أزمات عاصفة وبصيص أمل

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 31 أكتوبر 2021 - 7:05 م بتوقيت القاهرة

شكّلت التطوّرات التى شهدتها معظم دول المنطقة العربيّة منذ 2010 قطيعةً واضحة مع كلّ ما عرفته منذ استقلالها. لا يُمكن ربّما مقارنتها سوى مع إرهاصات القارّة الأوروبيّة فى القرن التاسع عشر. لقد تفجّرت فيها التفاعلات الداخليّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، ممّا أدّى إلى إضعاف «عقودها الاجتماعيّة»، أى صيغة التعامل بين المجتمع والدولة، وإلى تفاقم التدخّلات الخارجيّة، الإقليميّة والدوليّة، فى مصائرها.
أحد أسباب التفجّر الواضحة يكمُن فى أزمة «الحوكمة»، وبالتحديد أزمة التداول على السلطة، أى حكم قادة استمرّ معظمهم لأكثر من ثلاثين سنة متوالية وطعنوا فى السنّ. هذا دون التحضير لانتقالٍ سلسٍ ومعقول يُبعِد شبح تأزّم الدولة والمجتمع. وعلى عكس ما يُشاع، لا تخصّ هذه الأزمة الجمهوريّات وحدها، التى لا يُعقَل أن تكون «وراثيّة»، بل أيضا الملكيّات.
وبرزت أبعاد أزمة «الحوكمة» بشكل أكبر نتيجة المركزيّة الشديدة للسلطة حيث تركّزت التنمية فى العواصم بينما تمّ إهمال الأطراف. وما أخذ إلى تفجّر صراعات محليّة عديدة، مثلما فى السودان وجنوبه وفى دارفور وغيرهما ما بين المركز والأطراف، وما أدّى إليه ذلك من تدخّلات خارجيّة «إنسانيّة»، لم تنتهِ تداعياتها مع انفصال جنوب السودان ولا مع «ثورة» 2018 وسلسلة الانقلابات المتوالية.
السبب الأقلّ وضوحا فى الأذهان هو أزمة «نموذج التنمية الاقتصاديّة». هكذا شهدت البلدان العربيّة طفرات فى مواردها الريعيّة خاصّةً بعد 1973 و1979 وانخرطت بشكلٍ غير مسبوق فى «الاقتصاد المعولم»، ولكنّها عجزت عن خلق أسس اقتصاد محليّ يمكنه تدارك تداعيات تقلّبات هذا الاقتصاد العالميّ، كما حدث فى منتصف الثمانينيات مع «صدمة النفط المضادّة» (أى انهيار أسعار النفط إلى مستويات ما قبل 1973) التى أخذت معظمها إلى أزمة دين حكومى وإفلاس.. وما انتهى إلى حرب الخليج الأولى عام 1991.
رغم ذلك، هيمن النموذج «الريعىّ» على اقتصادات الدول العربيّة، حتّى فى البلدان التى لا تحتوى على موارد طبيعيّة كبيرة. ريوع التطوير العقارى فى خضم تسارع الهجرة من الريف إلى المدينة، وريوع الهاتف الخلوى وتقنيات الاتصالات، وريوع القطاع المصرفيّ والماليّ، إلخ... هذا له مسبّباته فى الاقتصاد السياسى، أى فى أزمة الحوكمة ذاتها. فالاستحصال على الريع ضروريّ للسلطة القائمة ولاستمراريّتها عبر «إعادة توزيعه» جزئيّا واستنسابيّا للحصول على الولاءات. هذا فى حين أن تنويع الاقتصاد أبعد من القطاعات الريعيّة يُطلِق «فعاليّات» و«نخب» اقتصاديّة لا بدّ لها أن تطالب بدورٍ فى «الحوكمة».. بل فى السلطة والحكم.
كَسَرَ هذا النموذج الريعيّ أيضا آفاق التكامل الاقتصاديّ على مستوى البلدان العربيّة. لقد اندمجت دول «مجلس التعاون الخليجي» فى منظومة تكامل اقتصاديّ وحدها، رغم أنّ اقتصاداتها متشابهة، دون بقيّة دول «الجامعة العربيّة». وبعد أن كانت العمالة العربيّة قد أسّست، إلى جانب العمالة المحليّة، لانطلاق الصناعات النفطيّة قبل 1973 ومن ثمّ للتطوّرات الاقتصاديّة اللاحقة، تمّ استبدال معظم هذه العمالة بتلك الآسيويّة التى يصعب أن تجد سبيلا كى تتّحد مع تلك المحليّة للحصول على حقوق اجتماعيّة واقتصاديّة. وبقيت الاستثمارات العربيّة «البينيّة» ضعيفة ودون مستوى النهوض بالاقتصادات فى الدول ذات الكثافة السكّانيّة الكبيرة، بالتالى تحوّل «العالم العربيّ» إلى عالمين منفصلين.
•••
هكذا بات العالم العربيّ «غير الخليجى» فى أزمات وجوديّة، من الجزائر وليبيا إلى اليمن، ومن السودان حتى لبنان وسوريا والعراق. جميع بلدان هذا العالم تُعانى من إرهاصات داخليّة كُبرى وانتفاضاتٍ شعبيّة وحروبٍ أهليّة، وصراعات بين «مكوّنات عسكريّة» و«مكوّنات مدنيّة»، وبين «أمراء» قائمين على السلطة وآخرين يحاولون الاستحواذ عليها. هذا فى ظلّ تدخّلات خارجيّة غير مسبوقة من القوى الإقليميّة والدوليّة التى تزجّ بصراعاتها فى اللعبة المحليّة. وما يفاقم التجاذبات حتّى فيما يتعلّق بـ«الهويّة الوطنيّة» فى هذه الدول. هذا فى حين تتمّ تسمية هذه القوى الخارجيّة «مجتمعا دوليّا».
لن يكون الخروج من هذه الأزمات سهلا وسريعا. فهذه تونس، الأقلّ عنفا فى تحوّلاتها وحيث ظهر الإسلام السياسيّ أكثر «عقلانيّةً»، تدخُل فى أزمة مرحلةٍ انتقاليّة على خلفيّة انهيار اقتصاديّ. وها هى السودان تتبعها فى أزمةٍ أشدّ عُمقا، رغم الثمن الباهظ الذى دفعته لإزالة العقوبات الأمريكيّة. ففى هذه وتلك تظهر الإشكاليّة فى استقرار وفعاليّة الدولة كمؤسّسة ناظمة و«جامعة» لا تتقاسمها التجاذبات السياسيّة الداخليّة ولا التدخّلات الخارجيّة وتعمل لصالح المجتمع ككلّ، كما فى تأطير التداول على السلطة. ليس الصراع بين رئاسة الدولة والبرلمان، وبين «العسكريين» و«المدنيين»، وبين «العاصمة» و«بور سودان»، سوى جانب واحد من التحديات المفروضة. فما بالنا فيما ستؤول إليه أحوال الدولة الناظمة والجامعة فى كلٍّ من ليبيا أو اليمن أو سوريا أو العراق أو لبنان للخروج من الحرب الأهليّة ومعالجة تداعياته من مظالم وأطماع ولردع التدخّلات الخارجيّة الفاضحة فى كلٍّ منها.
•••
ربّما يكمُن الأمل فى أجيال هذه البلدان العربيّة الشابّة التى سأمت التجاذبات الطائفيّة والمحليّة وضاقت ذرعا من الحروب وانسداد الآفاق، وفقدت الثقة من تدخّلات «المجتمع الدولي»، وباتت مختلفة عن تلك التى انخرطت فى تطوّرات ما سمّى «الربيع العربى». ليس الأجيال التى هاجرت ــ وما زالت تهاجر ــ بحثا عن آفاقٍ أفضل، بل تلك التى تبقى فى بلادها ولا مفرّ أمامها سوى مواجهة الواقع كما هو مع يقينها أنّها ستواجه هذا الواقع وحدها دون مساعدة أحد.
وربّما يكمُن بصيص الأمل أيضا فى نهوض الوعى بأنّ الهدف هو الدفاع عن المجتمع كمجموعة مواطنات ومواطنين متساويين والتعامل برويّة مع مشاكله و«هويّاته» الجزئيّة كى لا يتلاعب بها أحد. ولا معنى للتشكيك فى الهويّات الوطنيّة القائمة، فهى ليست أقلّ شرعيّةً من تلك فى أوروبا أو أمريكا مثلا. وأنّ السبيل لذلك هو الوصول إلى انتقالٍ «سياسى»، يؤمن استمراريّة مؤسّسات الدولة وتقويتها والتداول السلمىّ على السلطة. وأنّ هذا الانتقال لن يأتى من الحرب أو التدخّل الخارجيّ بل من توافق مجتمعيّ واسع يجب العمل عليه.
الواضح أيضا أنّ الأمل يقتضى الخروج من مقولة «هذا البلاد أوّلا». ذلك أنّ اقتصادات ومجتمعات البلدان العربيّة غير الخليجيّة باتت متداخلة، أقلّه مع أعداد اللاجئين واللاجئات فى كلّ منها. وليس من الممكن أن تخرج أحدها من أزماتها دون الأخرى. لا السودان دون مصر، ولا لبنان وسوريا دون بعضهما البعض،.. ومشاريع التكامل بين هذه البلدان باتت أكثر إلحاحا، خاصّة للنهوض فيما بعد عواصف الصراعات.. ولا يهمّ أن تطلق تسميات «المشرق الجديد» أو «الشام الجديد» أو غير ذلك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved