العدالة في هذا البلد

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 31 ديسمبر 2014 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

فى شبابه الباكر بدت الواقعة أمام الزعيم الإفريقى «نيلسون مانديلا» عملا بطوليا يستدعى الإعجاب البالغ لكنه لم يكن مستعدا أن يحتذى السلوك ذاته.

لم يكن من حق الرجل الأسود أن يعترض على أية تعليمات تصدر إليه بغير حق أو استنادا إلى أى منطق كأن ناموس الكون قد صمم على «الفصل العنصرى» فى الشوارع والأحياء والمدارس والحافلات والوظائف العامة.

كان يقف مع زميل دراسة أمام مكتب بريد عندما تقدم رجل أبيض يطلب من زميله أداء مهمة ما فرفض بكبرياء أن ينصاع لأوامر تصدر إليه لمجرد أنه أسود.

ورغم أن «مانديلا» سجل بشجاعة فى مذكراته أنه ما كان ليعترض لو أن هذا الأمر صدر إليه غير أن الواقعة استقرت فى وجدانه ولعبت دورا جوهريا فى تغيير مسار حياته وصنع أسطورته التى رافقت انعتاق بلاده من ربقة «الأبارتهيد».

شىء من «الأبارتهيد الاجتماعى» يسرى هنا فى مصر بلا اعتراض جدى عليه يوقف ويصحح، وهذه مأساة حقيقية تنال بقسوة من العدالة أو أية قيمة إنسانية أخرى أو أية مبادئ ملزمة فى الدستور.

فى قضية عدم تعيين (١٣٨) شابا بالنيابة العامة اجتهدوا فى دراستهم وحصلوا على أعلى الدرجات العلمية من كليات الحقوق والشريعة والقانون ما يتجاوز أى طابع موقوت إلى ما هو مستقر وخطير من أفكار وتصورات تنحو بصورة صريحة إلى التمييز على أساس اجتماعى.

ما معنى اشتراط «حصول الوالدين على مؤهل عال» للالتحاق بالنيابة العامة إلا أن يكون توغلا فى التمييز واعتداء صريحا على قوانين العمل الدولية والمحلية وعلى الدستور نفسه بما يلحق أذى فادحا بسمعة مؤسسة من مصلحة كل مصرى أن تتثبت الثقة العامة فيها.

رغم مرور وقت طويل نسبيا على هذه القضية فإنها مازالت معلقة فى الهواء بلا حسم يحترم النص الدستورى الذى يجرم التمييز «بسبب الدين أو العقيدة أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعى أو الانتماء السياسى أو لأى سبب آخر».

الدستور هو أبو القوانين وأول واجبات مؤسسة العدالة الالتزام الصارم بما ينص عليه من قيم، وإلا فإن كل شىء ينتسب إلى دولة القانون يتقوض وكل شيء ينتسب إلى المستقبل يضيع.

عن أية مستقبل نتحدث إذا كان الحق فى العمل وفق الكفاءة ينتهك بقسوة والحق فى الترقى الاجتماعى يُداس؟

أفضل ما ينسب لثورة يوليو أنها فتحت المجال لأوسع حراك اجتماعى فى التاريخ المصرى الحديث، فإلى أين نعود بالضبط؟

أن يكون الاستبعاد على أساس طبقى والتعيين على أساس التوريث، فأكثر من ثلث الذين عينوا فى النيابة من أبناء القضاة، فأية عدالة فى هذا البلد؟

أن تتمدد الثقافة ذاتها فى مؤسسات حساسة أخرى فإن فكرة العدالة تصبح من الذكريات القديمة رغم أن المصريين قاموا بثورتين فى ثلاث سنوات من أجل رفع المظالم التى أثقلتهم.

قبل سنوات روع المجتمع كله من انتحار الشاب «عبدالحميد شتا» بعد حرمانه من حقه فى التعيين بالسلك الدبلوماسى التجارى بذريعة أنه «غير لائق اجتماعيا»، فهل ننتظر انتحارات أخرى حتى يروع المجتمع من جديد ويدرك أنه أمام مشكلة حقيقية تسحق ثقة الأجيال الجديدة فى مستقبلها.

الغريب أن كل رؤساء مصر بلا استثناء واحد لا هم أولاد بشاوات ولا ينتمون إلى عرق أزرق وأن وظائف آبائهم توزعت ما بين موظف بريد وممرض بالجيش ومحضر بمحكمة وفلاح أجير وصاحب محل أرابيسك.

كيف يحاسب معاون النيابة بمعيار لا يحاسب به من يتولى رئاسة الجمهورية؟

بغض النظر عن أية اعتبارات سياسية فإن الأمر لا يعيب أحدا بل هو وثيقة شرف للأسر الفقيرة التى جاهدت وتعبت وتحملت لتعليم أبنائها ودفعهم إلى الأمام.

أرجو أن تراجع المستوى الاجتماعى لكل الذين تولوا المهام الوزارية والتنفيذية والسيادية العليا فى هذا البلد منذ الخمسينيات حتى الآن وكل الذين تصدروا المشهد العام من كبار صحفيين وأدباء وفنانين وأن يراجع المستوى نفسه لرؤساء الهيئات القضائية على مدى كل هذه العهود.

حتى قبل يوليو فإن أغلب من لعبوا أدوارا حاسمة على أى مستوى سياسى وثقافى افتقد أباؤهم أية درجة تعليم معقولة بل أغلبهم أميون.

أغلب الزعامات الوطنية نفسها من أبناء الفلاحين كـ«أحمد عرابى» و«سعد زغلول»، الأول تنسب ثورته إلى أصحاب الجلاليب الزرقاء والثانى قال إنه يفخر بالانتساب إليهم.

من يصدق الكلام السياسى عن العدالة فى هذا البلد إذا كان الدستور ينتهك على نحو فادح دون اتخاذ ما هو ضرورى من إجراءات تنصف وتصحح وترد اعتبار ثقة البلد فى نفسه ومستقبله.

القضية ليست طلب وظيفة لمجموعة من الشبان ولا موضوعا يمكن غض الطرف عن دلالاته الخطيرة.

إذا ما كانت الأسباب أمنية فالأمر يحتاج إلى تدقيق وإعادة فحص أما إذا كان الأمر من أوله لآخره «أبارتهيد اجتماعى» فهذا عار لا تستحقه مصر ولا مؤسسة العدالة فيها.

وفق مذكرة أرسلها المستبعدون من تعيينات النيابة العامة إلى رئيس الجمهورية فإن شرط حصول الوالدين على مؤهل عال استهدفهم رغم ما أثبتته تحريات الأمن الوطنى من عدم انتمائهم لأى فصيل سياسى لإضافة آخرين إلى قائمة التعيينات لم يخضعوا لاختبارات من قبل مجلس القضاء الأعلى.

وبحسب ما ورد فى نفس المذكرة فإن المستبعدين يطلبون إجراء تحريات جديدة من قبل رئاسة الجمهورية رغم «سلامة التحريات الأولى» وتشكيل لجنة من شيوخ قضاة مجلس الدولة حصن الحقوق والحريات لطلب الفتوى والرأى فى المظلمة.

باليقين فإن المظلمة لا تخصهم وحدهم، فهى مظلمة مجتمع أغلبيته من «العمال والفلاحين» والأسر الفقيرة والمستورة تتعب وتجد رغم شظف الحياة فى تعليم أبنائها فإذا بها أمام انسداد لأى أفق وضياع لأى أمل.

هذا «الأبارتهيد الاجتماعى» لا يصح أن يمر تحت أية ذريعة والتراجع عنه ضرورى فسمعة مؤسسة العدالة لا يصح أن تتعرض لأى تجريف جديد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved