نعم الأخضر يابس

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 31 أكتوبر 2017 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

كلنا نعرف الأخضر، أما «اليابس» فهو من كان رَطْبًا وجَفّ كما تشير قواميس اللغة، وفى حياتنا اليومية تبدو كلمة «يابس» واحدة من الكلمات نادرة الاستعمال فى مصر، لأننا نرتاح أكثر لكلمة «دبلان»، ونرى فى الذبول نقيض لزهو التفتح والإخضرار.
وقد أراد المخرج محمد حماد لعنوان فيلمه البديع «أخضر يابس» الجمع بين هذين النقيضين، مؤمنا أن الذبول الذى نواجهه فى قاعة عرض الفيلم مثل الذى نواجهه خارجها تم بفعل فاعل.

فمن الصعب تأمل نموذج بطلة الفيلم ايمان التى تصاب على الرغم من شبابها بمرض نادر هو انقطاع دورتها الشهرية بمعزل عما حولنا من ركود جعل الأخضر يابسا.

ودون شعارات كبيرة يثبت الفيلم أصالته بالاشتغال على موضوع بالغ البساطة ويذكر على نحو ما بما كتبه تاركوفسكى محذرا مما يسميه «الكليشيه» الذى يلجأ اليه بعض المخرجين لكبح خيال المتفرج عبر استنساخ مشاهد تقليدية ألفها المتفرج فى معظم المواقف، فالروائع الفنية تولد من نضال الفنان للتعبير عن مثله الاخلاقية.

واذا كان الفنان جادا فى سعيه نحو تعزيز قيمة الحياة، لن تكون هناك خطورة فى مرور صورة الواقع عبر «فلتر» مفاهيمه الذاتية.

يختزل الفيلم الحياة اليومية لشقيقتين وحيدتين تعيشان فى شقة قديمة بعد وفاة أرباب العائلة، ويبدأ بمشهد للأخت الكبرى التى لم تتزوج وهى فى عيادة طبيب تشكو انقطاع دورتها الشهرية ثم يسلمنا بعد ذلك لهاجس اصابتها بمرض خطير إلى أن نصل لمشهد ما قبل النهاية ونعرف معه أن مرضها انقطاع الدورة فى سن الشباب ما يحرمها نعمة الانجاب، لكن الفيلم بمهارة يتجنب الانزلاق إلى الكلاشيهات المعتادة فى التعامل مع مثل هذه الموضوعات، فهو لم يقدم مشاهد المرضى المعذبين أو يختار مريضة فقيرة وانما أرادها مستورة الحال تعمل فى محل لبيع الحلويات وتنوب عن صاحبه فى ادارة شئونه بمنتهى الأمانة والهمة والنظافة وتتولى رعاية شقيقتها الأصغر الطالبة التى تظهر فى كل المشاهد فى حالة أنانية مفرطة لا تكف عن اعلان طلبات متلاحقة لتتمكن من الزواج بعريس تخشى ان يتركها وتطلب من اختها اقناع أعمامها بحضور طقس قراءة الفاتحة أمام عائلة العريس كما تطالب شقيقتها بتركيب ستائر تستر الجدران الباهتة التى تعجز عن تحمل المسامير. لأنها تيبست هى الأخرى.

وتفشل الاخت التى تنحصر هوايتها فى رعاية الزرع وتربية سلحفاة عجوز فى العثور على عم لديه استعداد لذلك، فالكل راغب فى تجنب المسئولية باستثناء العم الاكبر الذى يوافق على الحضور لكنه يتعرض لأزمة صحية قبل ان يتمكن من ذلك وينتهى الفيلم بعد رحلة كاشفة لعالم الشابة ايمان بالتأكد أن جسدها سليم لكنه يابس أثر انقطاع دورة الحياة مما يدفعها إلى فض بكارتها بأصبعها لترى تدفق الدم من جديد.

ورغم قسوة النهاية التى يقدمها الفيلم بالتزامن مع موت السلحفاة الا ان مخرجه قدم عالمه بالكثير من الشاعرية والرهافة والاختزال وبدا مقتصدا تماما فى لغته السينمائية التى تخلق عالما قابضا، مراهنا على أن أزمة ايمان فى الداخل أكثر مما هى فى الخارج، فاعتنى وهو كاتب القصة والمعالجة بتفاصيلها التى تلح على تنامى الركود وتجنب المغامرة. وأثبت حماد بما لا يدع مجالا للشك ان تبنى القضايا النسوية ليس حكرا على النساء، فالنسوية كما ينبغى هى رؤية للعالم أكثر من كونها شعارا.

فإيمان تذهب لعملها وتعود من نفس الطريق مستعملة الترام الذى زال مثل خضارها ولا تقبل بالمترو الذى يهز بيتها القديم لكنه يفشل فى هز روحها والقبول به شريكا فى رحلتها اليومية النمطية الخالية من لذة الاكتشاف.

انحازت إيمان فى رعاية نباتاتها للصبار وللسلحفاة فى الحيوانات وفى أوقات الانتظار كانت تجاور العجائز، دون انخراط ودائما فى وضع مراقب، تستثمر فى انفلات الضوء وتحتمى بالظلال.

واختمرت أسطورة عطائها فى الزمن الراكد، لم يكن يعنيها أبدا جريان الوقت فقد احترفت الصمت أو «الكلام الساكت»، كأنما هى صفحة تصر على بياضها إلى الابد، وامرأة مهزومة لم تتعرف إلى صوتها الا حين جربت الصراخ قبل مشهد النهاية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved