فرنسا حائرة فى أوروبا مريضة - صحافة عربية - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 2:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فرنسا حائرة فى أوروبا مريضة

نشر فى : الأربعاء 12 ديسمبر 2018 - 12:15 ص | آخر تحديث : الأربعاء 12 ديسمبر 2018 - 12:15 ص

نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب «غسان شربل» عن الأحداث الأخيرة فى فرنسا وتداعياتها.
فى الديمقراطيات، الرأى العام حصان متهور وغدار. يحملك إلى القصر فى موجة هادرة، يطالبك سريعا بمعجزات تفوق صلاحياتك، متناسيا العقبات البيروقراطية والسياسية والنفسية. وحين تتأخر فى إبهاره يبدأ إشهار ندمه فتنطلق الخيبات والاحتجاجات وتصفية الحسابات. واليوم غيّرت التكنولوجيا قواعد اللعبة. جعلتها أصعب وأخطر. بفعل الهواتف الذكية تحول كل مواطن حزبا مستقلا. صار لكل فرد صحيفته الخاصة على شاشة هاتفه. يدبّج ويغرّد ويعارض ويندد ويوزع الأخبار والشائعات. وصار باستطاعة وسائل التواصل الاجتماعى تجميع النقاط المتفرقة وتحويلها نهرا. وتجميع الرياح الصغيرة وإدماجها فى عاصفة هوجاء. كانت السلطة تراقب الأحزاب والنقابات والمتمردين البارزين. من يستطيع اليوم زرع شرطى فى هاتف كل مواطن وقفل فى عقله؟
قبل أسابيع كان فى استطاعة إيمانويل ماكرون أن يواصل ارتكاب الأحلام الكبيرة رغم استطلاعات الرأى التى أكدت الانحسار الهائل الذى ضرب الموجة التى حملته إلى قصر الإليزيه. بدا الملعب الأوروبى مفتوحا وينتظر رجلا قادرا على التحدث باسم القارة وليس باسم بلاده وحدها. المشهد الأوروبى يثير اللعاب فعلا. أنجيلا ميركل المستشارة التى كانت فى السنوات الماضية العمود الفقرى للعمل الأوروبى المشترك بدأت جمع أوراقها استعدادا للمغادرة. تخلت عن زعامة الحزب لتغادر لاحقا مقر المستشارية. ومن جهة أخرى، تنشغل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى باستكمال إجراءات الطلاق مع الاتحاد الأوروبى، وتصارع على جبهة بروكسل وتحاول تفادى طعنات معارضيها وخناجر رفاقها فى الحزب. وحدها فرنسا بدت مؤهلة لملء الفراغ الذى سيحدثه سلوك ميركل طريق التقاعد وسلوك ماى طريق الطلاق.
وكان ماكرون يحاول إعداد نفسه لهذا الدور الكبير. أوروبا ليست فى أفضل أحوالها. وسوء التفاهم مستحكم بين ضفتى الأطلسى. يغرف دونالد ترامب من قاموس يصعب على قادة القارة القديمة قبوله. يطالب أوروبا بأن تتحمل مسئوليات أكبر فى الدفاع عن نفسها. يذكّر قادتها بأن الجيش الأمريكى أنقذ القارة مرتين، لكن أمريكا تعبت من الإنفاق السخى لضمان سلامة حلفائها. فى المقابل لا يترك فلاديمير بوتين سانحة إلا ويغتنمها لإضعاف الروح الأطلسية والغربية. استعاد القرم بمنطق إعادة الفرع إلى الأصل. وهز استقرار أوكرانيا مذكرا الأوروبيين بأن روسيا لن تتسامح حيال محاولات محاصرتها أو تطويقها أو تكريسها قوة من الدرجة الثانية.
لا تتعلق المسألة فقط بالتنافس الأمريكى ــ الروسى. على أوروبا أن تحاول العثور لنفسها على موقع فى العالم الذى تتوالى إشارات تشكّله. لم يعد الصعود الآسيوى مجرد تكهنات صحفية. إنه حقيقة ملموسة. تعيش بكين اليوم فى ظل أقوى زعامة تعرفها منذ عهد ماوتسى تونج. سيد الاقتصاد الثانى فى العالم يريد لبلاده ما هو أكثر من طريق الحرير. وفى الانشغال بالصعود الصينى، يجب ألا يغيب عن البال ما حققته الهند من تقدم تكنولوجى يؤهلها لأن تكون لاعبا كبيرا فى المرحلة المقبلة إلى جانب أمريكا والصين وأوروبا.
أكثر من أى وقت مضى، يبدو العالم فى مهب المفاجآت. وصول ترامب إلى البيت الأبيض ليس حدثا بسيطا. أسلوبه فى إدارة أمريكا وشئون العالم جديد وغريب ويصعب تجاهله كما يصعب اللحاق به. وحين تتغير أمريكا يتغير العالم أيضا. روسيا بوتين ليست خصما سهلا هى الأخرى. يتلاعب القيصر بالأوراق ويحرك بيادقه ثم يطالب العالم بالإقرار له بمكاسبه. وفى هذا الوقت بدت أوروبا حائرة. توحى أحيانا كأن البيت الأوروبى شيد على عجل، وتجاهل أن دوله تتقدم بسرعات مختلفة يصعب أحيانا التوفيق بينها. ليس بسيطا أيضا أن يختار البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبى ثم يكتشفون فى اليوم التالى أن دعاة الخروج لا يملكون خطة مقنعة لمواجهة أعباء الطلاق. يرتكب الرأى العام أحيانا مغامرات مكلفة تحت وطأة الأصوات الشعبوية والتذمر من الضرائب، وتراجع الثقة بالطبقة السياسية ودفق الأخبار والأوهام عبر وسائل التواصل الاجتماعى.
كان ماكرون يحلم بأن يؤهل فرنسا لدور أكبر فى أوروبا. وهو يعرف أن الأدوار فى العالم الحالى تحتاج إلى اقتصاد عصرى متحرر من أثقال الأفكار القديمة والتقديمات التى تمنع الاقتصاد من النمو والتقدم والمنافسة. يعرف أن على الفرنسيين تجرع أدوية مرة إذا أرادوا اقتصادا قادرا على التكيف المتواصل واجتذاب الاستثمارات. من هنا شرع فى إجراء بعض الإصلاحات. لكن سرعان ما التصقت بالرئيس الشاب صفة «رئيس الأغنياء». أخذوا عليه تركيز القرار فى الإليزيه وعدم إعطاء المساحة الكافية للمؤسسات وللجهد الضرورى لإقناع المواطن العادى. اتسعت الهوة بين الرئيس والشارع وانهالت الحملات والاتهامات.
للفرنسيين فى النزول إلى الشارع تاريخ حافل. لم يكن الرئيس الحالى قد ولد بعد حين تدفقوا فى شوارع باريس فى مايو 1968. يومها كان الإليزيه فى عهدة رجل اسمه شارل ديجول. كانت صلاحياته واسعة وكانت هالته أكبر من صلاحياته. غرقت فرنسا فى الفوضى والحيرة وبدا أن الذين اقتلعوا أرصفة الشوارع اقتلعوا أيضا أعمدة النظام. اختار ديجول يومها عدم الاستسلام وراهن على خوف الفرنسيين من المصير المجهول الذى يحوم فى الأفق. حل الجمعية الوطنية وذهب إلى انتخابات عامة عاد منها منتصرا. لكنه بعد عام واحد تذرع بنتائج مخيبة فى استفتاء حول اللا مركزية وتنحى. كأنه يئس من قدرته على إقناع الفرنسيين الذين يسخرون من الرئيس العادى ويكرهون الرئيس صاحب الهالة.
كان ماكرون يحلم بالدور الأوروبى الكبير حين أطلت السترات الصفراء فى الشوارع. وكالعادة اختلط غضب أصحاب المطالب بممارسات أصحاب السوابق. الناقمون على الحكومة وضرائبها ونهجها. والناقمون على المشروع الأوروبى نفسه وتعليمات بروكسل. المتشددون من اليمين والمتطرفون من اليسار. إنها فرنسا الحائرة بين الدور ومستلزماته والإنقاذ وأثمانه. دولة حائرة فى قارة قلقة يحلم مهاجرون كثيرون بإلقاء أنفسهم فى عواصمها.

الشرق الأوسط ــ لندن

التعليقات