا إلى المحافظين ومن هم دونهم، عبّرت مؤخرا وبشكل متكرر عن انشغالها بمسألة المرور فى مصر. فى بلدان عربية شقيقة، يطلق على «المرور» «السير»، فيسأل السائلون عن حالة «السير» فى ساعة ما فى هذه المدينة أو تلك. لفظة «السير» تعبّر عن المراد وهو الانتقال بين نقاط فى المدينة أو البلد المعنية ونقاط أخرى فيهما، على الأقدام أو بمركبات تسير.

قد يندهش غير المصريين وبعض المصريين من انشغال الدولة على أعلى مستوياتها بمسألة المرور ولكن حسنا تفعل الدولة بهذا الانشغال. فى مصر، كما فى جميع البلدان الأخرى، مبان سكنية وإدارية، ومزارع، ومصانع، وجامعات، ومدارس، وأسواق، وغيرها، ولكن كل هذه النقاط لا تكوّن كلا واحدا، سواء كان هذا الكل مصر، أو أى بلد أخرى، إلا إذا كانت هذه النقاط متصلة ببعضها البعض، عن طريق «السير» بين نقطة وأخرى أو عبر الاتصالات السلكية واللاسلكية. «المرور» هو بمثابة الدورة الدموية التى تربط بين أعضاء الجسد الواحد، إن تباطأت الدورة الدموية أو عاقتها جلطات أصبح الجسد عليلا لا يقوى على الاضطلاع بوظائفه ويستحيل عليه تنفيذ ما يتطلع إليه. لا غرابة فى أن واحدة من أولى وظائف الدولة هى التخلص من قطاع الطرق. اختناقات المرور هى جلطات وهى بمثابة قطع للطرق فى آثارها على أرواح الناس ومصالحهم.

•••

المرور فى مصر فوضى عارمة. المؤشرات على آثار هذه الفوضى على حياة المواطنين وعلى الاقتصاد عديدة. دراسات حديثة تشير إلى أن عدد القتلى فى حوادث المرور سنويا يناهز العشرة آلاف، وأن معدل القتلى إلى كل مائة ألف من المركبات يصل إلى 183.3 بينما يبلغ هذا المعدّل فى الدول العربية 133.8 فى الأردن، و132.6 فى تونس، و103 فى السعودية، و22.8 فى الكويت، وهو لا يتعدّى 31.4 فى ماليزيا، و24.7 فى الأرجنتين، و8.5 فى فرنسا، و5.8 فى شيلى، و5.7 فى الدانمارك. كيف لا تنشغل الدولة المصرية بالمرور بينما الوظيفة الأولى على الإطلاق للدولة هى الحفاظ على حياة المواطنين وممتلكاتهم. الاختناقات المرورية فى القاهرة تقدّر الخسائر من ورائها بـ47 مليار جنيه، أى ما يعادل 4 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى المصرى، بينما لا تؤدى الاختناقات فى جاكرتا إلا لخسارة 0.7 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى الأندونيسى. الخسارة توزع على الوقت الضائع على المواطنين وعلى النشاط الاقتصادى، وعلى التأخير، وعلى نفقات العلاج من آثار حوادث ومن أمراض مرتبطة بالمرور.

•••

المسألة خطيرة والبدء فى التصدى لها واجب. خطورة المسألة تستدعى تصديا جادا أولى خطواته هو تحليل المسألة من كل جوانبها وإدراك أن التصدى لابدّ أن يكون مركّبا وأن تكون خطته متعددة السنوات وعلى مراحل. القول بأن مسألة المرور فى مصر تحلّ فى مائة يوم، كما قال من قال يوما، أو فى حتى فى سنة واحدة هزل واستهتار، بل إن فيه عدم احترام للمواطنين ولمداركهم. لم تبق قاعدة واحدة من قواعد المرور محترمة فى مصر. أول أدوية العلاج هو أن تيسّر الدولة احترام قواعد السير. الخروج على قواعد تخطيط السير فى المدن وإعطاء المسئولية عنه لغير مهندسى الطرق من أهم أسباب الفوضى وضرب عرض الحائط بالقواعد غير المعقولة وغير المسبوقة التى يصممونها. تدريب السائقين واختبارهم ومراقبة الالتزام بقواعد السير كلها غائبة ولابدّ من تفعيلها بجدية. ومع ذلك، ومثلما هى الحال فى المسائل الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، فإن القواعد المتعلقة بالمرور وحدها لن تكون كافية.

خذ سياسة النقل. كيف يمكن فى بلد بصغر المساحة الفعلية لمصر أن تكون نسبة هائلة من النقل فيه عن طريق البر وأن يتخلّى عن النقل النهرى وعن النقل بالسكك الحديدية بدلا من أن يتوسع فيهما؟

السياسة العمرانية والعقارية، وقوانين البناء والتلاعب فيها، مسئولة مسئولية مباشرة عن مسألة المرور. كيف يمكن أن تتوقع انسيابا للمرور فى منطقة كانت مصممة شوارعها ليعيش فيها مائة ألف ساكن، فتتغير شروط البناء ليعيش فيها نصف المليون فى مبان بدون جراجات؟ كيف للدولة أن تصرّح بتشييد بناء إدارى عملاق فى ميدان صغير؟ منذ القرن التاسع عشر تنبه مفكرون إلى أن السياسة العقارية والعمرانية فى قلب السياسة، لأن فيها توليدا وتوزيعا للقيم، وبالتالى فإن المرور فى قلب السياسة والاقتصاد أيضا.

خذ الاقتصاد غير المنظم والباعة الجائلين الناشطين فيه. الباعة الجائلون يعرقلون السير. ولكن لماذا يوجد باعة جائلون أصلا؟ أليس لأنه لا يوجد لهم عمل منظم فى الاقتصاد الحديث، من جانب، ولعدم قدرتهم على الوفاء بإيجارات المحال، من جانب آخر؟ ألا يوجد الباعة الجائلون أصلا لأن لهم سوقا من أولئك المواطنين الفقراء غير القادرين على الشراء من المحال المرخّصة؟ عالج الاحتياجات الاقتصادية للباعة الجائلين ولزبائنهم، تكون قد أسهمت أيضا فى التصدى لمسألة المرور.

ولابد أن تكون مبتكرا فى التعامل مع مسألة المرور فى مدينة كالقاهرة أو فى أى مدينة مصرية أخرى. وسائط النقل متعددة من مركبات ميكانيكية إلى وسائط الجرّ البشرى، من عربات يدّ، أو حيوانى، من عربات «كارّو». هذه الوسائط ذات السرعات المتباينة تكشف عن مرحلة فى التنمية تتجاور فيها وسائل الإنتاج المنتمية لحقب مختلفة فى التاريخ. تقدم فى التعامل بفاعلية مع التنمية تكون قد أسهمت إسهاما هائلا فى علاج مسألة المرور. ليس من قبيل المصادفة أن أقل معدلات الوفيات نتيجة لحوادث الطريق توجد فى البلدان المتقدمة.

والفقر. أليس الفقر الذى يحول دون أن يجدد الناس مركباتهم أو أن يصلحوها فتتعطّل لتصبح جلطات فى أوعية السير؟ أليس هو السبب فى أن يترك الناس مركباتهم تلوث البيئة وصحتهم هم وصحة غيرهم من المواطنين؟ ابدأ فى المعالجة التدريجية والفعالة للفقر تكون قد شاركت فى إيجاد حل لمسألة المرور.

•••

الهدف من وجود الدولة هو أن تنظم للمواطنين حياتهم وأن تيسرّها. تقصّر الدولة فى أداء وظائفها، وهذا التقصير يؤخذ على نظامها السياسى أساسا، إن هى لم تبدأ فورا فى معالجة مسألة المرور فى مصر. غير أن العلاج الفعلى والفعال يحتاج إلى انفتاح، وإلى التسليم بتعقد المسألة وبطابعها المركب، وإلى أن يعهد بالأمر إلى الخبراء الهندسيين، والاجتماعيين، والاقتصاديين، الذين يكمل عملهم بعد ذلك الساهرون على تطبيق القواعد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved