وليد عطالله يكتب عن «لغز السيد س»: يستحضر الإلهام في الكتابة المتعددة
آخر تحديث: الثلاثاء 2 ديسمبر 2025 - 2:02 م بتوقيت القاهرة
يعود الكاتب الصحفي علي عطا، في مقاله المنشور بموقع إندبندنت عربية، إلى الأجواء الإبداعية التي يفتحها كتاب «لغز السيد س» للكاتب والفنان التشكيلي وليد علاء الدين، والصادر حديثًا عن دار الشروق.
وفي هذا المقال، يستحضر عطا تعددية الإلهام ومسارات الكتابة التي ينطلق منها الكتاب، كاشفًا عن عالم سردي وفكري تتقاطع فيه الفنون وتتجاور فيه مستويات التعبير، ليقدم للقارئ قراءة معمقة تعيد طرح الأسئلة حول طبيعة الغموض، وحدود الحقيقة، ومغامرة الكتابة ذاتها.
وكتب علي عطا: ينطلق الكاتب المصري وليد علاء الدين من حكاية من تأليفه عن شخص عاطل عن العمل، عرضت عليه وظيفة منسق زهور، في شركة كبيرة براتب تصعب مقاومته، فيتردد في قبولها، لأنه غير مؤهل لشغلها، ليبني عليها متن كتابه "لغز السيد/ س: في اقتناص الخيال في الكتابة" (دار الشروق – القاهرة)، على طريقة الأمثال بغرض تحفيز الأذهان على مراجعة المستقر من مفاهيم ومصطلحات تخص الكتابة الأدبية، يرى أنه قد أسيء فهمها، ومن ثم فإننا "في حاجة إلى إعادة التأمل والنظر فيها، إذا أردنا التحرر من العقد ونحن نمارس ألعاب اقتناص الخيال من أجل مشاركة أفكارنا ورؤانا مع الآخرين عبر كتابة من أبرز شروطها، مثلها في ذلك مثل التصوير والتشكيل وارقص والموسيقى، توفر الجمال والمتعة والتسلية والتشويق، أو في الأقل ما تظنه أنت أثناء الإنتاج أنه جميل وممتع ومسل ومشوق، فهي أمور شديدة النسبية" ص 76.
- مخزون الخيال
ووفقاً لتلك الحكاية/ المثل فقد قيل للسيد (س)، إن هذه الوظيفة لا يشترط لها أكثر من معرفة عامة عن الزهور وقدرة على تقديم حكايات عنها للجمهور. خلال 10 دقائق من انتهاء مكالمة صديقه الذي أخبره بأمر تلك الوظيفة، كان السيد "س" قد استحضر قدراً لا بأس به من شذرات المعرفة بالزهور، التي كان يظن أنه لا يعرف عنها شيئاً. عليه الآن أن يكملها ببعض القراءة المنتظمة. ثم سرعان ما اكتشف أن خياله عامر بما لم يتخيل وجوده من شذرات تخصه، جمعتها نيابة عنه حواسه، بوعي أو من دون وعي منه.
ينفي وليد علاء الدين، مخاطباً قارئاً افتراضياً، اتكاء الكتابة الأدبية على الموهبة، ويرى أنها إنما تتكئ على "ملكة"، "تمتلكها وتتملكك، فتدير حواسك ومعارفك من أجل التعبير من خلالها، عبر اقتناص مخزونك الخاص من الخيال". الخطاب– كما يبدو- موجه إلى شخص يرغب في أن يصبح أديباً. ولكن كيف يعمل الخيال؟ وهل هو عنصر مادي ملموس كالدماغ الموجود داخل الجمجمة، أم إنه وجود معنوي كالعقل؟ يسأل علاء الدين ثم يجيب: "هو وظيفة أو عملية تصف وظائف". وينقل عن باشلار قوله، إن الخيال هو "ملكة تشويه الصور التي يوفرها الإدراك".
ويرى أنه وصف قريب للغاية مما يكتنزه الأصل "خيل" في اللغة العربية، فهو أصل مرهون بالحركة والتلون، دائم التحول أو التشوه. فإذا استقرت حركته أو توقف عن التلون فقد مبررات وجوده، فكأن الخيال هو عملية مستمرة من تكوين صور جديدة، بصور غير متوقعة، من خلال اتحاد جذاذات، وقصاصات وشظايا وأشلاء صور متوافرة بفضل الإدراك. وينقل عن باشلار أيضاً قوله، "إذا لم يكن هناك تغيير في الصور، أو اتحاد غير متوقع للصور، فلا يوجد خيال، ولا يوجد عمل تخيلي".
- في مواجهة الخرس
من أين يأتي الخيال بصوره، تلك التي يضعها دائماً في حالة تحريك وتلون؟ كيف يمكن تحويل الخيال إلى وسيط صالح للمشاركة مع الآخرين؟ هنا يجيب علاء الدين مخاطباً مجموعة ربما تكون منتظمة في ورشة لتعلم الكتابة الأدبية: "كل ما عليكم هو الإنصات الجيد لأصوات خيالكم، تلك الأصوات التي لا يسمعها غيركم، والتي تحاكي ما يدور على شاشات السينما الخاصة بكم" ص 39.
ويضيف أنه حتى يخلق الواحد كلماته الخاصة وعالمه المتفرد عليه ممارسة فعل المحاكاة أو الأونوماتوبيا، "لا تنشغل الآن بفنيات الوسيط ولا بقواعد الفن". وهكذا يتدرج البناء من مرحلة إلى أخرى ليأتي المتن في 32 فصلاً تبدأ بفصل أشبه بمقدمة تتكئ على "اصطياد الخيال"، عبر شخص يدعى "الأسعد بن المحظوظ"، نشأ في بلدة من الصم والبكم لا تقبل أن يكون بين أبنائها من يستطيع السمع والكلام، فأنشأه والده على ادعاء الخرس، كما فعل هو حتى حمل لقب "المحظوظ"، بعدما تأسى باتباع نهج جده المتكئ على قول أبي العلاء المعري: "ولما رأيت الصمت في الناس فاشياً، تباكمت حتى قيل إني أبكم".
ولكن "الأسعد"، لم يكتف بادعاء الخرس، وقرر أن يوصل إلى قومه ما يمور في خياله من أفكار وتساؤلات وصور، بكتابة مشوقة تسحبهم على قوارب من المتعة والدهشة والفضول، فيستمتعون ويستمعون إلى صوتي مكتوباً" ص 16.
كانت القراءة بالنسبة إلى كتابة الأدب أبرز وسائل تخصيب الخيال، فكيف لها أن تفعل ذلك؟ يرى علاء الدين أن القراءة ليست مجرد مطالعة كلمات في صفحات كتاب، "القراءة في أساسها تعني التأمل والانتباه والربط بين الأجزاء والتساؤل بحثاً عن معنى. بالتالي فإن الكتابة هي ابنة الخيال الذي تغذيه الحواس عبر القراءة في حال اعتبارها منهج تفكير.
ويتطلب ذلك بذل الجهد والصبر والالتزام. وعلى عهدة علاء الدين فإن العلم أثبت أن ما يوصف بالعبقرية أو التفوق العقلي أو الذهني ليس شيئاً موهوباً، بل هو أمر يمكن اكتسابه، "إذ لاحظ العلماء أن المخ البشري مكون من عصبونات كلما زاد عددها وقويت كانت أكثر قدرة على تنفيذ العمليات المنوطة بها، وصولاً إلى مساحات مذهلة يظنها البعض خارقة" ص 63، 64.
الأديب –يقول صاحب روايتي "كيميا" و"ابن القبطية"- لا يكتب لإرضاء قرائه، ولا يحدد قراءه، إنما تحددهم الكتابة، التي تتشكل ملامحها من خلال مستوى تعامله مع خياله واختياراته الأساسية لما سيغذي ويدعم به هذا الخيال والموضوعات التي سيتناولها وطريقة استخدامه لتقنيات كثيرة تتعلق باللغة والأسلوب وتلك عناصر يمكن تعلمها وتنميتها داخل مشروع كتابة وليس خارجه. ذلك المشروع الذي لن يبدأ إلا إذا نجحت في البداية في اقتناص خيالك" ص 81.
ويصل الكاتب هنا إلى قناعة بأن "الأدب وسيلة تسلية، والأدباء صناع تسال"، موضحاً أن كلمة تسلية في ثقافتنا سيئة السمعة، إذ إنها تصف الأفعال غير المنتجة، "وهو خطأ واضح في نقل مفهوم السلوان الذي يعني صرف الانتباه عن الهم والحزن، لينحسر المعنى بلا سبب واضح في الهرب من الجد إلى الهزل". ويؤكد كذلك أن الأدب "هو المنتج الأكثر اتساقاً مع طبيعة الإنسان" ص 86.
ويخلص في هذا الصدد إلى أن "المتعة والتسلية شرطان تعاقديان من شروط العلاقة بين القراء والأدب، والأدب بالنسبة إلى الكاتب هو ضرب من التعلم الجاد، باللعب". أما اللغة فإنها بنموها الدلالي وحيويتها، تعد "أوسع بكثير من حدود ما التقطته المعاجم في لحظات تاريخية ما" ص 94.
لقد ثم يواصل مخاطبة تلامذة افتراضيين: "لا تغرنكم الصور الذهنية للكلمات، ابحثوا خلف المصطلحات التي تحنطت في توابيت الفهم التاريخي أو المؤدلج"، ويحذر، متكئاً على تجربته الشخصية في كتابة الرواية والمسرح والشعر وممارسة الفن التشكيلي على نحو احترافي، من مغبة التكاسل بدعوى انتظار الإلهام، والوحي وتفجر الموهبة.
- معنى الموهبة
ويتخذ هنا من الياباني هاروكي موراكامي مثلاً ينبغي أن يحتذى. فموراكامي كتب روايته الأولى "أسمع الريح تغني" وهو في الـ30 من عمره وبعد صدورها قرر التفرغ للكتابة. صحيح أن موراكامي حدد الموهبة شرطاً لكتابة الرواية الأولى، إلا أن المرء– في تصور علاء الدين- يحار أمام معنى "الموهبة"، كما أنه لا يعرف إن كان موهوباً أو لا، إلا حين يخضع للتجربة. وإذا جاز لما يسمى الموهبة أن يحضر فلا بد أن تقترن بالتركيز والتدرب المستمر والمثابرة.
مع هذه الشروط، "تبدو الأفكار والأشخاص والعبارات والخيالات وكأنها في انتظار إشارتك لتقفز على الصفحات البيضاء لتشكيل الرواية" ص 100. ومن ثم فإن على الأديب عموماً والروائي بخاصة، استحضار "الوحي" لا انتظاره، في عصر الإيقاع المرن أو الحر، الذي يمكن ضبطه. ويقول علاء الدين في هذا السياق: "في حدود اطلاعي، لم يستخدم العرب مصطلح الموهبة بمعناه المتداول حديثاً إلا بعد انتقاله إليهم على أجنحة الترجمة من الثقافة الغربية، فمن يراجع كتابات العرب حتى ما يتعلق منها بالشعر الذي كادوا ينسبونه للشياطين في وادي عبقر، يدرك أن الأمر كان مجرد لعبة مجازية لم يتبنها النقد الذي فرق بين ثلاثة مستويات للشعراء، وهو التصنيف الذي يمكن استخدامه في كل أشكال الإنتاج الأدبي: الطبع، الصنعة، التكلف" ص 132.
وفي الختام يأتي هذا النداء: "أيها الكتاب، إنه دوركم، فبدلاً من إحباط كل محاولة لتوسيع حقل الكتابة، ابذلوا جهداً في مراجعة المفاهيم وادفعوا ورش ودورات الكتابة العربية إلى خارج النفق".