مصطفى الفقي يكتب: عقدة الأتراك

آخر تحديث: الإثنين 3 أغسطس 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

إن الذى يدرس التاريخ التركى، بدءا من تجمُّع قبائل الرُّعاة فى أواسط آسيا، ونزوحهم غربا وصولا إلى هضبة الأناضول، سيُدرك أنه لا يوجد تعبير اسمه الأمة التركية. نعم، هناك ثقافة مشتركة لتلك القبائل التى احترفت العُنف، وأدمنت الغزو، وتعطَّشت دائما للدماء. وعندما برز «آل عثمان» من بينهم كان ذلك إيذانا بتحرك شامل قام على تأليب القبائل، وانتزاع القيادة بحدِّ السيف.
وقد تمكَّنت قوات العثمانيين من بسط نفوذها على أجزاء واسعة من أواسط آسيا وغربها، وصولا إلى حدود شمال إفريقيا، وكان فتحهم لمصر إيذانا بوجود ركيزة قوية لهم فى المنطقة، وذلك بعد أن امتد وجودهم أيضا فى البلقان وشرق المتوسط وأجزاء من شرق أوروبا ذاتها. وعندما تشكَّلت الإمبراطورية العثمانية ووضع السلطان العثمانى عمامة الخلافة فوق رأسه اكتسب وهما شرعيةً دينيةً لم تكُن له، ولا لأجداده.
ويكفى أن نتذكر هنا أن «الأتراك السلاجقة» كانوا السبب وراء حروب الفرنجة، أو الغزوات الصليبية؛ ذلك أن السلاجقة كانوا حديثى عهد بالإسلام، ولا يُدركون تعاليمه الصحيحة، ولا مبادئه السامية، ولا روحه المُتسامحة، فكانت تصرفاتهم حول بيت المقدس مبررا لحملة أوروبية ترفع الصليب فى مواجهة التشدُّد باسم الإسلام فى منطقة الشام، وخصوصا السواحل المُطلة على البحر المتوسط.
وقد تنبَّهت دوائر إسلامية كثيرة لخطر الأتراك وفهمهم المغلوط للدين، واستخدامهم العبثى له، ولقد كانت مصر أولى الولايات العثمانية إدراكا لهذه الحقيقة، وفهما لها، فقد اكتشف المصريون مبكرا قسوة الأتراك وجرائمهم عندما دخلوا مصر عام 1517، وإعدامهم حاكم البلاد، وهو يقود المقاومة ضدهم. واكتشف المصريون أن التصرفات البربرية للغُزاة الأتراك صفة لصيقة بهم وعلامة فارقة عليهم، وبذلك ظلت صورة (التركى القبيح) ماثلة فى ذهن شعوب الشرق والغرب على السواء، وليس ذلك موقفا عُنصريا بالطبع، ولكنه نتيجة للمُعاناة الطويلة التى اجترعتها شعوب المنطقة. ويكفى أن تسأل يونانيا أو أرمينيا أو شاميا أو مصريا عن «مذابح الأتراك» وجرائمهم، فلقد نصب «جمال باشا» الحاكم التركى المشانق فى ميادين دمشق، وكان يُجرى عمليات الإعدام من دون محاكمة بشكل عشوائى؛ لإرهاب العرب وتخويفهم من الغول التركى، وحتى عندما اختلط بعضهم بسكان الأقاليم المُحتلة فإنهم تميزوا بالعجرفة والاستعلاء من دون مبرر إلا وَهمُ القوة الذى يستندون إليه، أو حد السيف، ومدفع البارود الذى يتعاملون به! وستبقى فى ذاكرة الأتراك دائما أن سنابك خيل جيش إبراهيم باشا، وقوامه آلاف الفلاحين المصريين، قد دكَّ بسنابك خيله أرض هضبة الأناضول، واستولى فى طريقه على عدد من المدن الحصينة حتى أصبح على مشارف العاصمة إسطنبول، ولم يتوقف زحفه إلا عندما استنجد السلطان العثمانى بالدول الأوروبية لوقف زحف القوات المصرية بقيادة ابن محمد على، وأوحى لهم بأن محمد على نفسه قد أصبح خطرا على أوروبا ذاتها، وإذا كنا نتحدث اليوم عن عُقدة الأتراك فإننا نطرح الملاحظات التالية:
أولا: إذا تحدَّثنا عن العُنصرية فى دول الشرق فسنجد أن الأتراك هم أوضح نموذج لذلك؛ فقد أقاموا تاريخهم كله على التعصب والتشدد والإحساس الذاتى بالتميز دون مبرر، وكانت الحامية التركية فى كل ولاية تتصور أنها الوصية على البشر والثروة، بل وحامية حمى الدين والمُدافعة عن الخلافة الإسلامية. ولقد اتسم الوجود التركى دائما بالغطرسة والدموية التى لا تتوقف، ولم يؤمنوا أبدا بمفهوم الدولة الوطنية، بل ظلوا دائما متحمسين لتفكيك الولايات إلى لواءات وأقضية حتى يتيسر لهم أمر السيطرة عليها، وإذلال سكانها. من هنا فإن قرون الوجود العثمانى فى المنطقة العربية ــ على سبيل المثال ــ هى قرون الظلم والظلام والتخلف والتراجع عن روح العصور الحديثة التى مرَّت بها دول أخرى.
ثانيا: إن الذى يتابع المسلسلات التركية الأخيرة سيكتشف الرسالة الحقيقية منها هى محاولة صنع تاريخ تركى لا وجود له، بل هو وجود الأقوام التى خضعت لسيطرة العثمانيين والظروف الصعبة التى مرَّت بها شعوبها والتعامل الدَّامى من جانب الأتراك معهم، وهم يتنصَّلون اليوم من ذلك التاريخ المُلطخ بالدماء، ويتبرؤون مما يرون فيه كشفا لجرائمهم، أو ترويعا للشعوب تحت راياتهم، ويكفى أن نقدم نموذجا واحدا، وأعنى به مذابح الأرمن فى مطلع القرن الماضى، عندما أباد الأتراك ملايين من أبناء تلك القومية الصغيرة مسيحية الديانة فى تعصب واضح وإجرام لا يخفى على أحد! فإذا كان هناك الهولوكوست الألمانى ضد اليهود فقد كان ما جرى هو الهولوكوست التركى ضد الأرمن، ولقد أدانت دول كثيرة تلك المذبحة، واعترفت بها، وكان فى طليعة الدول الأوروبية التى بادرت إلى ذلك الجمهورية الفرنسية، بل إن دولا عربية قد شاركت فى الاعتراف بالمذابح وإدانتها؛ فلقد اتخذ البرلمان الأردنى فى فبراير (شباط) 2020 قرار الاعتراف والإدانة ضد الأتراك، فالسجل التركى حافل بالخطايا والمظالم فى كل اتجاه.
ثالثا: إن الشعب التركى خليط من الشعوب المُجاورة، ولا يوجد جنس نقى؛ فهم مزيج من الأكراد والفرس وشعوب القوقاز وممالك وسط آسيا، إضافة إلى دول البلقان؛ لذلك فإن الثقافة التركية مُحصِّلة مُتداخلة من نتاج شعوب مختلفة، ولو نظرنا إلى مدينة عربية مرموقة مثل حلب السورية سندرك أن المقامات التركية فى الغناء قد أخذت جزءا كبيرا منها من أواسط آسيا مُمتزجة بشرق أوروبا مُطعمة بالروح العربية القادمة من الموصل العراقية إلى حلب السورية، فلقد استفاد الأتراك كثيرا من التعددية والتنوع فى الولايات العثمانية، فأقاموا دعائم العمارة من القصور الفخمة والمساجد الرائعة على حساب أرباب الحرف فى الولايات الإسلامية. وهنا نتذكر أن سليم الأول عندما غزا مصر فإنه أخذ ما يقرب من ألف صانع ماهر وحرفى متميز وأرسلهم إلى عاصمة العثمانيين فكان لهم فضل الإعمار والتشييد ونشر الذوق المصرى الأصيل فى ربوع الدولة التركية، فالثقافة التركية فى مجملها حصيلة امتصاص واستحواذ من جانب الأتراك الذين أخذوا بالقوة ما لا يستحقون.
رابعا: لقد توهم الأتراك أنهم جنس راقٍ فى الشرق مثلما توهَّم الألمان الشىء ذاته فى الغرب، وربما يفسر ذلك العلاقات التاريخية بين الدولتين وتحالفهما فى الحرب العالمية الأولى ضد الحلفاء، وما زالت تعيش فى ألمانيا جالية تركية ضخمة استوطنت هناك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مُستغلة حاجة ألمانيا إلى اليد العاملة بعد ويلات الهزيمة وسقوط النازى. ولقد حاول الأتراك دائما أن ينسبوا لأنفسهم ألوان الطعام الشائع مُستغلين الرغبة العربية فى تغيير الأمزجة، وتحويل المطبخ التركى لكى يكون المطبخ الأوحد فى المذاق الشرقى، وعندما جاء أتاتورك على قمَّة السلطة فى بلاده فإنه حاول أن يُقيم توجهات نحو التغريب والعلمنة، ولكنه اكتفى بالشكل من دون المضمون، بدءا من تغيير غطاء الرأس، مرورا بالعبث بالمساجد وأداء الأذان للصلوات، وصولا إلى الأبجدية العربية وإحلال الأبجدية اللاتينية بديلا لها.
خامسا: لقد كان وصول رجب طيب أردوغان إلى رئاسة الدولة التركية بمثابة إعلان واضح عن محاولة مُستميتة تقوم على بيع الوهم لشعوب المنطقة، وتصوَّر نفسه سلطانا عثمانيا يحكم فى جلباب الخلافة، وهو ونظامه أبعد ما يكونان عن ذلك، وعندما تلقى الصفعة القوية فى 30 يونيو (حزيران) و3 يوليو (تموز) عام 2013 بسقوط حكم الإخوان المسلمين فى مصر أصابه الهلع، وشعر بأن مشروعه هو وحلفاؤه لم يعُد له وجود، فكانت تصرفاته غير محسوبة فى كل اتجاه حتى حط رحاله على السواحل الليبية فى محاولة لاستغلال الظروف وملء فراغ السلطة فى ذلك البلد العربى الكبير طامعا فى ثروته، مُمزقا لوحدته، مُعتديا على سيادته.
ليس يعنى ذلك أن كُلَّ تُركى إنسان سيئ؛ ففيهم شخصيات رائعة عبر التاريخ، إذ إن التعميم يؤدى إلى الوقوع فى خطيئة العُنصرية والتعصب، وهى أمور لا نؤمن بها، ولا نقع فيها، وفى مصر تحديدا يُعتبر الدم التركى الذى يجرى فى عروق كثير من العائلات مصدرا للمُباهاة، ومبعثا للفخر. إن عُقدة الأتراك سياسية تاريخية، وليست بشرية، أو عرقية.

نقلا عن إندبندنت عربية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved