كان وأصبح (27): قصر الأميرة نعمة الله توفيق.. مقر وزارة الخارجية طوال 56 عاما

آخر تحديث: السبت 1 يونيو 2019 - 11:41 م بتوقيت القاهرة

إنجي عبدالوهاب

احتضن القصر وزارة الخارجية لنحو 56 عاما ولا يزال يستقبل وفود مصر الدبلوماسية وكبار زوارها
يرتقي القصر لأن يكون متحفا يروي تاريخ الدبلوماسية المصرية منذ إنشائها وتشمل محتوياته قطع نادرة محفور عليها ختم الملكية

لا ينفصل تاريخ الفنون عمارة وتصويرًا ونحتًا عن السياسة والاجتماع والاقتصاد، ولا تقتصر قيمته على الجمال والإبداع والاحتراف، بل هي شهادة حية على أيام خلت وأحداث مضت وشخصيات كان يمكن أن تتوه في غياهب النسيان.

وفي سلسلتنا الجديدة «كان وأصبح»، التي ننشر حلقاتها على مدار شهر رمضان، نعرض نماذج لحكايات منشآت معمارية أو قطع أثرية مصرية تنتمي لعصور مختلفة، تسببت التحولات السياسية والاجتماعية في تغيير تاريخها، أو إخفاء معالمها، أو تدميرها بالكامل، لتخبو بعدما كانت ملء السمع والبصر.

وتُنشر الحلقة الجديدة من تلك السلسلة يوميًا في الثامنة مساءً بتوقيت القاهرة..

في قلب العاصمة وعلى الطرف الشرقي لميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير حاليًا) حيث نقطة التقاء نهاية كوبري قصر النيل مع بداية حي جاردن سيتي يقع قصر يزيد عمره عن 113 عامًا، وتعاقبت عليه المسميات مع تتابع العهود والعقود، فعُرف فور إنشائه بـ«قصر الأميرة نعمة الله توفيق»، ثم سمي بـ«قصر الأمير كمال الدين حسين»، حتى تغير اسمه مجددًا مع تغير اسم ميدان الإسماعيلية إلى ميدان التحرير ليسمى بـ «قصر التحرير»، إنه قصر الأميرة نعمة الله توفيق (1881:1966)، الابنة الصغرى للخديو توفيق وزوجة الأمير كمال الدين حسين ابن السلطان حسين كامل، وأخت الخديوي عباس حلمي الثاني.

يحتفظ القصر المكون من ثلاثة طوابق بطابعه الملكي إذ يتوسط بهوه أعمدة منحوت عليها تاج الملكية، كما يتسم تصميمه بملامح العمارة الباروكية المحدثة إذ نفذه معماري العائلة الملكية، الإيطالي أنطونيو لاشياك، ويرجح المؤرخون أنه يرجع للعام 1906 وأنه بني على جزء من أطلال سراي الإسماعيلية الصغرى، لكونه إرث الأميرة من أبيها الخديوي توفيق ابن الخديوي إسماعيل.

قصص درامية شهدها القصر

شهد القصر عددًا من القصص الدرامية جعلت الأميرة نعمة الله توفيق تزهده؛ كان أولها طلاقها من زوجها الأول الدبلوماسي الشهير وابن عمها الأمير محمد جميل طوسون بعدما أنجبت منه نجلها الوحيد الأمير عادل طوسون في فبراير عام 1903، ثم رفضت العائلة أن تظل الأميرة مطلقة لذا تم تزويجها من ابن عمها الأمير كمال الدين حسين، ليسكنا معًا في القصر منذ العام 1904 حتى أن القصر حمل اسمه منذئذٍ وسمي بـ قصر الأمير كمال الدين حسين.

خيم شبح الوحدة على القصر الذي انفردت جدرانه بالأميرة نعمة الله وزوجها إذ لم يكتب لهما الإنجاب، وهو الأمر الذي جعلهما يتجهان إلى الزهد والتصوف حتى عُرف عنهما رعايتهما للطرق الصوفية، خاصة الطريقة البكتاشية التي استقبلوا مريديها ودراويشها لديهم، كما نشبت به عدة مشاحنات عائلية بعدما أجبر حماها الأمير حسين كامل في العام 1914 على الرضوخ لرغبة الإنجليز وقبول الحكم بعد عزل أخيها الخديو عباس حلمي الثاني، من الحكم ليصبح سلطانًا على مصر حتى وفاته عام 1917، لكن زوجها الأمير كمال الدين حسين رفض أن يخلف أبيه على حكم مصر وتنازل عنه لعمه وعم زوجته السلطان فؤاد الأول.

استكمل القصر مسيرته القاتمة؛ ففي في عام 1924 قررت الأميرة نعمة الله توفيق تزويج ابنها الوحيد من زوجها الأول، الأمير عادل طوسون، بشقيقة الملكة نازلي زوجة عمها وعم زوجها الملك فؤاد حتى يعيشا معها بالقصر؛ لكن القدر لم يشأ أن تتسرب السعادة إلى القصر إذ توفيت العروس أثناء ولادتها، ليهاجر الأمير عادل طوسون الابن الوحيد للأميرة نعمة الله إلى لندن وينفرد القصر مجددًا بالأميرة وزوجها الذي داهمه المرض حتى أنها بدأت في عمليات التفاوض على بيعه في العام 1927، وفي عام 1932 سافر زوجها الأمير كمال الدين حسين للعلاج لكنه توفي عقب بتر ساقه على إثر مضاعفات في العام 1932، وعادت رفاته من فرنسا لتدفن في قبوة بناها إلى جوار دراويش البكتاشية فوق سفح جبل المقطم، وهو الأمر الذي تناقلته الصحف المصرية أنذاك كصحيفة المقطم وصحيفة الأخبار.

القصر يحتضن وزارة الخارجية لـ56 عامًا

زهدت الأميرة نعمة الله توفيق القصر عقب وفاة زوجها فانتقلت إلى مكان بسيط على مقربة منه استكمالًا لرحلة التصوف والزهد التي بدأتها معه، وفي العام 1938 قررت بيعه لابن عمها الملك فاروق، فأراد أن يكون مقرًا جديدًا لوزارة الخارجية التي كان مقرها في قصر البستان قبل أن يُهدم لاحقًا ويُبني على أطلاله (مول البستان)، وفي الفترة التي تلت وفاة السلطان كمال الدين حسين عٌرف القصر باسم جديد هو "قصر التحرير".

تحولت مسيرة القصر من سكن شخصي إلى صرح دبلوماسي وظل مقرًا لوزارة الخارجية المصرية لمدة 56 عامًا بدأت منذ العام 1938 وحتى عام 1994 استقبل خلالها الوفود الدوبلوماسية من شتى بلدان العالم، وشهد أحداثًا فاصلة في التاريخ المصري كمفاوضات الجلاء عن مصر عام 1954، وحرب السويس ومفاوضات تحرير طابا واستشهاد أول دبلوماسي مصري، وهوكمال الدين صلاح ممثل مصر في مجلس الوصايا الثلاثي الذي شكلته الولايات المتحدة للإشراف على الحكومة الصومالية لتأهيلها للاستقلال.

تقرر نقل المبنى الرسمي لوزارة الخارجية المصرية في العام 1994 في عهد وزير الخارجية السابق عمرو موسى، إلى موقعه الحالي بكورنيش النيل، حيث ذلك المبنى العملاق المقام على مساحة 4800 متر ويرتفع لـ42 طابقًا لكن "قصرالتحرير" احتفظ بمكانته وظل ملحقًا تابعًا للوزارة وفقًا للقرار الذي أصدره وزير الخارجية السابق، عمرو موسى، الذي أمر بترميم القصر واستخدامه لاستضافة وفود الدبلوماسية المصرية على أن يُراعى الاحتفاظ بالطابع المعماري الأصلي للقصر ويحتفظ بأثاثه ومحتوياته الملكية، واستمرت عمليات ترميم القصر مع تولى الوزيرين أحمد ماهر في 2001 ثم أحمد أبو الغيط في 2004، وعقب الانتهاء من ترميم القصر في العام 2005 قررت وزارة الخارجية استخدامه لاستقبال كبار الزوار والاجتماعات والوفود الدبلوماسية، وهو الغرض الذي لايزال القصر يؤديه حتى وقتنا هذا.

توالت العهود والعقود لكن هويته الملكية أبت أن تتوارى بل احتضن بهوه أعمدة حُفر عليها تاج الملكية وكأنما يوثق لهذه الحقبة من عمر التاريخ المصري، واحتفظت جدرانه بصور حكام الأسرة العلوية ابتداءً من محمد علي باشا والي مصر، مرورًا بالخديوي إسماعيل، و وصولًا إلى الملك فاروق، كما يشمل صالة عرض بها أطقم المائدة الفضية المختومة بتاج الملكية التي استخدمتها الأميرة نعمة الله توفيق، فضلًا عن الزي الرسمي للدبلوماسية المصرية إبان العهد الملكي، وجوازات سفر وزراء الخارجية السابقين، وأهم الوثائق التاريخية في عمر الوزارة منذ إنشائها، حتى أنه يرتقي أن يصبح متحفًا يروي تاريخ الدبلوماسية المصرية.

وغدًا حلقة جديدة..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved