«انفصال» المهاجرين واندماجهم

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 31 أكتوبر 2020 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

أثار خطاب الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون يوم 2 أكتوبر الماضى عما أسماه «بالانفصالية الإسلاموية» ردود أفعال فى العالمين العربى والإسلامى، كما أثارها فى فرنسا نفسها فى المجتمع الفرنسى عموما وبين مجموعات المسلمين من المهاجرين ومن المواطنين الفرنسيين المنحدرين من أصول مهاجرة فى البلدان الإسلامية خصوصا. ولقد تضاعف ردود الأفعال بعد العمليات الإجرامية الثلاث المرتبطة به التى وقعت فى الشعر المنصرم بعده. لا يمكن فى مقال واحد محدود المساحة الإلمام بجميع جوانب مسألة مركبة ومعقدة كتلك التى أثارها الرئيس الفرنسى ولا بكل الأسباب التى دفعته إلى إثارتها. هذا المقال يعنى بما ورد فى الخطاب وبالمسكوت عنه فيه أساسا ثم بردود الفعل عليه فى العالمين العربى والإسلامى وبالدور الذى يمكن أن تلعبه بلادنا إزاء موضوعه فى مقام ثانٍ. الغرض هو تركيز الاهتمام على وضع المهاجرين والمواطنين من أصول مهاجرة إسلامية فى مواطنهم الأوروبية، وفى حالتنا الراهنة فى فرنسا تحديدا. ليس المقال معنيا بجرائم قطع الرءوس ونحر الرقاب التى ارتكبها المتطرفون مؤخرا وآخرها يوم الخميس الماضى فى مدينة نيس الساحلية. هذه جرائم إرهابية بشعة فى وحشيتها ولا إنسانيتها، لا يمكن تصور أى تبرير لها. كيف يمكن تبرير ذبح امرأة تصلى فى كنيستها؟ هذه جريمة فى حق نفس مفهوم الدين ممن يزعمون أن الحرص على الدين هو دافعهم إلى ارتكابها. إدانة هذه الجرائم لا لبس فيها.
***
«الانفصالية الإسلاموية» التى أدانها الرئيس ماكرون تعنى عنده الانسحاب من المجتمع، والعيش وفق مبادئ وقيم وقواعد غريبة عليه وخارجة على المبادئ والقيم والقواعد التى تشكل ثقافة هذا المجتمع وتكونت من خلال عملية تراكم تاريخية. فى خطاب الرئيس الفرنسى أن «الانفصاليين» ينشئون أبناءهم وبناتهم على مبادئهم وقيمهم وقواعدهم ويغذون بذلك «انفصاليتهم» ويديمونها. لذلك فإنه أعلن فى الخطاب أن لن يُسمَحَ بعد الآن بتعليم الأطفال فى المنازل، وأن كل الأطفال يجب أن يلتحقوا بالمدارس اعتبارا من سن الثلاث سنوات، وهو أضاف أن المدارس يجب أن تبث فى النشء «قيم الجمهورية»، وقد يكون مناسبا التذكير بأن مصطلح «الجمهورية» هو لتمييز قيم الحرية والمساواة والإخاء التى تكونت بعد الثورة الفرنسية عن تلك السائدة قبلها فى العهد الملكى التى كانت تعلى من شأن طبقتى النبلاء ورجال الدين وتميزهما على عموم الناس. وأعلن الرئيس ماكرون كذلك أن ماليات المنظمات الإسلامية ستخضع للمراقبة وأن المنظمات الخارجة على قيم الجمهورية ستخضع للحل وأضاف أن الدولة هى التى ستتولى تدريب أئمة المساجد حتى لا يبث الأئمة القادمون من دول إسلامية مختلفة التطرف وأصول الإرهاب بين المسلمين فى فرنسا. الرئيس ماكرون أعلن كذلك عن التوسع فى تعليم اللغة العربية فى المدارس وعن تطوير الدراسات الإسلامية رفيعة المستوى. سنرجع إلى مصطلح «الانفصالية الإسلاموية» بعد قليل، أما الإجراءات المعلن عنها المذكورة أعلاه فهى معقولة طالما كان حل الجمعيات بقرار قضائى ولم يكن فى تدريب الأئمة خروج على أصول الدين الذى يرعونه ويدعون إليه، أما تطوير الدراسات الإسلامية فلا بدّ أن يكون موضعا للترحيب ولفرنسا باع طويل فى هذه الدراسات الرفيعة منذ زمن بعيد.
إلا أن الرئيس الفرنسى أورد أفكارا أخرى فى خطابه مثل «مساعدة الإسلام على إعادة هيكلة نفسه» فى فرنسا، وأن «الإسلام فى أزمة فى كل أنحاء العالم». هذه الفكرة فيها خروج على اللياقة وكان الأحرى بالرئيس الفرنسى أن يترك للمسلمين أن يحددوا أى أزمات تواجههم وكيف يمكن أن يتصدوا لها. الرئيس ماكرون حذّر من الخلط بين المتطرفين الإسلامويين وبين المسلمين «كاملى المواطنة الذين يعيشون فى جمهوريتنا»، وهو تحذير يستحق التقدير. غير أن هذا التحذير نفسه، والإشارة المتكررة إلى الإسلام، ثم إلى التوسع فى تعليم اللغة العربية، وهو فى حد ذاته إجراء محمود، هذه الإشارات هى التى تخلط بين «الإسلاموية الانفصالية» والإسلام والعرب والمسلمين فى أذهان من يتلقون رسالة الرئيس الفرنسى. المتلقى للرسالة لا بدّ أن يستنتج أن من لهم علاقة باللغة العربية ويدينون بالإسلام أو كانت أصولهم من بلاد «الإسلام المأزوم» يعيشون فى عالم واحد مع «الإسلامويين الانفصاليين»، وهو ما يمكن أن يؤدى إلى التوجس من المهاجرين المسلمين ومن المواطنين من أصول مهاجرة إسلامية، وإلى استبعادهم من بعض مساحات المجال العام، فيؤدى ذلك إلى نتيجتين، الأولى هى مثل جريمة الاعتداء على امرأتين فى قلب مدينة باريس لمجرد ارتدائهما الحجاب، والثانية هى نفس ما يدينه ماكرون ويريد محاربته، أى «الانفصال» عن المجتمع. مصطلح «الانفصالية» هو نفسه مصطلح ملغم لم يسبق استخدامه بالمعنى المقصود فى خطاب الرئيس الفرنسى، وهو يحيل إلى حركات كتلك الداعية إلى انفصال إقليم كتالونيا عن إسبانيا، أى إنه يجعل منها قضية أمن قومى ومدخلا إلى «أمننة» «الانفصالية»، أى إلى تبرير اتخاذ إجراءات أمنية استثنائية واستباقية بحق «الانفصاليين» أو من يمكن أن يكونوا «انفصاليين»، وهم فى هذه الحالة المهاجرون والمواطنون من أصول مهاجرة إسلامية.
***
الذى سكت عنه الرئيس الفرنسى هو مسألة اندماج المهاجرين والمواطنين من أصول مهاجرة إسلامية فى المجتمع الفرنسى. نجح الاندماج إلى حد بعيد فى الثقافة والرياضة والفن والأعمال والسياسة. كتاب وكاتبات كثر يكتبون وينشرون باللغة الفرنسية وآخر فائزة بأهم جائزة أدبية فرنسية، وهى جائزة جونكور، من أصول جزائرية مهاجرة. الفرق الرياضية الفرنسية مليئة بالرياضيين من أصول إفريقية بما فى ذلك المغاربية. الوزراء والوزيرات من أصول مغاربية عديدون فى الحكومات الفرنسية، وهم كانوا أربعة فى الحكومة الأخيرة للرئيس الاشتراكى السابق فرنسوا أولاند، من بينهم وزيرة التعليم المولودة فى المغرب ووزيرة العمل. المهاجرون المستقرون فى فرنسا والمواطنون من أصول مهاجرة مغاربية أو إفريقية من بينهم ولا شك نسبة ضئيلة متطرفة وارتكبت أعمالا إرهابية. هذه الفئة استثناء ولكن الأغلبية الساحقة منهم مندمجة بل هى تشترك فى حفظ الأمن فى جميع المدن الفرنسية، ولم يخرج من بينها أى من مرتكبى الأعمال الإرهابية الأخيرة. قاطع الرأس شيشانى، ومحاول الذبح باكستانى، والتونسى الذى ارتكب جريمة الكنيسة وصل قبل ساعات أو دقائق إلى فرنسا وهو ليس مستقرا فيها. حالته تثير قضية طالبى اللجوء ولكن هذه مسألة أخرى. صاحب المطعم الذى لجأت إليه واحدة من ضحايا جريمة الكنيسة مغاربى. هو الذى أبلغ الشرطة وهو الذى ذهب إلى الكنيسة مع شقيقه من تلقاء نفسيهما ليستطلعا ما يحدث فيها فهددهما المجرم الإرهابى. ولكن الاندماج لم ينجح كليا. أحسن الرئيس الفرنسى بالإشارة إلى الانفصالية التى «خلقناها نحن»، على حد تعبيره، مثل تركز المهاجرين فى أحياء متهالكة على حافة المدن، تفتقر إلى الخدمات وقاصرة عليهم تقريبا، لا يعايشهم فيها إلا الفقراء. ولكن الرئيس ماكرون لم يتطرق إلى الارتفاع الملحوظ فى معدل البطالة بين المهاجرين عنه فى مجموع قوة العمل، وهو لم يشر إلى التدنى الحاد فى معدل الحصول على وظائف من بين المتقدمين إليها إن كانت استمارات التقدم إلى الوظائف تحمل أسماء عربية أو إفريقية، أو التدنى الشبيه فى معدل تحديد مواعيد لمقابلات شخصية إن كان المستفسرون عن الوظائف هاتفيا يحملون أسماء إفريقية أو عربية. ارتفاع معدلات ما بين مجموعة من السكان أو انخفاضها مقارنة بمتوسط المعدلات لمجموع السكان يعتبر تمييزا ضد هذه المجموعة، وقصورا فى سياسات الاندماج، وهما من أسباب التقوقع المؤدى إلى «الانفصالية». إلقاء الضوء على قصور الاندماج ومسئولية الدولة عنه كان من شأنه موازنة الحديث عن «الانفصالية» المسئول عنها المهاجرون والمواطنون من أصول مهاجرة وجعل خطاب الرئيس الفرنسى أكثر موضوعية.
***
ردود الأفعال صدرت من إندونيسيا إلى بنجلاديش إلى باكستان إلى إيران إلى تركيا إلى بلادنا العربية. خطاب الرئيس الفرنسى لم ينل إلا اهتماما محدودا فى بلادنا، ولكن درجة الاهتمام ارتفعت وساد الغضب عندما أكد الرئيس ماكرون فى تأبين الأستاذ الفرنسى القتيل التمسك بالرسوم الكاريكاتورية الساخرة. وإن أشار البعض برصانة إلى أثر الجريمتين المرتكبتين بعد خطاب الرئيس الفرنسى على المهاجرين والمواطنين من أصول مهاجرة إسلامية فى فرنسا، فإن الجانب الأكبر من ردود الفعل والنقاش العام بشأن مجمل الخطاب والأحداث المرتبطة به كان من منظور السياسة الإقليمية والداخلية. لا بأس فى ذلك خاصة وأن السياسة صارت عبر وطنية فى زمن العولمة فوسائط الاتصال تبث الأحداث والخطابات والأفكار فى التو واللحظة ووسائط النقل تنقل الأفراد فى ساعات إلى حيث شاءوا كما حدث مع الشاب التونسى القاتل.
لا بأس فى أن يصبح مجمل الأحداث الأخيرة فى فرنسا موضوعا للسياسة الداخلية فى بلادنا لأن ما يحدث عندنا يؤثر فى المهاجرين المسلمين والمواطنين من أصول مهاجرة إسلامية الذين يعيشون فى فرنسا وأوروبا عموما كما تؤثر السياسة والأفكار الأوروبية فينا. دورنا هو المساندة الفكرية للمهاجرين وللمواطنين من أصول مهاجرة فى المشترك بيننا، وهذا شىء مشروع تماما فى العلاقات الدولية فى إطار احترام القواعد المنظمة للعمل العام فى البلدان المختلفة. هذا الدور يشمل أيضا التعامل مع المنابع الفكرية للتطرف التى تصدر عن بلادنا، وليس فقط المنابع التنظيمية له. هذا التعامل من مصلحتنا نحن أولا لأن التطرف يقوّض أوطاننا والتعايش فيها وتقدمها. والتعامل مع المنابع الفكرية ليس وظيفةً أمنيةً قمعيةً ولا هو مهمة تضطلع بها جهة واحدة أيا كانت مكانتها بقدر ما هو رعاية للفكر النقدى وتشجيع مؤسسى على تعدده. أنت لا تستطيع أن تمحو الفكر المتطرف، الدينى أو السياسى، من الوجود، ولكن يمكنك أن تحاصره وأن تجعله يشغل مساحة محدودة فى بحر من النشاط الفكرى المتجدد. وللحيلولة دون الاستغلال السياسى لمسألة النيل من صورة الرسول سواء فى فرنسا وأوروبا عموما أو فى بلادنا، فإن دورنا كذلك هو البحث فى سبيل لمعالجتها بما يتفق والقوانين المحلية والإقليمية والدولية، بعيدا عن الغضب العاجز وعن همجية القتل وإجرامه. لعل اللجوء إلى الآليات الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان لتفسير الحق فى حرية التعبير، على ضوء العهد الدولى ذى الصلة، من بين هذه السبل.
المشترك كثير بين البشر من كل الثقافات. وبين البشر اختلافات أيضا. البعض من البشر يركز على الاختلافات ويؤججها، والبعض الآخر يعتمد إبراز المشترك والاحتفال به وتنميته.
فلنكن من هذا البعض الأخير، ولنعزز صفوفنا فى بلادنا وفى فرنسا وأوروبا وفيما عداهما بطول العالم وعرضه.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved