قراءة هادئة فى كلمة الرئيس

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 31 أكتوبر 2022 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

إذا كنت تنتظر مقالا سياسيا من السطور التالية، فلن تجده عزيزى القارئ. وإن كان حظّك من متابعة الشأن العام يغريك بالانحياز إلى القيادة السياسية أو ضدها، فلن يشبع هذا المقال ذائقتك، ولن يغنيك عن آلاف المواقع التى أشعلت الفضاء الإعلامى والرقمى بالضجيج والمناوشات العبثية.
ما أعرضه لك اليوم هو قراءة هادئة فى بعض ما جاء فى كلمة السيد رئيس الجمهورية بمناسبة افتتاح المؤتمر الاقتصادى المنعقد فى شهر أكتوبر 2022 والذى شرفت بحضوره والمشاركة فى فعالياته على مدى ثلاثة أيام. لن تكون قراءة تقليدية أو تفصيلية، ولن أعنى فى قراءتى بالترتيب أو بمنهج أساتذتى فى العلوم السياسية، بل سأطرح ما علق فى ذاكرتى من المعانى المهمة، وأحاول أن أبسطها لك ــ عزيزى القارئ/عزيزتى القارئة ــ من واقع استقبالى لها، بما عساه يختلف عن رؤية الراسل وما يدور فى ضميره من المعانى.
• • •
كانت كلمة الرئيس الافتتاحية زاخرة بالإشارات والرسائل. من هذه الرسائل ما يتصل بمفهوم الندرة التى جبلنا نحن معشر الاقتصاديين على التعامل معها فى إدارتنا للموارد وإشباعنا للحاجات. فقد أوضح بكلمات بسيطة يفهمها رجل الشارع أن الموارد النادرة قاصرة عن تحقيق أحلامنا التى تتجاوز فى كثير من الأحيان إمكانات الدولة ومواردها الاقتصادية والبشرية (التى هى أيضا من الموارد الاقتصادية).
كيف أن الدولة كانت مضطرة فى السنوات السبع الماضية أن تتعامل مع ذلك القيد الطبيعى (والوضعى أحيانا) بآلية تعمد إلى المواءمة بين التحديث والصيانة والتطوير. فقد سارت الدولة فى مسارين متوازيين أحدهما يبنى وينشئ الجديد، والآخر يحافظ ويرمم القديم. يسرى ذلك على المدن والطرق والشوارع والقرى، بل ينسحب إلى كثير من المصانع ووحدات الإنتاج الأخرى. فبينما تم إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة مثلا، تم تحديث القاهرة المعزية واقتحام العشوائيات والقرى الفقيرة، وبينما يجرى تحديث خطوط السكة الحديد التليدة، يتم العمل على استحداث القطار الكهربائى والمونوريل والأتوبيس الترددى... وهذا المنهج يضع الأولويات وفقا لرؤية الحكومات المتعاقبة التى ينبغى أن ترشّدها رؤية المجالس النيابية وغيرها من قنوات الرأى العام.
قد استشعر الرئيس، الذى بدا أنه متابع جيد لكل ما يدور فى مواقع التواصل من تساؤلات و«تشكيك»، استشعر سؤالا فى أعين الحاضرين عن أهمية التعجيل ببعض المشروعات الكبرى على حساب الكفاءة أو التكاليف، فأجاب بأمثلة أراد بها (على ما فهمت) أن يوضّح أن جدوى المشروعات لا تقاس بالعائد المباشر فقط، بل أحيانا لا تقل الجدوى الاجتماعية للمشروع عن جدواه الاقتصادية، فإذا كانت الجدوى الاقتصادية معنية بحسابات الربح والخسارة، فالجدوى الاجتماعية معنية بالتشغيل وتحقيق الأمن المجتمعى والاستقرار. كذلك أوضح الرئيس بمثال مهم جامع بين السياسة والاقتصاد مدى ارتباط مشروع ترسيم الحدود مع دول الجوار بالتوسّع فى التنقيب عن الغاز الطبيعى واكتشاف حقل «ظهر» الذى أكد أن غيابه كان يعنى أن تختار مصر بين الظلام الحتمى أو استيراد الغاز الطبيعى بفاتورة باهظة، لا يمكن أن توفرها الخزانة العامة للدولة إلا بضعة أشهر، ثم سرعان ما تعود أشباح عجز الطاقة لتخيّم على الاستهلاك العائلى والصناعى والزراعى علما بأن أكثر من 70% من استهلاك الغاز يذهب إلى الشبكة الوطنية للكهرباء. عنصر الزمن كان دائما حاضرا فى كلمة الرئيس وهو المورد الأثمن والأكثر ندرة.
• • •
فى السياق ذاته يوضّح الرئيس أن تكلفة الإصلاح (أى إصلاح) كبيرة، وبديل تحمّلها هو الإرجاء حتى تستفحل الأزمات ويصبح علاجها فى غير المتناول. بل إن كثيرا من أزماتنا الحالية جاء بسبب المرجئة السابقين، وحرصهم على قضاء فترة قيادتهم للبلاد هادئة مستقرة (رغم أن الاستقرار هنا لا يعدو أن يكون استقرارا هشا على حد وصف الرئيس). أقرأ هذه الرسالة تحديدا مستحضرا روح الفلاح المصرى الأصيل، الذى يؤثر الأرض وإن شحّت ثمارها، على الترحال والتنقل والغزو وإن كثرت غنائمها. هذا الفلاح المسالم لا يأنس كثيرا إلى التغيير الذى يضطرب معه روتينه اليومى، ولكنه يحب الحياة والمرح، وأصبح متطلعا إلى حياة أفضل وإن لم يمتلك ثمنها أو أسبابها الواقعية. انعكس ذلك على سلوكنا الاستهلاكى والتوسع فى الاستيراد ولو على حساب مواردنا الشحيحة من النقد الأجنبى، والتى يزيد من شحّها أنها تتوافر (شبه مدعمة من الدولة) بسعر غير واقعى ولا يعكس القيمة الحقيقية للعملة المحلية، الأمر الذى يغرى بالمستهلك أن يزيد من استهلاكه، ويغرى بالمنتج أن يتقاعس عن الإنتاج.
أقرأ تلك الرسالة أيضا مقارنا بين الشعب المصرى وبين شعوب أوروبا وأمريكا التى دفعت، خلال القرون الماضية ومنذ نشأة الدولة الحديثة على خلفية صلح «وستفاليا» عام 1648، فاتورة دم باهظة، بينما عصم الله دماء المصريين من حربين عالميتين، وثورات دامية استقر بعدها الغرب المتقدم على أجداث الملايين، وكانت معظم شعوب الشرق الأوسط فى مقاعد المشاهدين، وحتى الصراعات الإقليمية المستعصية كالصراع العربى الإسرائيلى لا تقارن تكلفتها بأحداث العالم الكبرى التى وقانا الله شرها. مفاد ذلك أننا فضّلنا المسار الهادئ على التغيير العنيف، وهو مسار طويل المخاض لكن آلامه ليست قاتلة.
الشعب إذن هو الرقم الأهم فى معادلة الإصلاح، وقد أشاد الرئيس بالمواطن المصرى الذى ما زال معدنه الأصيل غير مكتشف بعد. هذا المواطن هو وحده الذى يمكن أن يعرف الفرق بين نظام حكم يعمل لصالح مكاسب فئوية محدودة، وبين نظام يعمل لصالح الجميع، واضعا المواطن البسيط فى مقدمة اهتماماته. هذا المواطن علّمته الدولة قديما أن يعتمد عليها فى توفير احتياجات أسرته الأساسية من غذاء وتعليم وصحة... حتى بات يبرر عجزه عن الإنفاق على أسرته (المكتظة بالأفواه الجائعة) بأن الدولة قد أهملتهم، حقيقة الأمر كان هذا الدرس مشوّها من البداية، فالدولة لا تملك أن تحل محل الأسرة أو الفرد، والمجتمع لا يصح إلا بصحة نواته الأصلية وهى الأسرة. الدولة مسئولة فى أدبيات الاقتصاد الحر عن المرافق والبنية الأساسية والخدمات العامة والتعليم الإلزامى والصحة العامة، وحينما تتجرّد دولتنا لتلك المهام، فمن المحبط أن يستقبلها البعض بالسخرية والحط من أهمية المشروعات بغير تمييز.
الحكومة تسعى إذن أن توفّر «حياة كريمة» للمواطن والمواطنة من خلال مشروعات جامعة كبرى، لكنه وحده المسئول عن تنمية واستدامة تلك الحياة، وجعلها صالحة لورثته على مر الأجيال. وإذا كانت ثروتنا البشرية هى أهم مواردنا فقد تعرضت تلك الثروة لإهمال جسيم على مدى عقود. ولا يخفى على أى متابع وغير مختص أن معدل النمو السكانى مرتفع فى الفئات الأقل دخلا، وقد ساعدت القوانين والأعراف على تفشى سلوكيات الاستكثار من البنين باعتبارهم عناصر إنتاج (أيدى عاملة)! ولم يتم تجريم عمالة الأطفال بشكل حاسم، ولا معاقبة الأسر كثيرة الإنجاب بحرمانها من جانب من الدعم، على النحو الذى يعزز السلوك المنظّم للأسرة. هذا المورد الخطير يحتاج إلى آلاف المليارات لإعادة تأهيله، لكن المتاح من الموارد لا يحقق هذا الغرض فى ظل قيد الموازنة والوقت وأولويات التنمية.
• • •
من رسائل الرئيس أيضا فى كلمته المشار إليها أن القيادة السياسية الحالية تقدم شعبيتها رخيصة على مذبح تحقيق مستهدفات وطنية كبرى، عوضا عن استثمارها لصناعة زعامة زائلة أو استقرار هش. وقد لمست مرارة فى حديث الرئيس وهو يذكر هذا الأمر، لأنه آثر الطريق الصعب على مدارج سلكها سابقوه، فدانت لهم أسباب البقاء فى الحكم عقود، لكنه لا يعبأ بالبقاء إذا كان على حساب ما يراه أحق بالاتباع، لأن الحق لا يعرف بالرجال وإنما يُعرف الرجال بالحق. بالتأكيد لا يخلو تاريخ مصر والعالم من حولنا من مواءمات سياسية واجتماعية وجيهة، لكنها ليست بالضرورة مستهدفة للصالح العام، ولا محققة لما قر فى ضمير الرئيس أنه التصرّف الرشيد.
كانت هذه قراءة سريعة فى أهم ما جاء بكلمة الرئيس فى افتتاح المؤتمر الاقتصادى الذى سبق قرارات مهمة على صعيد السياسات المالية والنقدية، ربما تسنح الفرصة لتناولها فى مقالات قادمة مع قراءة لكلمة الرئيس فى ختام ذات المؤتمر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved