القهوة.. من زاد المتصوفة والملهمين في الشرق إلى مقاهي التنوير في الغرب - مواقع عالمية - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 10:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القهوة.. من زاد المتصوفة والملهمين في الشرق إلى مقاهي التنوير في الغرب

نشر فى : الإثنين 24 يونيو 2019 - 10:20 م | آخر تحديث : الإثنين 24 يونيو 2019 - 10:20 م

نشر موقع «قنطرة» مقالا للكاتب الجزائرى «إبراهيم مشارة» نعرض منه ما يلى:

إن المقاهى الأدبية كانت وجها من وجوه البلد الثقافية بل صورتها تعكس حالة النشاط الذى يميزه، كما يعكس اندثارها أو قلتها حالة الجدب الذى ينتابه. هذا ما كان يميز عواصم العالم الثقافية بمقاهيها كالقاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وباريس ولندن وروما. والذى لا شك فيه أن القهوة شراب عربى يمنى الأصل فقد كان منقوعُهُ زادَ المتصوفة يعينهم على السهر للتأمل والعبادة كما كان زاد الشعراء والملهمين.

وانتقلت معنى القهوة من دلالته على الخمرة إلى هذا المشروب الأسود الساخن والمنعش والمنبه، واتخذت له أماكن لشربه فى عواصم الشرق منذ أن سمح بذاك السلطان سليمان الأول باتخاذه مشروبا للشعب بعد الإفتاء بحليته وغدا الشعار: «القهوة شراب والقهوة مجلس».

انتقال المقاهى من الشرق إلى الغرب

ومن المشرق ومقاهيه نقل المستشرقون والرحالة الأوروبيون صورا رائعة عن الحميمية والتثاقف والمتعة الموجودة فى هذه المقاهى فانتقلت إلى أوروبا. وازداد المقهى أهمية وتكرس فضاء للتثاقف والتسلية فى القرن العشرين نتيجة الحربين العالميتين من جهة ومن جهة أخرى إحساس الفرد بالعزلة والحاجة الماسة إلى التواصل. فقد نقل عن سيمون دى بوفوار قولها عن المقهى: «أشعر أننى فى عائلتى».

وقال جورج مور الكاتب الإيرلندى: «إننى لم ألتحق بجامعة أكسفورد ولا بجامعة كامبردج ولكننى التحقت بمقهى أثينا الجديدة فمن أراد أن يعرف شيئا عن حياتى ينبغى أن يعرف شيئا عن أكاديمية الفنون الرفيعة هذه لا تلك الأكاديمية الرسمية الغبية التى تقرأ عنها فى الصحف». ويقول هنرى جيمس: «هنا يتمكن المرء من أن يجلس بسلام لساعات دون أن يزعجه النادل وهنا يتمكن من أن يقرأ ويكتب فى الصباح ويقوم بأعماله فى الظهيرة ويضحك ويناقش الأصدقاء فى الليل».

المقاهى الأدبية الباريسية

المقاهى الأدبية الباريسية لعل أشهرها «فلور» مقهى سارتر المفضل ومقهى «لى دو ماجو» المقهى المفضل لدى الصديقين المتمردين العدوين رامبو وفرلين و«ليب» مقهى زولا المفضل، ثم إرنست همنجواى فيما بعد، ولعل «البروكوب» هو أشهر وأعرق المقاهى الأدبية فى فرنسا.

فى هذه المقاهى بدأت المسيرة التنويرية والثورية والاحتجاج فقد أثر عن مونتيسكيو قوله: «لو كنت حاكما لهذا البلد لأغلقت المقاهى التى يرتادها أناس يقومون بإشعال الأدمغة»!

ومن مقاهى باريس اشتعلت الثورات الفكرية والفنية والأدبية وبين جدرانها نشأت التيارات السياسية والأدبية والفنية ومن أرحامها ولدت البيانات وتليت القصائد. فأندريه بريتون يصدر البيانات الشعرية فى مقهى من مقاهى الحى اللاتينى ومن مقهى فلور يعترض سارتر على حرب الجزائر وينظم المسيرات المؤيدة للثورة الجزائرية وفى هذا المقهى بالذات يتعرض لاعتداء يكاد يودى بحياته. ونظرا لأهمية هذه المقاهى صارت مواضيع دراسات أكاديمية وثقافية وفنية، وحتى أن كاتبة عربية هى هدى الزين كتبت كتابا عنها: «المقاهى الأدبية فى باريس حكايات وتاريخ».

لكن مقهى البروكوب هو أعرق مقهى فى باريس ــ ولعله أعرق مقهى فى العالم ــ فتاريخه يعود إلى القرن السابع عشر وبالتحديد إلى العام 1686 حين فكر السيد الإيطالى الأصل فرانشيسكو بروكوبيو فى إنشاء مقهى صغير، وسرعان ما نجح المقهى وصار يتردد عليه الأدباء والشعراء والفلاسفة فهو فى مكان ممتاز فى قلب باريس وفى مكان شاعرى جميل تجتمع فيه بالنسبة للرواد من الشعراء والفلاسفة وقتئذ رائحة الطعام برائحة القهوة والنبيذ المعتق ورائحة التبغ.

واستمر المقهى يكرس السلوكيات العلمية والحوارات الفلسفية والثورات الفكرية فى القرن الثامن عشر وكتب فيه مونتيسكيو جزءا من الرسائل الفارسية وشهد تردد شعراء الرومانسية عليه خاصة فكتور هوجو. وما زالت الجدران مزينة ببنود حقوق الإنسان والمواطنة كهذه الصيحة من لويس السادس عشر وزوجته مارى أنطوانيت وهما يساقان إلى الإعدام: «نتمنى محاسبة من تسبب فى تعاسة الشعب».

مقهى انطلقت منه شرارة الثورة الفرنسية

من هذا المقهى انطلقت شرارة الثورة الفرنسية عام 1789 ففى مجالسه عقدت المناقشات السياسية وأصدرت البيانات وكان من المترددين عليه اثنان من شرارتها دانتون وروبسبيار.

لكن أبرز المترددين عليه كان وبلا شك الملازم وقتها نابليون بونابرت الذى كان يرهن قبعته لقاء شرب القهوة عند تعذر الدفع ومازال المقهى يحتفظ بقبعته معلقة على الجدار ومعروضة للزوار مع توقيعاته.

ومن أبرز المترددين عليه العالم والدبلوماسى الأمريكى بنامين فرانكلين الذى صاغ فيه جزءا من الدستور الأمريكى ولعب دورا فى تحسين علاقات بلاده مع فرنسا ثم الرئيس الأمريكى كذلك توماس جيفرسون.

أنشأ المقهى جائزة فكرية سنوية عام 2011 ويرأسها «جاك أتالى» تعرف بـ«جائزة البروكوب» تمنح للبحوث والدراسات الفكرية المتسمة بالجدية والابتكار والاحترافية وتشرف عليها لجنة متخصصة وقد كان الكاتب والمفكر الجزائرى مالك شبل عضوا فيها.

لا جرم أن يجتمع الشعر والقهوة ــ بمعناها الحديث ــ فى خاطر كل من يتردد على المقاهى الأدبية والباريسية خاصة، فهى مقاهى خاصة جدا لكنها فقدت كثيرا من ألقها الفنى والفكرى والفلسفى وأصبحت تكاد تكون مقاهى عادية ــ اللهم إلا كثرة الفضوليين من السياح ــ الذين يقصدون هذه المقاهى لأخذ الصور التذكارية، فهى مذكورة فى كل دليل سياحى واستحضرت فى ذهنى قول الكاتب المصرى الراحل ألبير قصيرى فى حوار له قبل موته.. قال لى بحزن: «أترى كيف تحول مقهى فلور إلى مكان ضاج بالسياح السذج الذين يأتون لزيارة معارض الألبسة الجاهزة فى بورت دى فيرساى» هذه المقاهى التى كانت تعج ذات مرة بالنقاشات والمناظرات وصعود التيارات الفكرية، مثل الوجودية والسريالية والدادية وغيرها.

وقول الكاتب الإسبانى فيرناندو آرابال: «لم نعد نرتاد المقاهى الأدبية ونتداول ما كتبناه مع زملائنا لأن الحياة المعاصرة لم تعد تسمح لنا بذلك، فإننا نرسل مخطوطات كتبنا إلى الناشر، وهو يبعث إلينا بحقوقنا عن طريق التحويل المصرفى أو البريدى وانتهى الأمر».

كل المقاهى التى زرتها فى رحلاتى لاحظت تغير حالها فبعضها غير النشاط وبعضها الآخر اندثر والبقية الباقية منها تحتفظ فقط بين جنباتها بمجد الأمس وربما بؤس الحاضر المعولم الذى لا يمكن لمقاهيه الفاخرة والسيبرانية ــ المعتدية على حرمة اللفظ ومعناه ــ أن تحل محل مقاهى زمان.

النص الأصلى:

https://bit.ly/2ZK2vtM

التعليقات