العراق وسقوط التانجو - صحافة عربية - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العراق وسقوط التانجو

نشر فى : الثلاثاء 4 سبتمبر 2018 - 10:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 4 سبتمبر 2018 - 10:10 م
اتفت السياسى العراقى فأدرك الغرض. سألنى عن موعد زيارتى فقلت: بعد تشكيل الحكومة عندكم. ضحك وقال: «أخشى أنك ستتأخر. لقد وقعنا كما دائما فى لعبة أكبر منا. إن تشكيل الحكومة يحتاج عمليا إلى إيجاد تسوية بين بريت ماكجورك (المبعوث الرئاسى الأمريكى فى التحالف الدولى ضد داعش) وقاسم سليمانى (قائد فيلق القدس). صحيح أن التجاذب بين طهران وواشنطن على أرض العراق ليس جديدا. لكن الصحيح أيضا أنه يقترب هذه المرة من معركة كسر عظم، لأنه يدور على خلفية الأزمة الناجمة من انسحاب إدارة دونالد ترامب من الاتفاق النووى وعودة أمريكا إلى فرض عقوبات موجعة على إيران».
وأضاف: «لم يحدث أن كان إطار البحث عن الحكومة بمثل هذه الصعوبة. لم يرمم عهد ما بعد صدام حسين العلاقات بين المكونات بل فاقمها. دعك من تصريحات المجاملة العلنية، والتدهور فى العلاقات العربية ــ الكردية لا يحتاج إلى دليل منذ استفتاء العام الماضى وعملية التأديب التى تبعته والعلاقات الشيعية ــ السنية ليست هى الأخرى فى أفضل أحوالها. تضاف إلى الصورة التمزقات داخل المكونات نفسها. (البيت الشيعى) نفسه منقسم على الرغم من النشاط الإيرانى المحموم. والخلافات بين السنة العرب لا تخفيها صورة تذكارية تحت سقف واحد. والبيت الكردى معروف أصلا بظاهرة الانقسامات عند المفترقات».
وقال: «منذ سقوط صدام حصل نوع من التعايش بين النفوذين الأميركى والإيرانى على أرض العراق. والتزمت طهران بقدر من التعايش هذا لتشجيع الأمريكيين على الانسحاب أولا، ثم لتسهيل التوصل إلى الاتفاق النووى فى عهد أوباما. الوضع مختلف تماما اليوم. الاقتصاد الإيرانى فى وضع سيئ. وإذا ذهبت إدارة ترامب بعيدا فى الاتجاه الذى أعلنت عنه لن يكون مستبعدا أن تقرر إيران كسر التوازن وتحجيم النفوذ الأمريكى. ولمعركة من هذا النوع أثمانها حتى بالنسبة إلى التوازنات الداخلية فى العراق وكذلك بالنسبة لموقع العراق فى الاصطفاف الإقليمى».
ولم ينسَ السياسى أن يذكرنى فى ختام المكالمة بأن العراق ليس البلد الوحيد المريض، وأن لبنان يبحث أيضا عن حكومة جديدة قد تتأخر ولادتها بسبب الأزمة المتصاعدة بين طهران وواشنطن، لأن للخلاف على أحجام الكتل علاقة بسياسات أكبر منها.
اتصلت بسياسى آخر. بدت الصورة لديه أشد قتامة إذ انطلق فى الحديث من الأنباء الصحافية الأخيرة التى تحدثت عن قيام إيران بتزويد الميليشيات الموالية لها فى العراق وسوريا ولبنان واليمن بصواريخ متفاوتة المسافات، إضافة إلى إقامة مصانع صواريخ فى هذه البلدان. ولاحظ «أن الوجود العسكرى الروسى فى سوريا يحرم إيران من التصرف بحرية مطلقة. وإذا اختارت طهران نشر قوة صاروخية فى العراق لتهديد إسرائيل والدول الخليجية، فإن فصلا جديدا صعبا من المأساة العراقية سيبدأ، خصوصا إذا قررت إيران إسناد أدوار حوثية لميليشيات الحشد الشعبى العراقى».
واضح أن اللعبة أفلتت مرة أخرى من أيدى العراقيين. وأن الطبقة السياسية أضاعت فرصة استرجاع العراق من أيدى اللاعبين الخارجيين على الرغم من الاحتكام مرات عدة إلى صناديق الاقتراع. وأن منطق الدولة لا يزال اللاعب الأضعف على أرض العراق، وأن الشراهات الداخلية والخارجية جعلت من انتهاك الدستور ممارسة طبيعية مقبولة.
هل يعقل أن يكون العراق فى هذه الحالة بعد مرور خمسة عشر عاما على إسقاط نظام صدام؟ المؤلم الآن أنه لم يعد باستطاعة السياسيين العراقيين تعليق التدهور على شماعة النظام البائد أو على قرار بول بريمر بحل الجيش. المؤلم أن العراق شهد بعد رحيل صدام أكبر وليمة فساد فى العصر الحديث وثمة من يعتقد أنها تفوق ما عاشته روسيا غداة انهيار الاتحاد السوفياتى. قصة المليارات الضائعة لم تعد بحاجة إلى توثيق. لم تعد الشراهة مرضا بل تحولت وباء لم تردعه محاولات التلقيح الخجولة.
حالت الشراهة السياسية والمالية ونزعات الاستئثار والغلبة دون ترميم روح التركيبة العراقية. لا الفريق الذى اعتبر نفسه منتصرا نجح فى عقلنة انتصاره ولا الفريق الذى اعتبر نفسه مهزوما نجح فى عقلنة خسارته. انتصر منطق التربص والتأجيل والرهان على المظلات الخارجية. كشفت إطلالة «داعش» الدموية افتقار البلد ومؤسساته إلى الحصانة. حالت هذه العقلية مثلا دون الالتزام بالمادة 140 التى نصت على معالجة ملف المناطق المتنازع عليها. وهكذا تسمم التانجو العربى ــ الكردى. وأدت السياسات والتربصات الفئوية إلى تسميم التانجو الشيعى ــ السنى. وفى هذا المناخ عاد منطق المحاصصة والميليشيات ليتقدم على منطق الدولة والدستور والمؤسسات.
لا يمكن إعفاء المواطن العراقى العادى من المسئولية تماما كما لا يمكن إعفاء اللبنانى مثلا. يتذمر المواطن من الفاسدين والشرهين وملتهمى الدولة، ثم يذهب لأسباب فئوية لانتخاب صانعى المأساة التى يشكو منها. المواطن شريك للقوى السياسية فى إضاعة الفرص.
ليس بسيطا أن يعود العراقى إلى رفع مطالب بديهية من نوع المطالبة بالكهرباء ومياه الشرب والخدمات الأساسية، فى وقت يلتهم فيه الشرهون ميزانيات الوزارات من دون أن يرف لهم جفن. بلد يسبح فى بحر من الأزمات وتضيع ثروته وسط معارك الاستئثار والشراهة والانصياع لإرادات خارجية.
ليس بسيطا أن ينتظر العراقى العادى نتائج جولات قاسم سليمانى على السياسيين موزعا التنبيهات والضمادات والتطمينات، ولا أن ينتظر نتائج زيارات ماكجورك والتى استدعت أيضا اتصالات من وزير الخارجية الأميركى مايكل بومبيو. إن تعثر تانجو التعايش فى الداخل ينذر بدورة جديدة من التدهور إذا شهدنا فى الفترة المقبلة سقوطا نهائيا للتانجو الإيرانى ــ الأمريكى على أرض العراق.
لا حل بلا دولة تستحق التسمية. ولا بد من التانجو. وشرط النجاح فى الرقص أن تفهم شريكك وتوزن خطواتك على خطواته. لا بد من إخضاع السياسيين العراقيين واللبنانيين لدورات مكثفة فى أصول التانجو. الشراهة تفشل الرقصة وتقتل الدولة.

غسان شربل
الشرق الأوسط – لندن
التعليقات