ثائرات ولهن الحق - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 5:06 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثائرات ولهن الحق

نشر فى : الأحد 17 نوفمبر 2019 - 1:50 ص | آخر تحديث : الأحد 17 نوفمبر 2019 - 1:50 ص

نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة «سوسن الأبطح» وجاء فيه:

باسم منال وكريستال ورولا وباقى الأخريات اللواتى قتلن بدم بارد بأيدى أزواجهن نزلت النساء اللبنانيات للاحتجاج فى الساحات بأعداد غفيرة. باسم اللواتى لم تجفَّ دموعُهن ولا يزلن يبحثن عن أولادهن الذين اختفوا بالآلاف خلال الحرب الأهلية ولم يعودوا، ولم تعبأ الدولة بالكشف عن مصيرهم. باسم مئات آلاف الأمهات المحرومات من فلذات أكبادهن الموزعين فى المغتربات، بعد أن أصبحَ ترف الحصول على وظيفة حكرا على الزعيم وعائلته وبطانته. باسم نادين جونى، العشرينية التى توفيت بحادث سير، لأن الطرقات لم يُعبِّدها المتعهدون المختلسون بما يليق بالبشر، وقضت عمرها على أمل واحد، هو أن تعيد طفلها إلى حضنها الذى انتزعه منها طليقها رضيعا، بقوة المحكمة الجعفرية، وحرمت منه، ولفظت أنفاسها وهى تشهّر بالفساد. باسم كل هؤلاء، وعشرات المطالب المحقة، ودهر من المظالم المتراكمة، والتمييز الذكورى المخالف للدستور، الذى يساوى بين المواطنين من دون تفرقة، كانت النساء المحتجات فى الصفوف الأولى، وربما تجمّعن بعفويتهن من دون دعوة لجمعية أو هيئة. يكفى أن يتنادين، ويسرن فى الشارع كى يتنامى عددهن ويكبر، وتنطلق حناجرهن بالهتافات.

كل الفيديوهات والصور التى انتشرت لفاتنات المظاهرات وجميلاتها، هى القشرة التى شغلت بظاهرها، ونأت عن البواطن المحتدمة بالألم المعتق، لفئة دفعت الثمن الأغلى، فى الحرب، دماء الأحباب، وفى السلم، حرمانا من فلذات الأكباد. لذلك أتين مع صغارهن، والرضّع منهم. كلٌ معنىّ بما يحدث. جاءت الجدّات أيضا اللواتى التعن طويلا بحمم نيران أحزاب لا تزال تمارس جورها، وكأنما لا حرب انتهت، ولا دولة انتظمت. ثمة من حضّرت الساندويتشات لأولادها ولأصدقائهم. من نامت فى الخيام مع شبانها كى تبقى مطمئنة عليهم، كما وفاء، المرأة المسنة، المريضة، التى تعتصم طوال الليل مع ابنها، وحين كان التدافع، ركلت حتى وقعت على الأرض، وصارت صورة ولدها وهو يحتضنها ويبكى واحدة من وقود المشاعر ولهبها.

هؤلاء حفيدات عنبرة سلام الخالدى، رائدة النهضة النسائية ومترجمة «الإلياذة» و«الأوديسة»، وسليلات هوغيت الخورى كالان، ابنة بشارة الخورى أول رئيس للجمهورية اللبنانية، التى تركت كل شيء وراءها، وذهبت إلى أمريكا وحيدة شريدة، تنشد بوهيميتها، وحريتها، وانعتاقها، بلوحاتها التشكيلية التى دخلت أكبر متاحف العالم. كل واحدة منهن تعرف أنها تستند إلى جرأة الأديبة زينب فواز، ونضارة قلم جوليا طعمة دمشقية التى كانت رائدة وصحافية منذ مطلع القرن الماضى، وبسالة نظيرة زين الدين التى كتبت عن «السفور والحجاب» وهى لم تبلغ العشرين. التاريخ لا يذهب هدرا، والتجارب تراكم وتختمر، مع ذلك لم تعر السلطة النساء اللواتى قدن الجمعيات والتحركات المدنية المطلبية، طوال السنين الفائتة، اهتماما يذكر. طالبن بحقهن فى الحماية من العنف المنزلى على الأقل، وإنصافهن أمواتا حين يتحول الزوج إلى وحش لا يرد، ولم يصغ لهن إلا لماما. أردن حمايتهن من الزواج المبكر، وجنسية لأولاهن حين يتزوجن من غير لبنانى، فسخر منهن.

