الانحدار

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 31 أكتوبر 2011 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

كن واثقا من أن أمة يكثف مفكروها ونخبتها الحاكمة الحديث عن عظمتها واستثنائيتها هى أمة على طريق الانحدار. نشأ عندى هذا الاقتناع ونما خلال تجربتنا مع حكم الرئيس السابق وحكم الرئيس الأسبق. كنا كلما ادلهمت العتمة ببلادنا واشتد القمع وتفاقم الفقر وتحسنت أحوال دول شقيقة وعلت مكانتها انهمرت علينا خطابات وكتابات عناوينها مصر السبعة آلاف سنة والدولة الأعظم فى المنطقة وصاحبة الفضل فى تنمية وتحضر دول كثيرة فى محيطها العربى والأفريقى.

 

شىء مماثل نراه يحدث هذه الأيام ولكن فى مكان آخر من العالم. الرئيس أوباما يكثر من الحديث عن أمريكا الدولة رقم واحد ووزيرة خارجيته تتحدث عن أمريكا الدولة الأعظم التى تستعد لتأكيد نفوذها وإرادتها فى المحيط الهادى وزعماء فى الكونجرس يدلون بتصريحات متعالية تنتقد السلوك الاقتصادى والسياسى للأوروبيين وتحقد على أوروبيين يتصورون أنهم حققوا النصر فى ليبيا فى غياب أمريكا وتصريحات تحمل الصين مسئولية الأزمة المالية فى الولايات المتحدة.

 

أما وقد خرج شبان بنية الاعتصام فى ميادين أمريكا وليعلنوا من هناك للعالم أجمع أن أمريكا على أبواب كارثة ما لم تعجل بتحرير إرادتها السياسية من نفوذ الشركات الكبرى ومديرى المصارف والأسواق المالية، وتعالت أصوات من داخل الطبقة السياسية ومن كبار الاقتصاديين تعترف بتدهور القيم وسوء الأداء والتشوه الذى أصاب الرأسمالية وتدهور مكانة أمريكا، فقد اضطر الرئيس أوباما وعدد من أعوانه إلى مخاطبة المعتصمين والمحتجين بلهجة تصالحية معترفين بأن لهم حقا فى الغضب.

 

●●●

 

غير خاف الآن أن الانحدار الأمريكى صار موضوعا يتصدر اهتمامات كثيرين من قادة الفكر. وأشارك محللين آخرين الاقتناع بأن النقاش لم يعد يدور حول إن كان ما يحدث فى أمريكا انحدارا أم تقلصات ونواحى قصور مؤقتة يمكن علاجها. وأعترف معهم بأنه يوجد فى أمريكا من سيبقى دائما مؤمنا بأن أمريكا ولدت عظمى على أيدى آبائها المؤسسين وعاشت عظمى بفضل نظام اقتصادى متجدد وستبقى عظمى حتى مع استمرار صعود الصين الاقتصادى والعسكرى والسياسى، وصعود دول ناهضة حديثة كالبرازيل والهند. وأظن، وهو الظن الذى أردده معظم الوقت، أن بيننا كثيرين فى العالم العربى مؤمنين بعظمة أمريكا وديمومتها حتى بعد أن صار للانحدار الأمريكى علاماته الواضحة وبعد أن اعترف به قادة لهم مكانتهم فى المجتمع الأمريكى.

 

يدور النقاش الآن حول إدارة الانحدار وليس وجوده من عدمه. وينطلق من اقتراح بدعوة الأمريكيين إلى التوقف عن الحديث عن عظمة أمريكا، باعتبار أن الحديث المتكرر والمتواصل عن هذه العظمة يؤدى إلى التقاعس فى إصلاح المرافق العامة الأساسية فى الولايات المتحدة، ويضاعف من اتساع الفجوة التى تفصل بين الأغنياء والفقراء، ويدفع الكثيرين إلى التخلى عن «الحلم الأمريكى»، فيتراجع مزاج التفاؤل، الذى هو خاصية أمريكية عتيدة ومطلوبة الآن أكثر من أى وقت آخر لترشيد الانحدار، أو وقفه.

 

قرأت لكاتب فى جريدة وول ستريت جورنال ينقل عن الاقتصادى الأمريكى الشهير جيفرى ساكس فى كتابه الصادر حديثا بعنوان «إدارة الانحدار» أن الادعاء بعظمة أمريكا أسطورة صنعها الآباء المؤسسون وأن القول الآن بعظمة أمريكا الراهنة خطأ تاريخى وخطير، فأمريكا لن تعود مرة أخرى دولة مهيمنة على الاقتصاد العالمى، أو على الجيواستراتجيا الدولية. أمريكا لن تلعب مرة أخرى الدور الذى لعبته خلال الحرب العالمية الثانية، «تلك كانت لحظة خاصة ولن تتكرر». ويرجع ساكس بداية الانحدار إلى عقد السبعينيات حين ألقت أمريكا بنفسها فى أحضان العولمة غير عابئة بما يمكن أن يحدث للطبقتين الوسطى والعاملة فيها وما قد يتسبب عنه من توسيع للفجوة بين الطبقات.

 

اهتمت أمريكا منذ ذلك الحين بالعولمة وبالسباق مع دولة من الدرجة الثانية اقتصاديا وهى الاتحاد السوفييتى، ولم تنتبه إلى صعود الصين أو تستعد له.

 

المشكلة الكبرى، فى نظر جيفرى ساكس، تكمن فى تلاعب مافيا شركات الإعلام والتسويق للترويج لمبادئ معينة تعمدت قوى معينة زرعها فى العقل الأمريكى. من هذه المبادئ تقديس العمل الشاق باعتباره الوسيلة الوحيدة لتحقيق الرخاء الشخصى، وإعلاء شأن القطاع الخاص والدعوة للولاء التام للاقتصاد الحر و«تكفير» تدخل الدولة. يعتقد الاقتصادى البارز ساكس، حسب رأى الكاتب ريان، أن «المؤامرة سمحت لقيم السوق أن تطغى على القيم الاجتماعية» فى الولايات المتحدة.

 

من ناحية أخرى يعرب الكاتب جديون راشمان بصحيفة فاينانشيال تايمز عن قلقه من أن يقود بعض المناهضين للإصلاح فى أمريكا حملة ضد الأقلام التى تدعو للاعتراف بأن أمريكا تنحدر. إن الحديث عن الانحدار يجرى تصويره فى كواليس هؤلاء المناهضين بأنه نابع من أيديولوجية، «فالانحدارية» فى نظرهم أيديولوجية تخريبية أخطر من الشيوعية. من هؤلاء عالم السياسة فى جامعة هارفارد جوزيف ناى الذى يعتبر الانحدارية الراهنة «تقليعة أكاديمية» جديدة لا تختلف كثيرا عن مرحلة أقدم عندما تردد أن اليابان صاعدة بسرعة لتحتل المكانة الثانية فى الاقتصاد العالمى.

 

●●●

 

كان توماس فريدمان كبير محررى النيويورك تايمز أحد الإعلاميين الكبار الذين لم يتوقفوا عن دق الأجراس، منبهين إلى أن الانحدار تجاوز حدود المعقول. ففى معظم مقالاته، وهى بالعشرات، كان يتحدث بإسهاب عن تقدم اقتصادى فى الصين وتقدم تكنولوجى فى الهند وتقدم «رأسمالى» فى أمريكا اللاتينية وبخاصة فى البرازيل، مع التلميح المستمر إلى أن القيم الرأسمالية الجديدة فى أمريكا لم تعد تصلح لقيادة الاقتصاد العالمى. ولا شك أن آخر جرس دقه فريدمان كان نشره لكتاب جديد تحت عنوان «أين الخطأ..»، كمحاولة جريئة لتشخيص حالة الانحدار الأمريكى.

 

●●●

 

قرأت تصريحات أدلى بها محمد العريان رئيس مؤسسة «بينكر» وهى إحدى أهم مؤسسات الاستشارات المالية فى العالم، معلنا فيها تعاطفه مع حركة احتلال وول ستريت، وقرأت عرضا لخطاب بول فولكر الرئيس السابق للبنك المركزى الأمريكى واستعدت للذاكرة نصائح لورنس سامرز التى كان يبعث بها لوزراء المال والاقتصاد فى جنوب آسيا فى التسعينيات إبان الأزمة الاقتصادية الآسيوية، وراجعت كتابات نيكولاس كريستوف الصحفى والكاتب فى صحيفة نيويورك تايمز فى شأن التطورات الاجتماعية الراهنة فى أمريكا، كلها وغيرها كثير، تؤكد انطباعات كانت ومازالت لدينا، منها على سبيل المثال:

 

أولا: أن الرأسمالية الأمريكية خرجت عن مبادئها وقيمها حين سمحت بإخضاع السياسة للمال إلى هذا الحد الغريب. سمعنا منذ يومين أن أوباما، وإن بدا متفهما لمواقف الغاضبين والمعتصمين فى مدن أمريكا، لم يوجه انتقادا قويا للشركات الكبرى ومديرى المصارف خوفا من أن يمنعوا عن حملته الانتخابية ملايين الدولارات التى وعدوه بها.

 

ثانيا: أن أمريكا فى حاجة ماسة إلى التحرك فى اتجاه رأسمالية جديدة، يطلق عليها العريان تعبير «الرأسمالية الجامعة» هدفها زيادة العمالة وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

 

ثالثا: أن الفجوة المتزايدة الاتساع جعلت الأثرياء أقوى نفوذا وقدرة على شراء الضمائر وتجييش الأفكار إلى حد أصاب بالضرر الشديد النظام الرأسمالى لأنه تسبب فى إضعاف قدرة الفقراء على تعليم أولادهم، وهذا فى حد ذاته يعد «إفقارا للرأسمالية».

 

رابعا: أن الرأسمالية الأمريكية الحديثة شجعت على تضخيم حجم المصارف وزيادة نفوذ مديريها والمسئولين عنها. وأن إصلاح الرأسمالية يحتاج إلى تقليص حجم المصارف وإجبارها على العودة إلى أحجام صغيرة أو تفتيتها، قبل أن تفترس قوى اجتماعية أخرى.

 

خامسا: نتج عن التوسع فى نظام رأسمالية المحاسيب فساد عظيم، فساد فى المجتمع وفساد فى منظومة القيم. فالرأسمالية الفاسدة المتبعة حاليا التى تقوم على مبدأ «خصخصة الأرباح وتأميم المخاطر» قادرة على تفتيت وحدة المجتمع وإثارة الفتن الطبقية وإشعال نيران الغضب، وهو ما نشاهده كل يوم على شاشات التليفزيون منقولا من ميادين أمريكية، ونعرفه حق المعرفة مما حدث عندنا فى مصر، وما زال يحدث كل يوم.

 

سادسا: حدث فى أمريكا أو دول أخرى، أن ابتليت الطبقة السياسية بحالة العقم. لم تعد أنظمة الحكم تنجب قادة سياسيين على مستوى التحولات الهائلة الجارية فى العالم. نحن هنا، فى هذه المنطقة من العالم، نستطيع أن نحكم على قادة دول أجنبية بعد أن جربنا فى دولنا قادة محليين وحكمنا عليهم واكتشفنا أن حكمنا كان صحيحا. لا يعقل أن دولة عظمى فى مقام ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية تنجب فى أقل من عقد واحد رئيسين على مستوى متدن، بوش وأوباما. كان أداء كل منهما فى القضايا التى تخصنا، نحن على الأقل، دليلا على قصور فى الذكاء أو نقصا فى القيم العالية والحميدة. وقررالبعض منا، من خلال متابعتنا لتجاربهما فى بلديهما، أنهما لم يقدما أداء جيدا بعد أن خضعا وسلما إرادة وطنهما لقوى ضغط لا تمثل سوى 1٪ من مجموع سكان الولايات المتحدة.

 

●●●

 

كلنا، عربا وأمريكيين، مهددين بانحدار يبتلعنا إذا لم تستمع الطبقات الحاكمة إلى الأجراس التى تدق فى آلاف الميادين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved