التعبير بدلا من التغيير

سامح فوزي
سامح فوزي

آخر تحديث: السبت 31 أكتوبر 2009 - 9:29 ص بتوقيت القاهرة

 زادت وتيرة الحديث عن الانتخابات الرئاسية، متزامنا مع حديث آخر عن ترتيبات انتقالية مقترحة للانتقال الرئاسى، من عهد الرئيس مبارك الذى أمضى فى الحكم نحو ثمانية وعشرين عاما إلى عهد آخر يستند إلى دستور جديد. طرحت أسماء لمجلس المرحلة الانتقالية، وطرحت أسماء للترشح لانتخابات الرئاسة عام 2011، قد لا تختلف كثيرا فى الحالتين، لكن مجمل المشهد يدفعنا إلى التساؤل: هل نحن بصدد حالة «حراك» سياسى أم أنها حالة «فائض تعبير سياسى»؟

(1)
المتأمل للمشهد يصل إلى نتيجة أساسية؛ أن ما يجرى من مساجلات صحفية وفضائية بشأن مستقبل الرئاسة لا علاقة له بالحراك السياسى، وهو لا يعدو سوى أن يكون فائضا من التعبير السياسى، الذى يتسم بمساحة من الغضب، والخوف من المجهول، والحذر من فوضى المستقبل. ألقى الأستاذ محمد حسنين هيكل بقنبلة «المجلس الانتقالى»، أيدها بعض المعارضين، وصمت البعض الآخر. وبدأت بورصة أسماء المرشحين من أحمد زويل إلى محمد البرادعى مرورا بالسيد عمرو موسى. اللافت أن المعارضين من شتى الألوان السياسية يداعبون «القوة الصلبة»، ويضع كل منهم المؤسسة العسكرية فى أطروحاتهم لمستقبل التغيير فى الرئاسة المصرية. وفى الوقت الذى أكد فيه السيد جمال مبارك ــ الذى تلاحقه الحملة ضد التوريث ــ أن الحزب الوطنى لن ينجر إلى مساجلات حول مستقبل الرئاسة، وإنه يفضل أن يستكمل تنفيذ برنامجه، كان رموز الحزب الوطنى تباعا يردون على مقترحات المعارضة بشىء من الرفض، الذى لا يخلو من التهكم، واستعادة خطاب الهجاء المتداول منذ سنوات لكتابات هيكل. وصف السيد صفوت الشريف فكرة المجلس الانتقالى بأنها «مستهلكة»، ووصف الدكتور على الدين هلال الفكرة ذاتها بأنها «ضد الدستور»، وآخرون ذهبوا إلى أبعد من ذلك؛ إلى إسقاط مسمى حالمين على مقترحى الفكرة، ومؤيديها، وهناك من وصفهم بأنهم لا يعرفون شيئا عن مصر، المجتمع والمؤسسات.

وقد أشعل المشهد تصريح صدر عن الدكتور أحمد نظيف بأن مبارك الابن «مرشح محتمل» للرئاسة إذا ما قرر الرئيس مبارك عدم ترشيح نفسه فى عام 2011. البابا شنودة يؤيد انتخاب جمال مبارك، ومواطنون فى السويس يرفعون اللافتات التى تدعو إلى تعيينه نائبا للرئيس، وفى خضم هذه الهوجة الإعلامية لا يتحدث جمال مبارك عن مستقبله السياسى الذى يريده.

ما يجرى من مساجلات بين معارضين والحزب الوطنى لا يعنيى ــ بأى حال من الأحوال ــ أن هناك حالة حراك سياسى، فالقضية ليست أكثر من مساجلات إعلامية.

وإذا استمرت هذه المساجلات، وتكاثرت اجتماعات المعارضين، وظهرت حركات مناوئة للتوريث، وخرجت مظاهرات تضم بضعة مئات أو حتى آلاف، فلا يعنى ذلك أن ثمة تغييرا سوف يطرأ على الواقع، وإن الأمر لا يعدو سوى أن يكون مساجلات إعلامية، بدأت مبكرا، لكنها متوقعة، ومعتادة فى الفترة السابقة للانتخابات. وسبب ذلك ليس لأن أصوات المعارضين خافتة، ولكن لأن التغيير السياسى له مداخله، التى أستغرب أن المعارضين، ومن بينهم خبراء فى العلوم السياسية، لا يضعونها فى الحسبان.

(2)
هناك قضية أساسية لا يجب أن نغفلها هى أن الدول التى أنجزت تحولا ديمقراطيا شاملا شهدت تحالفات كبرى أدت إلى التغيير السياسى. لم يكن الأمر مجرد لقاء بين معارضين على أجندة سياسية، لكنه تحالف شامل طال المجتمع بجميع مشتملاته. خذ مثال أوكرانيا. فقد كان الرئيس يوشينكوف زعيم حزب سياسى معارض، وهو قبل هذا وذاك رجل دولة، تولى رئاسة الوزراء، وأحدث إنجازا ملموسا. تحالفه لم يكن فقط مع أحزاب المعارضة الأخرى، لكن أيدته شريحة كبرى من رجال الأعمال، والإعلام، وقطاعات واسعة من الشباب، حتى بدت هذه الدولة عشية الانتخابات فى حالة انقسام واضح. عزز ذلك قضاء مستقل، وبعض الأسس الديمقراطية التى وفرت أساسا للحركة، أهمها وجود دستور يقضى بتولى رئيس الجمهورية مدتين رئاسيتين فقط. إذن لم يهزم التحالف المعارض برئاسة يوشينكوف الرئيس كوتشيما، لأن ولايته الثانية كانت قد انتهت دستوريا، ولم يكن فى مقدوره ترشيح نفسه لولاية ثالثة، لكنه هزم مرشحه يوتشينكو المدعوم روسيا. فى ضوء انقسام أوكرانيا، ووجود جماهير هادرة بلغت المليون فى الشارع ضد تزوير الانتخابات سلم عمدة كييف مفاتيح العاصمة للمعارضة، ورفضت قوات الأمن استخدام القوة لفض المتظاهرين الذين اعتصموا تحت البرد القارس. وبالطبع لم يحدث ذلك بين يوم وليلة، بل كان حصيلة عمل مدنى متواصل على مستوى القواعد الشعبية لعدة سنوات، مما جعل من تعبئة المجتمع مسألة يسيرة.

الحال ليس كذلك فى المجتمع المصرى. فالمعارضة فى حالة تشرذم، وحصار خارجى من الحكومة، وداخلى نتيجة غياب الديمقراطية الداخلية، وصحفها فى تراجع ملحوظ، ورموزها يفتقرون إلى حيوية الشباب. والإعلام فى مجمله حكوميا، وحتى القنوات الفضائية الخاصة لا تخلو من تأثيرات حكومية واضحة، ورجال الأعمال فى كنف النظام، وأحدهم وصف نفسه فى مقال كتبه بأنه «ابن عصر الرئيس مبارك»، وكثير منهم يرتبط بتحالفات مصلحيه مع النظام القائم. وأكثر من هذا، أن المواطن العادى لا يعرف ما التوريث، وما الانتخابات، مما يجعل المعارضين معلقين فى سماء القاهرة، لا يستندون إلى قواعد شعبية تضمن لهم استدامة الحركة، أو تمدهم بزخم الفعل السياسى. ومن يذهب إلى الريف المصرى، فى الوجهين البحرى والقبلى، فسيرى كيف أن المواطن هناك يعيش حالة من الفقر، والمعاناة، لا تجعله يتذوق السياسة، أو تكون لديه الرغبة فى تحمل الحد الأدنى من أعباء النضال الديمقراطى، لا سيما أن أيا من الأصوات المعارضة لم تقدم للمواطن مشروعا متكاملا يربط لقمة العيش بالحرية السياسية، وهو أمر لا يمكن أن يحدث التغيير السياسى بدونه. ومن ينظر إلى الدول التى شهدت الموجة الرابعة للتحول الديمقراطى من صربيا إلى أوكرانيا مرورا بجورجيا يجد هناك المعارضة حية، فاعلة، جماهيرية، تطرح مشروعات تجيب عن الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية، ولا تكتفى بمجرد النقد السياسى.

(3)
اللافت أنه فى الوقت الذى كان فيه المعارضون يعبرون عن غضبهم فى السنوات الماضية، يرفعون الشعارات ذاتها الرافضة للتوريث، نجح الحزب الوطنى فى توسيع قاعدة التأييد له لتشمل أكاديميين، وإعلاميين، ومؤسسات دينية، رافق ذلك أزمة اقتصادية، وكساد فكرى وسياسى ضرب النقابات المهنية، وهزيمة ما عرف بتيار استقلال القضاء، وانخفاض صوت منظمات حقوق الإنسان، وارتباط بعض المشتغلين بها بالحكومة أكثر من المجتمع المدنى، وانشغال المجتمع بقضايا اشتعالية هامشية، وأحيانا صدامية، بين المسلمين والمسيحيين، وبين أصحاب المذاهب والمعتقدات من شيعة وسنة، صوفيين وأنصار سنة، أرثوذكس وإنجيليين، إلخ. وكل ما حدث من فاعليات سياسية احتجاجية ــ طيلة السنوات الماضية ــ لا يعدو سوى أن يكون تجمعات مطلبية عمالية، وفئوية، لم تحمل مشروعا سياسيا، ولم ترغب فى حمله، بل وقاومت حمله فى بعض المناسبات. وظلت وجوه المعارضين ــ كما هى ــ دون إضافة أو حذف إلا من قرر الموت غيابه القسرى. يتعاركون أكثر ما يتعاونون.

وهكذا لم يعد للمجتمع أى عوامل للفاعلية السياسية فى داخله، ولم يعد لقوى المعارضة أى قواعد شعبية تستند إليها فى حركتها. وأى تغيير سيحدث سيكون من داخل النظام وليس من خارجه، وسيكون فى الاتجاه الذى تحدده التفاعلات بين مؤسسات هذا النظام. ومن الصدق مع النفس القول إن البرادعى أو زويل لن يكونا بمثابة محمد على القرن الواحد والعشرين، لأن منذ أكثر من قرنين كان هناك علماء دين، وتجار، وأعيان بوسعهم الاختيار السياسى، أما اليوم فإن علماء الدين، والتجار، والأعيان يؤيدون خيارات السلطة أيا كانت. فمن يقدر على التغيير؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved