أين تتلاقى الأرواح؟

محمد الهوارى
محمد الهوارى

آخر تحديث: السبت 31 أكتوبر 2020 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

اهتم المصريون منذ عهد الفراعنة بمثواهم الأخير. فتميزت مقابر الفراعنة حتى البسطاء منهم بالوجاهة وكانت من أهم أوجه صرف ثرواتهم. يكفى أن إحدى هذه المقابر وهى أهرامات الجيزة مازالت حتى يومنا هذا إحدى عجائب الدنيا السبع، بل أهمها على الاطلاق. وعلى مر الزمان تغيرت معتقدات المصريين ومجتمعاتهم، ولكن ظل اهتمامهم بالمقابر من أهم معالم الشخصية المصرية وتقف الأضرحة الصوفية دليلا على ذلك.
كنت دائما أتخيل فى شبابى أنه عند فقدان عزيز فأفضل مكان للإحساس بهذا الشخص هو المقابر حيث دُفِن. ربما يكون ذلك بسبب موروثى الثقافى أو ربما بسبب أننى أتذكر جدتى وهى «تزور» جدى فى المقابر بصفة منتظمة. حتى هذا التعبير كان يوحى لى أن هذا الشخص موجود بشكل ما فى هذا المكان بصفة مستكينة لا نشعر بها على المستوى الحسى. وعندما توفى والدى ولم أشعر بهذا الاحساس فى مدفنه بدأت أشك فى هذا المنطق وتأكدت منه تماما عندما فقدت شقيقتى الحبيبة وزرت مدفنها فلم أشعر بأى شىء ووجدت نفسى أقول لوالدتى هيا بنا فأنا لا أشعر بها هنا. والحقيقة أننى كنت أشعر بها فى البيت؛ حيث قضت أحلى سنوات عمرها. وعندما انتقلت لبيتى بعد الزواج تخيلت أننى لن أشعر بها فكنت أشعر بها أكثر فى كل مكان فى الحى السكنى؛ حيث أسكن وحيث كانت تسكن هى، وفى كل لحظة أتخيل أننى سألقاها مصادفة وهى تقود سيارتها لتأخذ أولادها إلى التمرين أو لتقابل أصدقاءها فى النادى بعد يوم شاق. وكذلك كنت ومازلت أراها دائما فى أبنائها الذين ورثوا الكثير من جمال شكلها وروحها.
ثم انتقلت لسويسرا وتخيلت أننى لن أشعر بها ففوجئت بأننى أبحث عنها فى الشوارع المزدحمة، ولم لا؟ فهى لم تعد موجودة فى مصر ولكنها ربما موجودة فى هذا المكان الجديد أو هكذا يتخيل عقلى الباطن. وفهمت أننى لا أحتاج لمكان معين لأشعر بها، فالشخص العزيز علينا نحمل جزءا منه فى عقلنا وقلبنا ووجداننا. قد تمر بى لحظات فى مشكلة أو محنة أتخيل نفسى أناقشها معها أو مع والدى مناقشة كاملة يتخللها دعابات وضحكات وبكاء وأحضان. لا تسيئوا فهمى فأنا لا أتكلم عن حوار كامل ولكنى أتكلم عن إحساس، أسرح دقائق وأشعر أننى كنت فى حوار ساعات. ليس تحضيرا للأرواح كما يزعم الدجالون، بل هو استحضار للروح من عميق وجداننا وعقلنا الباطن.
عندما قرأت صديقة مقالى السابق «لماذا لم نعد نجلس فى البلكونة» وذكرياتى عن جدى وصورته المحفورة فى ذاكرتى وهو يجلس فى شرفة منزله فى المنصورة، كتبت قصيدة جميلة عن ذكرياتها مع جدها تعبر عن نفس الاحاسيس. قالت الصديقة روبا أبو خضرا «بقيت الشرفة وذهبوا الحبايب.. ذهب جدى وقهوته وحكاياته.. ولا تزال الذكريات.. ليست فى تلك الشرفة.. تزال فى أى شرفة أدخلها».. إذن فالاحساس واحد. كل ما نحتاجه هو محفز، اذا احتجناه. أغنية لأم كلثوم، فيلم قديم كنا نشاهده معا، مكان جلسنا فيه أو حتى مكان يشبهه. منذ بضعة شهور فى عطلة نهاية الأسبوع عندما استيقظت قلت لزوجتى، وأنا خائف من سخريتها منى، أن الحياة فى هذا المنزل فى وسط مدينة زيوريخ أعاد لى ذكريات المبيت فى منزل أجدادى فى المنصورة عندما كنا نزورهم. فوجئت بها ترد بأنها تذكرها بحياتها فى الإسماعيلية فى طفولتها ولم تقل لى ذلك خشية من سخريتى أنا منها! شىء غريب أن نصل نحن الاثنين لهذا الاستنتاج المتشابه من نفس العامل المحفز. هو بالنسبة لى دليل أننا نحمل فى ثنايا عقلنا الباطن جزء من التجارب التى أثرت فى حياتنا وأننا قادرون أن نرحل بعقولنا وقلوبنا لبعد آخر مثلما يحدث فى أساطير الخيال العلمى.
هذه ليست محاولة لفهم الموت فاقتناعى أنه لا يعلم أحد ماذا يحدث بعد الموت. حتى أبناء المذهب الواحد من الديانات المختلفة اختلفوا فيما بينهم. اختار الله أن يبقى هذا سرا إلهيا حتى نلاقيه. حتى ما بعد الموت والحساب والحياة الآخرة اختار الله أن يشرحها لنا بلغة بسيطة أقرب للحياة الدنيا بينما أكاد أكون متأكدا أن الحياة الآخرة ستكون على مستوى حسى آخر أعلى من هذا الجسد الفانى المحدود وما يفهمه من شهوات واحتياجات دنيوية. الله أعلم. هى فقط محاولة لفهم سيكولوجية الإنسان بعد فقدان عزيز. كانت شقيقتى دائما تقول إن بعد موت عزيز لا نعود أبدا كما كنا. هو مثل جرح يلتئم ولكن يترك ندبة أو علامة فالإنسان يصبح ظاهريا سليما ولكنه فى حقيقة الأمر مختلف عما كان من قبل. ثم يتبقى لنا قرار: كيف نعيش أيامنا الباقية مع هذا الجرح؟ أول وأهم قرار هو أن نستمر. الحياة تستمر ودائما ما يستطيع الإنسان أن يحدد لنفسه هدفا فى حياته. صدق الأولون عندما قالوا «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا»، فهذا هو خير القول والعمل حتى يأذن لنا الله أن نتلاقى من جديد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved