وزير الخارجية السابق نبيل فهمي يكتب: ترامب وبايدن والعرب

آخر تحديث: الإثنين 2 نوفمبر 2020 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

انقضى صيف 2020 فى متابعة المفاجآت المتوقعة الشرق أوسطية، من دون أن يتغير شىء جذريا فى المنطقة، أو ينصلح حال العرب، ومع نهاية هذا الفصل انتقلت الأحاديث والتحليلات السياسية بدرجة كبيرة إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ‏واحتدت الثرثرة والتنبؤات السياسية حول ترجيح مرشح، أو آخر، وللأسف غالبيتها تفتقد الموضوعية، أو القراءة العلمية، وترتبط بدعوات لترجيح مرشح على آخر.
‏فى 3 نوفمبر (تشرين الثانى) الحالى، تُجرى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وفى فترة وجيزة بعدها تُعلن النتيجة، إلا إذا تأخر ذلك بعض الشىء لمنازعات حول التصويت البريدى، والحاجة إلى المراجعة الدقيقة للأصوات وصلاحيتها فى ضوء تداعيات فيروس «كوفيدــ19»، والذى لم يستثنِ أحدا، بما فيها الدول العظمى، وأحد المرشحين فى السباق الرئاسى.
سيُحدد الناخب الأمريكى وحده الفائز بالانتخابات، لذا لن أتوقف عند قراءة فرص نجاح مرشح أو آخر، وإنما سأتناول ما أراه مفيدا بالنسبة إلى العلاقات الأمريكية العربية، ‏والاستعداد للتعامل مع ما هو قادم على أفضل وجه.
وسأقوم بذلك بإيجاز شديد اتساقا مع الثقافة العالمية المعاصرة، التى يتعامل فيها دار النشر والقارئ مع المعلومات بعجالة ‏غير معتادة، فى زخم ما يطرح فى وسائل عدَّة، على الرغم من تفاقم بعض الموضوعات وحساسيتها.
‏بدايةً، لا غنى عن القول إن الولايات المتحدة ستظل دولة مؤثرة ومهمة فى الساحة الدولية للعقدين المقبلين على الأقل، لقوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، إلا أنه من الواضح أيضا أن الساحة الدولية والإقليمية والوطنية تشهد تغيرات اجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية، ومن ثم فما هو قادم سيختلف عما مضى، ‏وعلى الجميع أخذ ذلك فى الاعتبار، بما فى ذلك الولايات المتحدة، وبطبيعة الحال العالم العربى أيضا.
‏ومن الواجب ونحن نتناول العلاقات الأمريكية العربية القادمة مُراعاة أن المجتمعات الأمريكية والعربية تمر بمرحلة تغير فى الهوية، وهى مرحلة غير مستقرة تعكس رفضها كثيرا من الأمور التى كانت تُعد ثوابت أو أنماطا تقليدية لديها، فهناك ‏تنامٍ كبير فى حجم الجالية اللاتينية الأمريكية، وثمة غضب لدى نسبة غير قليلة من الناخبين فى الطبقة الوسطى لشعورها أن المنظومة السياسية لا تراعى مصالحها، فضلا عن أن هناك رغبة جارفة لدى الشباب الأمريكى للتغيير، ومشاركتهم فى الانتخابات مرهونة بمدى تجاوب المرشحين مع اهتماماتهم، وكان انتخاب بوش الابن، ومن ثم أوباما، ولاحقا ترمب، وكل منهم نقيض سياسى للآخر، تعبيرا صريحا عن عدم أريحية الناخب.
وفى المقابل، شهدنا توترا وعدم استقرار سياسى فى العالم العربى، وخاصة خلال العقد الأخير، وهى مؤشرات تعكس رغبة فى التغيير الشرق الأوسطى والعربى، وثمة ظروف نجحت بعض الدول العربية فى التعامل معها بذكاء وإيجابية، فى حين أخفق آخرون، ما سمح لقوة داخلية وخارجية باستثمارها لأغراضها، وإن كان هذا لا ينفى أن هناك رغبة شعبية حقيقية وواسعة فى إدارة المستقبل باسلوب أفضل مما مضى.
فى ظل كل ما يجرى على الجانبين، واستمرار التغيرات على الساحات الدولية، ‏على العرب توقع تغير فى نمط العلاقات مع الولايات المتحدة، بصرف النظر عمن سيفوز بالانتخابات الرئاسية، لأن المصالح الأمريكية فى المنطقة قد تغيرت، وستشهد مزيدا من التغيير، والدليل على ذلك أن أوباما هو من أعلن الرغبة فى تحويل التركيز الأمريكى من الشرق الأوسط وتوجيهه نحو آسيا، ‏قبل أن يُعلن ترمب بعده أن انغماس أمريكا فى الشرق الأوسط كان من أكبر أخطاء بلاده.
‏وفى هذا السياق، أتذكر مقولة ريتشارد نيكسون لوزير خارجية مصر بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بأن خروج الخبراء السوفييت من مصر قبل ذلك بعام، كان خطوة كبرى نحو خروجهم من الشرق الأوسط وتطورا مهما للولايات المتحدة، فى ضوء الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية والشرقية، وأتذكر أيضا الطوابير الطويلة أمام محطات الوقود الأمريكية بعد فرض العرب الحظر البترولى عقب الحرب المجيدة، ما جعل الولايات المتحدة تنظر إلى المواقف العربية آنذاك بجدية واهتمام كبيرين.
هذه وقائع تاريخية حقيقية وهامة، ولنا أن نفتخر بها، وإنما من دون أن نغفل أن الحرب الباردة انتهت، وأن الاعتماد الأمريكى المباشر على البترول العربى لم يعد قائما، إذ إن الحسابات والأولويات الأمريكية اختلفت الآن، ويجب على العرب أخذ ذلك فى الاعتبار وهم ينظرون إلى المستقبل.
‏هذا هو الواقع الجديد، والذى سيتحرك فيه الفائز فى الانتخابات الرئاسية أيا كان ترمب، أو بايدن، ‏واقع سيجعل الولايات المتحدة تبتعد عن التعامل الجماعى مع دول المنطقة حتى العربية، وتركز على العلاقات الثنائية المفيدة لها، وتتدخل بدرجات أقل وفقا ‏لمصالحها المباشرة بعيدا من المنظور الأيديولوجى.
‏ويفترض أن يجعل ذلك دول المنطقة العربية تسعى لحشد إدارة علاقاتها مع الإدارة الأمريكية الجديدة، مع تقدير دقيق للمواقف الذى يمكن فيها الاعتماد على الولايات المتحدة من عدمه، ووضع السياسات العربية المترتبة على ذلك ضمانا لمصالحها، وخاصة أن كثيرا منها يرتبط معها بغطاء أمنى، أو يعتمد عليها كثيرا فى مجال الأمن القومى، ما يجعلنى أشدد على أهمية بناء عناصر وآليات الأمن القومى العربى وتحقيق توازن أفضل مع جيرانها، لأن الولايات المتحدة ستقصر تدخلاتها ‏الأمنية حماية للعرب على الحالات الوجودية.
فى الوقت ذاته، نظرا إلى حجم الولايات المتحدة ‏وتعدد وتنوع مصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية يجب عدم المبالغة فى تصوير الأمور على أنها أو الدول العربية يستطيعان الاستغناء كثيرا أو سريعا عن العلاقات، أى إن التفاعل العربى الأمريكى سيظل أمرا متواصلا ومستمرا، ‏وبصرف النظر عما ينتخب أمريكيا، والاختلاف سيكون فى ‏الأولويات والممارسات وسيولة العلاقات، فالولايات المتحدة لن تستغنى عن الشرق الأوسط والعالم العربى كلية، والعكس أيضا صحيح.
ولأكون أكثر تفصيلا ودقة حول العلاقات العربية الأمريكية تحت إدارة ترمب أو بايدن، أوجز أهم تقديراتى فى الآتى:
• ‏انخفض النشاط العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط، وسيستمر فى الانخفاض، بصرف النظر عن شخصية الرئيس الأمريكى المقبل، لكن لن تغادر الولايات المتحدة الشرق الأوسط.
• ‏ ستكون الدول العربية أقل اعتمادا على الولايات المتحدة مستقبلا، لكن ستظل هذه العلاقات أقوى من علاقات غالبيتها مع أى من الدول الكبرى الأخرى.
• ‏ ستكون السياسة الأمريكية تجاه إيران أكثر قوة فى حالة انتخاب ترمب فضلا عن بايدن، لكن كليهما لن يستعجل استخدام القوة، وسيسعيان لترتيب الأوضاع مع إيران لتجنب الصدامات بصرف النظر أن ذلك قد يكون أسهل وأسرع مع بايدن.
• الولايات المتحدة غير مهتمة كثيرا بالساحة الليبية فى أكثر من ضبط تنامى النفوذ الروسى فى شمال إفريقيا، وهو موقف لا يختلف حوله الحزبين الجمهورى أو الديمقراطى، علما بأن كليهما قد ينشط دبلوماسيا بعض الشىء فى هذه الساحة بعد الانتخابات، للاستفادة من فرص الانفراجة، أو كبح جماح المنافسين لها، إذا لم تزاحمها قضايا أخرى.
• كل من ترمب وبايدن يقفان فى بوتقة السياسيين الواقعيين، والمنفتحين على إجراء مصالحة سياسية مع سوريا كجزء من صفقة إقليمية، وإن كان هذا أصعب مع بايدن عما هو مع ترمب، وينطبق الشىء ذاته بالنسبة إلى العلاقات مع تركيا لعدم ارتياح بايدن لتصرفات أردوغان.
• ‏سيستمر ترامب فى تنفيذ خطة السلام الأمريكية التى طرحها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فى حين سيكون بايدن أقل حماسة لها، ويُخطئ من يتصور أنه ‏سيدخل فى صدام مع إسرائيل حول السلام العادل العربى الإسرائيلى وحل الدولتين، والمرجح أن بايدن لن ينشط حول هذا الملف إلا إذا طرح الجانب الفلسطينى مبادرة جذَّابة، أو حرك مبادرة السلام العربية بذكاء، ‏وجمع حول تحركه دعما دوليا وإسرائيليا.
• ‏مصر والإمارات والسعودية أقرب الدول العربية لترامب، وسيتعامل بايدن معهما بحذر فى أول الأمر، ليثبت أن مواقفه تختلف عن مواقف الأول، وقد يكون أكثر استجابة لجماعات الضغط الأميركية، ذلك قبل أن يعيد الدفة إلى الوسط السياسى مرة أخرى، ‏ويحكم وفقا للمصالح الأمريكية، ويتعامل مع الدول الثلاث بشكل أكثر إيجابية، وفى المقابل أعتقد أن ترمب سيكون أفضل تجاه الدول الثلاث فى أول الأمر، ومن ثم أكثر فتورا إذا لم تستجب لمطالبه المستمرة ولرغبته فى تخفيف الحمل الأمنى للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، والتماشى مع الأولويات الأمريكية حتى إذا تعارضت مع القانون الدولى والمصالح العربية المستقرة.
• ‏هناك تقدم فى العلاقات الأمريكية ــ العراقية، وخاصة مع اختيار رئيس الوزراء الجديد، ويُتوقع أن يستمر هذا الاتجاه بصرف النظر عن شخصية الرئيس الأمريكى، فكلاهما لا يؤيد ‏الانغماس فى العراق، ولا يغفل عنه الحاجة للحفاظ على التوازن فى العلاقة مع كل من الولايات المتحدة وإيران، ولا يختلف أى منهما فى الموقف من ‏الأكراد، وهو التأييد العام، لكن فى حدود، أهمها عدم خلق أزمات مع العراق أو الجيران.
• ‏نجحت روسيا فى استعادة جزء من نفوذها الشرق أوسطى فى المشرق، لكن إمكانيتها محدودة، وطموحاتها محسوبة، ولن تشكل مشكلة رئيسة لأمريكا فى المنطقة فى المستقبل المنظور، والشىء ذاته ينطبق على الصين التى تنشط‏ عربيا، وشرق أوسطيا، لفتح أسواق، واحتياجاتها للطاقة، وهى أمور لا تعنى الولايات المتحدة كثيرا فى هذه المرحلة، خاصة مع الانضباط والحذر الصينى العسكرى، إلا أن هناك ‏احتمالات لبعض التطورات والتوترات المرتبطة بحرية وأمان مرور السفن فى الممرات ‏المائية فى ظل تنامى القدرات البحرية الصينية وإقامة قواعد بحرية بالمنطقة.
والخلاصة، هناك بعض التباين فى مواقف المُرشَّحَين للرئاسة على المدى القصير، لكن كليهما غير متحمس للانغماس فيها كثيرا، أو طويلا، وعلى العرب الاستعداد استراتيجيا لما هو قادم على المدى المتوسط وطويل الأجل، من دون مبالغة فى التفاؤل أو التشاؤم إذا خرجت نتيجة الانتخابات بغير ما كان يأملونه، ويفضل التركيز على إيجاد ميزان دقيق بين القدرات الذاتية فى مجالات مختلفة، وخاصة الأمن القومى، فى الإطار الوطنى والإقليمى، ومع الدول الكبرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved