قمة العشرين صينية واقتصادية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 31 أغسطس 2016 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

حل بالصين سكون غريب. سكون غير مألوف لمن يعرف عن الصين الكثير أو القليل. رحت أنقب عن أسباب أكثر أو أقوى من مجرد اضطرابات اجتماعية أو عمليات تطهير سياسى أو حرب جديدة ضد فساد يصر على أن لا يغادر أو يقهر. هذه التطورات ليست غريبة عن المجمتع الصينى المعروف منذ القدم بولعه بالأصوات الزاعقة والاحتفالات الصاخبة. كنت مقتنعا فى مرحلة معينة بأننى لو كنت حاكما على الصينيين لخشيت على نظام حكمى واستقرار بلدى إذا عم السكون وهدأت الأصوات. أود أن أبالغ بعض الشىء فأجازف بالقول إن أغلب من سمعت أو قرأت عنهم من حكام الصين فى تاريخها الممتد فكروا فى إثارة بعض الفوضى أو المظاهرات والاضطرابات فى كل مرة تجاوز الهدوء المدة المتوقعة وركن الناس والبيروقراطية وحكومات الأقاليم والمؤسسات عموما إلى السكون.

سكون هذه المرة بعيد عن الغموض، وأبعد منه رد فعل الحكام. الصين حكومة وبيروقراطيون ونقابات وجامعات ومراكز بحث منشغلة بالاستعداد لانعقاد القمة العشرين. تابعت، أحيانا عن بعد وكثيرا عن قرب، معظم القمم السابقة، واستطيع أن أقرر باطمئنان أنه لم يحدث أن بذلت دول مضيفة للقمة ما بذلته الصين خلال الشهور الماضية من جهود وأموال وتعبئة جماهيرية وما استعدت به من دراسات وأوراق عمل. شكلت الصين على امتداد العام المنصرم ورش عمل متعددة الأطراف، وأقامت ندوات ومؤتمرات علمية ودعت لزيارتها علماء من مختلف الدول، يعرضون ابتكاراتهم العلمية وحلولهم لمشكلات الاقتصاد والمجتمع فى دولهم وفى العالم ككل.

حددت الصين بالتشاور مع خبراء أجانب، عشرة أهداف للقمة التى تنعقد لأول مرة فى دولة نامية، بمعنى آخر انتهى زمن تسليم قيادة العالم للأغنى والأقوى. أصبح من حق «أكبر دولة نامية فى العالم وربما فى التاريخ الحديث» عقد مؤتمر تحت قيادتها تحضره أغنى الدول وأقواها، تضع الدولة النامية جدول أعماله وتحدد أهدافه العشرة، وتختار عنوانين لعمل القمة، أولهما أجندة التنمية المستدامة 2030 وثانيهما التنمية طريق النمو. تريد الصين التأكيد مجددا على أن النمو فى حد ذاته ليس ولا يجب أن يكون الشغل الشاغل للبشرية، الشغل الشاغل يجب أن يكون التنمية، فالتنمية هى الهدف وهى الطريق فى الوقت ذاته.

***

ينبع اهتمامى بهذه القمة تحديدا من اعتبارات لا تقع مباشرة تحت عناوين الاستعداد للقمة ووضع الترتيبات التى تضمن نجاحها. أتصور أن المسئولين الصينيين ما كانوا يتطوعون أو يقبلون استضافتها لو لم يكونوا هم أنفسهم تحت ضغط شديد من الوضع الدولى المحيط بالصين وبغيرها من الدول الصاعدة. أتفق مع رأى أعرب عنه أستاذ بمعهد الدراسات الصينية فى نيودلهى فى شهر مايو من العام الماضى. جاء فى هذا الرأى السليم أن العالم يعيش مرحلة تداخلت فيها أربعة عناصر تشكل فى مجموعها وتمازجها البيئة التى نتحرك فيها وقد نبقى أسرى لها لمدة طويلة قادمة. أما العناصر فهى بالترتيب؛ أولا: أزمة اقتصادية عالمية نشبت فى عام 2007 ولم تغادرنا تماما، ولكنها الأزمة التى تركت الولايات المتحدة فى وضع اقتصادى صعب، وبالتالى غير مناسب لطموحات الصين التجارية.

ثانيا: رخاوة سياسية واقتصادية تتصف بها معظم دول العالم وبخاصة الدول الكبرى، وأظن أننى عبرت عن هذه الحالة فى مقال سابق حين وصفت الدول الكبرى بضعف لم تكن تتصف به من قبل.

ثالثا: هى أن «الدولة» فى الوقت الراهن على الأقل لم تعد تحتكر وسائل العنف والحق فى استخدامه. هناك فى كل مكان تنتشر جماعات ومنظمات تمتلك وسائل عنف مثل تلك التى تمتلكها الدولة وكانت تزعم لنفسها الحق فى احتكارها. لم تعد الدولة ركن الأساس فى هياكل النظام الدولى.

رابعا: السرعة الهائلة التى تتجدد بها التكنولوجيات الحديثة، هذه السرعة قد تمثل دافعا للإسراع فى التنمية ولكنها فى الوقت نفسه قد تشكل عائق تنمية. فالتكلفة المرتفعة لعمليات التحول نحو استخدام هذه التكنولوجيات تعقد فرص التنمية السريعة وتثقل على كاهل برامج التعليم.

***

أضيف من جانبى عنصرا خامسا إلى العناصر التى تتكون منها البيئة الحاضنة للتنمية المستدامة وحتى 2030، هو حال عدم الاستقرار وعمق التحولات الجيواستراتيجية التى تخض عالمنا وأقاليمنا ومجتمعاتنا خضا شديدا. النظرة السريعة إلى الواقع الراهن فى الشرق الأوسط يكشف عن حجم التحديات التى تواجه خطط التنمية فى الإقليم فى ظل بيئة يغلب عليها التوتر الشديد وعدم الاستقرار وتصورات غامضة أو متشائمة عن المستقبل.

أتوقف طويلا عند هذا العنصر لاعتقادى أنه الأقوى حسما عند الضرورة من أى عنصر آخر. نعلم أن ربع القرن الأخير شهد أهم وأعمق وأسرع عملية إعادة توزيع للثورة العالمية فى تاريخ البشرية، وأن هذه العملية اكتسبت زخما كبيرا فى أعقاب أزمة 2007. نلاحظ مثلا أن خلال هذه الفترة القصيرة انتقلت الصين من اقتصاد يكاد لا يصل إلى ما نسبته ثمن الاقتصاد الأمريكى إلى اقتصاد يكاد يساوى حجم الاقتصاد الأمريكى بحساب القوة الشرائية. نلاحظ تحولا آخر وإن أقل إثارة فى الهند.

هو العنصر الأقوى حسما عند اللزوم إذا وضعنا فى الاعتبار، وبخاصة الاعتبار الصينى، مبلغ الخطر الذى يجسده الاندفاع الروسى بقيادة فلاديمير بوتين لتعويض ما فاته وفات روسيا خلال سنوات الضياع فى أواخر العهد السوفييتى وأوائل العهد البوتينى. قد يبدو للبعض هنا فى الشرق الأوسط أن فى الحديث عن خطورة التمدد الروسى الجديد مبالغة وهو ليس كذلك على كل حال، وكذلك بالنسبة لدولة كبرى صاعدة كالصين فالأمر لا شك يثير القلق وبالتالى يؤثر بقوة فى عملية البناء وإثبات الحق فى دور ومكان فى النظام الدولى فضلا عنه يذكر الحكام الصينيين بنزاعات حدودية وخلافات قوية فى أعقاب إعلان قيام الدولة الشيوعية الصينية فى نهاية الأربعينيات وعلى طول الخمسينيات. هناك أيضا الاحتمال المتزايد بأن تكون الدول الكبرى قررت جميعها أن تتفادى الحروب الثنائية المباشرة فى سباقاتها نحو النفوذ وإعادة رسم توازن جديد للقوة، ولذلك فالأمر الغالب هو أن تركز تنافسها وسباقاتها فى أقاليم الهوامش، إن صح التعبير. لدينا نماذج مبهرة على هذه الحروب غير المباشرة فى الشرق الأوسط وفى بحر الصين الجنوبى وأفغانستان وأوكرانيا. لا أريد أن أتنبأ لأوكرانيا بمصير كمصير العراق وأفغانستان وسوريا واليمن وليبيا، فكلها أزمات أو حروب وكالة تكاد تنطبق عليها صفة «الاستدامة» أو الأزمات المفتوحة، إما بسبب استحالة نشوب حروب ثنائية مباشرة بين القوى الكبرى لكونها بالفعل دولا ضعيفة وفاقدة الثقة فى قدراتها وإمكاناتها أو لأسباب أخرى تتعلق باختلال ميزان القوى الدولية وصعود القوى والتنظيمات المسلحة غير الخاضعة لقواعد النظام الدولى. يجب أن أضيف هنا الأثر المهم الذى نتج عن انحسار أنظمة الأمن الجماعى والدفاع المشترك. الصين، وإلى حد ما مصر، تشعران أكثر من دول كثيرة بهذا الأثر على سياستهما الخارجية وبخاصة على علاقاتهما الإقليمية. هنا أيضا لا يفوتنى أن أشير إلى السرعة الهائلة فى تطور التكنولوجيات الحديثة التى تجعل الدول تتهرب من المواجهات المسلحة المباشرة وتستعيض عنها بتصعيد أو المحافظة على الأزمات الإقليمية فى مناطق الهوامش ذات البعد الاستراتيجى مثل كوريا الشمالية وأفغانستان وسوريا والعراق.

***

أتصور أنه فى ظل هكذا صعوبات وتحديات سوف تصر الدولة المضيفة على استبعاد أى محاولة لجر المؤتمر لمناقشة قضايا أو صراعات سياسية. الصين فى حاجة ماسة ليعود النشاط التجارى الدولى إلى سابق عهده، وأن يسترد الاقتصاد الأمريكى عافيته وأن تبقى الممرات المائية الدولية مفتوحة. الصين فى ظروفها الراهنة لن تهتم كثيرا بأزمة فى الشرق الأوسط أو بتحالفات تنشأ فيه ولا بحروبه الأهلية. تتمنى الصين، على الأقل خلال قمة العشرين، أن ينصب الاهتمام على الاقتصاد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved