مصر «المتنورة» - أنيسة عصام حسونة - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 12:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر «المتنورة»

نشر فى : الثلاثاء 12 مايو 2009 - 7:52 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 مايو 2009 - 7:52 م

 أعلم أن البعض سينبهنى إلى أن الكلمة الواجب استخدامها هنا وفقا لقواعد اللغة العربية هى «المستنيرة» ولكن الحقيقة أن لفظ «المتنورة» هو التعبير الشعبى الواقعى عما أريد الحديث عنه، حيث اعتاد المصريون البسطاء التعبير عن إعجابهم بآراء وأداء المتعلمين واصفين الشخص بأنه «متنور»، مشيرين بذلك إلى حسن الفهم واتساع المعرفة وحكمة التصرف إلى جانب العقلانية وحسن إدراك الأمور ووضعها فى نصابها الصحيح، وبهذه المعانى مجتمعة كانت مصر إلى وقت قريب «متنورة».

فلم تصنع مصر مكانتها الرائدة والمتميزة وتحافظ عليها عبر التاريخ استنادا إلى موارد مادية، بل لطالما قادت عالمها العربى اعتمادا على كونها مصدرا للإشعاع الحضارى فى محيطها ومنبرا لإطلاق المبادرات الإصلاحية الرائدة فى مجالى الفكر والثقافة، وفى هذا اعتمدت مصر على ثروتها الحقيقية «مثقفيها ومفكريها» مفاخرة بهم الأصدقاء قبل الأعداء ومباهية بدورهم فى دعم دورها التنويرى الرائد.

وفى ظل هذا المناخ الفكرى المنفتح على مختلف الثقافات والتوجهات، تشربت أنا والكثيرون من أبناء جيلى قيم التسامح واحترام الرأى الآخر وإعلاء قيمة العقل، ودرسنا مختلف التوجهات الفكرية وتيارات العالم الثقافية والاجتماعية، فرحبنا بالحوار واحترمنا الخلاف فى وجهات النظر تأسيا بمقولة الإمام الشافعى الشهيرة: «ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ، فرأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب».

وفى ضوء ذلك يثير فزعنا حاليا تصاعد نبرة التعصب والغضب وتطاير الاتهامات فى الفضاء السياسى والاجتماعى، ما أسهم إلى حد بعيد فى زرع مفاهيم استهجان الآراء المخالفة وعدم احترام الحق فى الاجتهاد القائم على إعمال الفكر فى نفوس الأجيال الشابة.

ويبدو تذكر هذه الإشارات والمظاهر ضرورة ملحة فى هذه الأيام التى تشهد مساجلات عنيفة بين رموز دينية وثقافية وسياسية لها وزنها لدى الرأى العام، حول قضايا تثير البلبلة وتكرس الانقسام إلى معسكرات، تجاهر بالعداء وترفض الخلاف فى الرأى ولا تقبل الاجتهاد فيما هو مطروح للجدل. وذلك رغم أن الأديان جميعها قد أعلت من قدر الفكر والعقل وجعلته مناط التكليف.

وتتمثل مظاهر الخلاف الحاد فى الرأى فى نطاق واسع من القضايا يمتد من النواحى القانونية مثل قانون بناء دور العبادة مرورا بالقضايا السياسية مثل دور الجماعات الدينية وانتهاء بالقضايا الصحية مثل قرار نقل الخنازير وذبحها.

ملاحظين أنه قد أصبح من السهل علينا توجيه أقسى الاتهامات وإصدار أشد الأحكام التى تصنف المخالفين لنا فى خانة الأعداء مزايدين على بعضنا البعض فى درجة التزمت والانغلاق بهدف إقصاء الآراء المخالفة، ولو على استحياء، من الساحة..

ولا مراء أن الأمر قد أضحى يستلزم نظرة فاحصة إلى ما يحيط بنا من نتائج الجمود الفكرى والتعلق بمظاهر الخلاف الثانوية، ما يوشك على ابتلاع الطمأنينة التى لطالما تمتع بها هذا الشعب على هذه الأرض. فالاحتقان سيستمر فى التصاعد لطالما اكتفينا بتبنى إصلاحات تجميلية على السطح، دون إخراج الأمر إلى العلن.

فالعنف فى رد الفعل المستخدم من جانب شباب غض لا يعبر فى حقيقة الأمر عن موقف دينى بقدر ما يعكس غضبا من العالم المحيط يحرق الصدور الشابة ويتحين الفرصة للانفجار فى وجوه الآخرين. وهو فى جوهره احتجاج صارخ النبرة على الافتقار إلى مشروع ثقافى واضح يحتوى ويحترم ويجمع التيارات المتنوعة فى توجه تنويرى نحو المستقبل.

فعلى من يجب أن ننحى باللائمة فى ما وصلنا إليه؟ الحقيقة... علينا جميعا فقد أسهم كل منا بشكل أو بآخر فى الوصول إلى هذا الوضع إما إيجابا أو سلبا، أى إما كفاعلين أو كمشاهدين.

وإننى إذا استطعت أن أفهم دور الفاعلين من المتطرفين الذين لديهم أجنده خاصة ــ لا يعلم بحقيقة أهدافها سوى الله وحده يتم تنفيذها بدأب ومثابرة مترقبين كل ثغرة أو خلل لإذكاء نار التعصب والبغضاء بين أبناء هذا الشعب ــ فإننى أعجز عن تفسير موقف نسبة لا يستهان بها من المثقفين والمفكرين، الذين آثروا السلامة ونكصوا عن إعلان موقف واضح من استخدام الغطاء الدينى لتحقيق أغراض خاصة. بل وساعدوا فى تصنيف بعضهم البعض لأسباب مختلفة، مساهمين بذلك فى زيادة حيرة وبلبلة الأجيال الشابة.

فماذا عسانا أن نفعل لاسترداد مصر التى نعرفها! المخرج الوحيد هو الانتقال الفورى من خانة المشاهدين إلى مربع الفاعلين، متخذين موقفا يرفض أن نورث لأبنائنا وطنا ضعيفا فى وحدته وانسجام نسيجه، لا يحترم حرية التعبير والخلاف فى الرأى ويستهجن سعى المرأة إلى الحصول على حقوقها غير منقوصة. فمصر كما نعرفها هى بالفعل «أم الدنيا» فى الحضارة والتسامح والفكر المستنير فلم تقد منطقتها بأموالها ولا بقوتها العسكرية أو مواردها الاقتصادية بل بأفكارها وانفتاحها واستيعابها للجميع ودفاعها عن الحق والعدل.

ولا شك فى أن مصر ما زالت تتمتع بجميع المقومات التى تؤهلها لاستعادة دورها التنويرى القائد استنادا إلى قيامها بتبنى مفاهيم الحوار ودعم قيم المواطنة وتقبل الاختلاف فى الرأى واحترام حقوق المرأة وحرياتها. وتستطيع أن تحقق ذلك من خلال إيجاد مناخ ثقافى تنويرى يسعى نحو توسيع دائرة النقاش الحر ودعم حرية الاختيار بين البدائل المتاحة دون تحيزات مسبقة.

إن ما نحتاج إليه بشدة الآن هو دعم جهود التنوير المبذولة فى جميع المجالات بهدف إيجاد بيئة ثقافية تحترم حقوق الأفراد، على اختلاف انتماءاتهم الفكرية فى إطار معتقداتهم الدينية. وهنا يأتى الدور الفاعل للمثقفين والمفكرين لمساندة الجهود التى تبذل فى مجال إصلاح البيئة الثقافية ومنظومة القيم السائدة، سعيا نحو تغيير الوضعية الذهنية الحالية التى أضحت أسيرة لبعض الدعاوى الرامية إلى جذب المجتمع المصرى إلى الوراء، ما ينعكس سلبا على حرية الاجتهاد والتفكير؛ ويتمثل فى النظرة غير المنصفة إلى دور المرأة وقدرتها على المساهمة فى الانتقال بمصر إلى مصاف الدول القائدة لمسيرة التقدم الإنسانى.

فدعونا سيداتى وسادتى نجتمع على هدف واحد جامع هو استرداد «مصرنا المتنورة»، مدركين أن «التنوير» يساعد على «الاختيار» ويدعم حسن «اتخاذ القرار». وذلك فى ظل مناخ ثقافى يسعى إلى إعلاء قيم الحوار الموضوعى واحترام حقوق المواطنة والتواصل المجتمعى الإيجابى. مؤمنين فى أعماقنا أننا جميعا مواطنون مصريون متساوون فى الحقوق والواجبات، نعيش على نفس الأرض فى ظل التاريخ نفسه، ساعين إلى ذات المستقبل.

أنيسة عصام حسونة  كاتبة وباحثة سياسية
التعليقات