لم تصغِ السلطة إلى النساء ومطالبهن، وكلما كانت تنحنى أمام حق، لا تعطيه إلا مشوها مجتزأً، مبتورة أطرافه، ليبقين فى حاجة إلى استكماله. مع أن النساء يمارسن حقهن فى الانتخاب منذ عام 1952. وتمكنّ من انتزاع مطلبهن هذا بعد 30 سنة من النضال. وهنَّ على أى حال لم يعطَ لهن شيء بمنة من أحد، وصرن بفضل اجتهادهن، ومثابرتهن فقط، جنبا إلى جنب مع الرجال، يعلّمن فى الجامعات ويجلسن قاضيات على قوس المحكمة، وسفيرات، ويقدن الطائرات ومكتشفات فى المختبرات، ومتفوقات فى نتائجهن التعليمية ومعروفات بنزاهتهن حيث تعملن. كل ما حققنه جاء بسواعدهن ومن شحذ عزائمهن.

عجزت الحركات النسائية، وهى تحاول إقناع زعماء الطوائف بالكوتا النسائية، غلبت وهى تقنعهم بالتخلى عن حساباتهم العصبية الضيقة، وهم يصوتون على قرارات يمكنها أن تعطى المرأة أمنا وشيئا من الاستقرار العائلى، وقانونا مدنيا يسمح لهن باختيار نمط الحياة الذى يردن عيشه.
الهوة كبيرة بين ما أنجزته المرأة على الأرض، وما يعترف لها به. بين قوتها على تحريك المجتمع والتأثير فيه، وتمثيلها الهزيل المعيب فى المجلس النيابى والحكومة. فكل سيدة إلا استثناء، جيء بها إلى البرلمان أو الحكومة، لتمثل رجلا وتنطق بلسانه، لا لتتحرك بما تمليه عليها قناعاتها. وهذا أسوأ أنواع قهر الإرادة، وسلب الحرية.

نزلت النساء أفواجا، كن فى الأحيان قائدات للحراك، وناصحات ومنكّهات للمظاهرات، قادرات على إخراجها من جوها المشحون إلى لطف وظرف، الجميع بحاجة إليهما كى تستمر الاحتجاجات دون كلل أو كبير غضب وجلافة. وكما فى بيوتهن، نظفن الساحات، وفى مشهد مؤثر حملن الإسفنجات والصابون وحففن ما علق من سواد الحرائق وبقايا الاسمنت على جدران نفق نهر الكلب، كى يخرج من انتفاضته أزهى وأحلى.

يريد الدستور اللبنانى للمرأة أن تكون كاملة الحقوق والإنسانية. وهى من ناحيتها، قدمت فى بلد حروبه أكثر من سلمه، وشجونه تفوق أفراحه بأشواط، ما تنوء به الجبال، بسبب الخوف والتهديدات المستمرة، والقلق الذى لا يستكين. ومع ذلك أراد هذا النظام الذكورى الطائفى، أن يبقيها هامشية، ونسى قادته أنها بمرور الوقت أمسكت بزمام أمور كثيرة، بعد أن هجّروا، زوجها وابنها وربما والدها قبل ذلك، وصارت معركتهم بالدرجة الأولى معها. وهذا ما لم يكن بالحسبان.

التعليقات