إبراهيم البيومى غانم يكتب لـ«الشروق»: تفاصيل حقوقنا فى أوقاف «قولة» و«طاشْ أوْز» باليونان

آخر تحديث: السبت 3 سبتمبر 2016 - 10:01 م بتوقيت القاهرة

نشرت «الشروق» فى (30/8/2016) خبرا مؤداه أن وزارة الأوقاف سترسل وفدا إلى اليونان عقب إجازة عيد الأضحى المبارك للبحث فى سبل استثمار أوقافنا فى قولا وجزيرة تاسوس. وياتى هذا فى سياق ما نشرته بعض وسائل الإعلام المصرية (صحف وفضائيات) خلال الأيام الأخيرة من أغسطس(2016م) من أخبار ومعلومات وآراء مختلفة وغير منضبطة بشأن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية اليونانية.

وبعيدا عن اللغط والمعلومات والآراء العشوائية التى تتداولها وسائل الإعلام، وتتناقلها ألسنة المحللين وبعض المؤرخين (للأسف)، وحتى لا يختلط الأمر على الرأى العام؛ لابد أن نزيح بداية من طريق البحث كل اللغط الذى دار حول حق مصر فى جزيرة باسم «خيوس»، أو «تشيوس»، فهذه الجزيرة لا صلة لمصر بها، ولا صلة لها بمصر. والشكر واجب هنا للدكتور خالد فهمى الذى تكفل فى مقالته بتوضيح المعلومات الدقيقة حولها، وكشف عن حالة التيه التى يعيشها مسئولو الأوقاف السابقون منهم والحاليون وعدم معرفتهم بأوليات المعلومات المتعلقة بصميم مسئولياتهم فى إدارة الأوقاف المصرية، خاصة الواقعة خارج الديار المصرية.

بعد تلك الإزاحة، فإن الموضوع ينحصر فيما له صلة فعلا بممتلكات الدولة المصرية، ويؤثر على قضية ترسيم الحدود البحرية المصرية مع اليونان أو غيرها من بلدان شرق المتوسط خاصة تركيا، وتنطبق عليه أيضا قواعد التوارث الدولى؛ خاصة إذا كانت هذه الممتلكات تحمل صفة «الوقف». وهنا مسألتان هما: هل لمصر حق فى جزيرة طاشيوز وما سند هذا الحق إن وجد؟ وما وضع أوقاف محمد على باشا فى مدينة قولة مسقط رأسه وماذا جرى لها.. وما علاقة جزيرة طاشيوز بأوقاف قولة؟

الخطوة الأولى لمعرفة حقائق هذا الموضوع هى: وجوب الرجوع إلى الوثائق الرسمية الأصلية التى لها حجية. وأغلب هذه الوثائق التى رجعنا إليها محفوظة فى الجهات الآتية:

1ـ قسم الحجج والسجلات، ودفتر خانة وزارة الأوقاف المصرية بمقرها فى باب اللوق بالقاهرة.

2ـ دار الوثائق القومية بكورنيش النيل بالقاهرة خاصة ملفات جزيرة «طاشيوز».

3ـ الأرشيف العثمانى باسطنبول، خاصة دفاتر وسجلات «الديوان الهمايونى»، وبصفة أخص منها «خزينة الدفاتر المهمة» (بالتركية: مهمة دفترلرى) ، والتى تعرف أيضا باسم «دفاتر الطابو»، وهى عبارة عن 1093 دفترا تغطى المدة من سنة 702هـ 1300م إلى 1302هـ ـ 1882م. وهى تضم: دفاتر الموقوفات، والمقاطعة، والمحاسبة الرئيسية المسجل فيها: البراءات والفرمانات التى كان يجرى إعدادها من قبل إدارة الأمور المالية تحت نظارة الدفتردار، ومن ضمنها وثائق تتعلق بوقف جزيرة طاش أوز وأوقاف قولة.

مسألة «جزيرة طاشْ أوز»

اسم هذه الجزيرة فى السجلات العثمانية المكتوبة بالأحرف العربية هو «طاش أوز»، وأحيانا «طاشيوز»، ويكتب هذا الاسم باليونانية هكذا Θάσος، وبالأحرف اللاتينية هكذا Thasos، وينطق بالعربية «ثاسوس». وقد ذكر د. خالد فهمى معلومات أقرب للدقة؛ وهى أن: السلطان العثمانى منح طاش أوز لمحمد على نظير قيامه بقمع الحركة الوهابية فى الحجاز. ولكنه خلط أو اختلط عليه الأمر عندما قال إن السلطان جعلها لمحمد على كحق انتفاع وليست ملكا ليصرف من ريعها على مؤسساته الوقفية فى مدينة قولة مسقط رأسه. والصحيح طبقا للوثائق الرسمية هو: أن السلطان محمود الثانى (تولى من سنة 1808 إلى سنة 1839م) أصدر فرمانا بتمليك محمد على باشا جزيرة طاشيوز تمليكا تاما. ونقرأ فى مستهل هذا الفرمان فى نسخته المترجمة للعربية: «ليكتب كتاب التمليك الهمايونى.. إلخ». وهو مؤرخ بتاريخ 27 من ربيع الأول سنة 1228هـ،(1813م) ويقع فى 13 صفحة (والنسخة المكتوبة باللغة العثمانية بحروفها العربية تقع فى 13 صفحة أيضا).

ومما نص عليه هذا الفرمان أنه: «.. بما أن مقاطعة الجزيرة المذكورة (طاش أوز) صار تمليكها إلى وزيرى المشار إليه والى مصر؛ فبعد أن يصير تسليم بدل الفراغ اللازم تماما إلى المتصرفين فى ملكيتها يصير دفع المال والقلمية وبدلية القاليونجى والأخشاب المرتبة بأوقاتها وأزمانها إلى خزينتى الميرى والحرمين الشريفين، وإلى الترسانة، بحيث لا يحصل خلل فى توريد الأخشاب، وبحيث تكون خزينتها مربوطة عليها كما فى السابق، وبحيث تكون ملكا بعد الآن». وثمة معلومات بالغة الأهمية فى بقية نص هذا الفرمان الذى نعتبره حجر الزاوية فى تأسيس دعوى تطالب بها مصر لاسترداد هذه الجزيرة وبسط سيادتها عليها عملا بأحكام التوارث الدولى، وتطبيقا للخصوصية الدينية، التى أضفاها وقف محمد على باشا لها فى العام نفسه الذى تملكها فيه، وذلك لصرف عوائدها على وقفياته فى مدينة قولة كما سنبين بعد قليل.

انتقلت ملكية جزيرة طاشيوز إذن إلى والى مصر محمد على باشا بموجب الفرمان المومى إليه أعلاه. وفى يوم 25 من جمادى الآخرة سنة 1228هـ، و«بمجلس الشرع الشريف بمصر المحروسة» صدرت حجة محمد على باشا والى مصر باللغة العثمانية بوقف جميع جزيرة طاش أوز وما عليها لمصلحة وقف قولة: المسجد والمدرسة البحرية والمكتب والمكتبة. ولهذه الحجة ترجمتان للعربية. وهى مقيدة بسجلات قيد الوقفيات الخاص بـ«الحاج محمد على باشا المحفوظ بديوان الأوقاف السلطانية الخصوصية المصرية، بالصحيفة الثانية نمرة 1ـ مسلسة جزء أول».

وفى مستهل حجة محمد على لطاش أوز، نقرأ على لسان كاتبها: «وقد أراد الباشا محمد على المشار إليه أن يوقف جزيرة طاش أوز التى أحْسن بها عليه من قبل الذات الشاهانية لأجل أن يوقفها لفعل الخيرات والحسنات على المدرسة التى أنشأها وجددها بمدينة قوالة التى هى وطنه الأصلى». ويتضمن نص الحجة تفاصيل كثيرة توضح كيفية إدارة الجزيرة وتحصيل ريعها وصرفه على وقفيات محمد على بمدينة قولة. كما تتضمن فقرات توضح رؤية الإدارتين المصرية والعثمانية فى أسطنبول للحركة الوهابية وما أحدثته من فوضى أدت إلى «تعطيل تأدية فريضة الحج ولوازم العج والثج زمنا مديدا» على حد ما ورد فى نص الحجة.

وبصدور حجة الوقف هذه أصبحت جزيرة طاش أوز داخلة ضمن الأوقاف السلطانية المصرية التى تسمى بتعبير لغة فقه الوقف: «الأرصاد»؛ نظرا لأن واقفها هو حاكم مصر، ومن ثم صارت جزءا لا يتجزأ من أملاك الدولة المصرية، وتنطبق عليها أحكام الأرصاد المعروفة فى فقه الوقف. وهى أحكام تعنى فى جملتها بتنظيم الموارد المخصصة للمصلحة العامة ويقوم بتخصيصها الحكام والسلاطين لا الأفراد العاديون.

وشأنها شأن فرمان السلطان بتمليك محمد على لجزيرة طاش أوز، تحتاج منا وثيقة وقفه لهذه الجزيرة إلى قراءة متعمقة فى ضوء مضمونها خصوصيتها الوقفية من جهة، وفى ضوء قواعد التوارث الدولى والقواعد المتعلقة بالأماكن ذات الطابع الدينى التى نصت عليها قواعد القانون الدولى ومنها اتفاقيات جنيف من جهة ثانية، وفى ضوء المصالح المصرية العليا التى يجب التمسك بها والدفاع عنها ونحن نبحث عن حقوق مصر ورسم حدودها مع اليونان من جهة ثالثة. هذا ما يجب عمله، خاصة أن الواقع القانونى لطاش أوز لم يتغير، وأنها ظلت خاضعة لإدارة «ديوان الأوقاف الملكية» المصرية إلى ما قبل ثورة يوليو 1952م. وآل الأمر اليوم إلى حالة مزرية سواء لحقوق مصر فى «طاش أوز» أو فى وقفياتها فى مدينة قولة اليونانية، إضافة إلى بعض وقفياتها الموجودة فى بعض المحافظات المصرية.

مسألة أوقاف قولة

قبل أن يحصل محمد على باشا على جزيرة طاش أوز فى سنة 1813م، كان قد أنشأ فى مدينة «قولة» أو «كافالا» مسقط رأسه عدة مؤسسات وقفية تمثلت فى: مسجد، ومدرسة بحرية، وكتبخانة، ثم ألحق بهذه المؤسسات مكتبا لتحفيظ القرآن بموجب حجة وقف مؤرخة بالآستانة/إسطنبول فى 11 من ربيع الآخر سنة 1232هـ. وشكلت هذه المؤسسات منظومة خدماتية: تعليمية، وثقافية، ودينية، واجتماعية خيرية، تحاكى ما درج عليه عظماء السلاطين العثمانيين من إنشاء وقفيات عامة تقدم خدمات عامة دينية، واجتماعية، وثقافية، وتعليمية وصحية. واشتهرت هذه الوقفيات وصارت تعرف باسم «الإيمريت»، أو العمارة؛ بمعنى منظومة الخدمات المتنوعة المذكورة.

أضاف محمد على عدة وقفيات إلى وقف جزيرة طاش أوز، ولم يكتفِ بها لأن عوائدها لم تكن كافية لتغطية نفقات مؤسساته الوقفية فى قولة؛ إذ كانت طاش أوز آنذاك لا تدر إلا عوائد قليلة من معاصر الزيتون ومناحل العسل وبعض الإيرادات الأخرى من بيع الأخشاب وما شابه ذلك. وتمثلت الوقفيات التى أضافها لطاش أوز فى وقفيتين، هما: وقف جفلك كفر الشيخ ومساحته 10742 فدانا و16 قيراطا و8 أسهم بموجب حجة وقف محررة بالديوان العالى بمصر المحروسة فى 15 من شوال سنة 1259هـ(1843م)، ووقف مكانين بمشتملاتهما من المساكن والاصطبلات والجناين والأشجار كان محمد على يمتلكهما فى مدينة قولة ذاتها، وذلك بموجب حجة وقف محررة بالديوان العالى بمصر فى 5 من جمادى الآخرة سنة 1260هـ(1844).

وقد نما «وقف قولة» بمرور الزمن نموا هائلا فى حجم الأعيان الموقوفة لصالحه، أو فى عوائدها وحاصلاتها، وذلك بفضل الإدارة الجيدة إلى منتصف أربعينيات القرن الماضى. ولكن وقفيات قولة وما وقف عليها دخلت فى سرداب التدهور والانحطاط منذ خمسينات وستينيات القرن الماضى التى لفت الأوقاف المصرية كلها بلفائفها السوداء. وأضحى «ملف وقف قولة» فى قسم «الحجج والسجلات» بوزارة الأوقاف بباب اللوق هو الأضخم بين جميع ملفات الأوقاف. ولتضخمه أسباب كثيرة، ومن أهمها: كثرة التصرفات التى استهدفت الاستيلاء على أعيانه الموقوفة(أحصيت منها أكثر من سبعمائة وثيقة تصرف فى خزينة واحدة) . وكان ذلك يتم تحت ستار «الاستبدال والإبدال»؛ يعنى بيع قطعة أرض من الوقف وشراء قطعة أخرى تكون أكثر نفعا فى مكان آخر، وهو ما لم يكن يتم غالبا.

وتحتاج وثائق «وقف قولة» إلى فريق متخصص لجمعها ودراستها ومعرفة محتوياتها، والبحث عنها وتحديد مواضعها فى الواقع، وذلك تمهيدا لإعادة وصل ما انقطع من صلات كانت تربطه ومؤسساته بوقف جزيرة طاش أوز برمتها.

الكارثة فيما تناقلته وسائل الإعلام خلال الأيام الأخيرة من أغسطس (2016م) هى: أن تصريحات مسئولى وزارة الأوقاف وهيئة الأوقاف المصرية؛ السابقون منهم والحاليون، تدل على أن معلوماتهم عن أوقاف قولة ووقف جزيرة طاش أوز لا تختلف عن معلومات عامة المواطنين والكتاب الصحفيين التى وصفها د. خالد فهمى بأنها «سمك لبن تمر هندى».

فصحف يومى 29 و30 أغسطس(2016م) مثلا نشرت خبرا منسوبا لمصادر مسئولة فى وزارة الأوقاف يقول: إن وزير الأوقاف قال إن ممتلكات الأوقاف المصرية «تشمل جزيرتى تشيوس وكافالا» (مثلا: موقع صدى البلد 30 أغسطس 2016)، هذا الخبر إن صح فإنه يوضح كيف أن المسئول الأول عن الأوقاف المصرية لا يعرف اسم الجزيرة الصحيح، ولا يفرق بين «خيوس»، و«طاش أوز»، ولا يعرف أن «كافالا» مدينة وليست جزيرة، وقد لا يعرف أيضا أن الوفد المزمع إرساله إلى هناك سبقته وفود ذهبت لنفس الغرض عدة مرات خلال العقود الماضية، وتشكلت على أثرها لجان، وكانت لهذه اللجان اجتماعات تلو الاجتماعات، وقد شاركت فيها: وزارة الأوقاف، ووزارة الخارجية، ووزارة التعاون الدولى، ووزارة الآثار والسياحة؛ ومع ذلك بقى الحال كما هو، بل زاد سوءا وتدهورا وإهدارا لأموال الأوقاف الخيرية، وزاد الأمر تشويها لسمعة مصر والمصريين فى العالمين.

ومساهمة فى تنوير الرأى العام المصرى عامة، وسعيا لتعريف الشباب منهم خاصة ببعض أبسط حقوقهم فى معرفة ما جرى لجزء غالٍ من ثروات بلدنا الحضارية والتاريخية، أسوق هنا بعض المعلومات الموثقة (وليست الكاملة بأى حال ولا الوافية) عما جرى فى أوقاف قولة منذ منتصف الثمانينيات من القرن العشرين الماضى.

أقول: فى أول أغسطس من سنة 1984م قامت هيئة الأوقاف المصرية (بمشاركة جهات حكومية أخرى) بتوقيع اتفاقية مع الحكومة اليونانية. وبموجب هذه الاتفاقية أقر الجانب المصرى بنزع ملكية أربع قطع من أراضى أوقاف قولة لصالح الحكومة اليونانية: اثنتان فى مدينة قولة نفسها، واثنتان فى جزيرة طاش أوز. وتم حصر بقية ممتلكات وقف قولة فى أربعة عشر عقارا فقط (منازل وقطع أرض)، كما تم عمل خرائط مساحية معتمدة من السلطات اليونانية لكل عقار منها وموقع عليها من الجانبين المصرى واليونانى. وتضمن ملحق الاتفاقية المذكورة خرائط وبيانات كاملة عن تلك العقارات الأربعة عشر.

وشرعت هيئة الأوقاف المصرية بعد توقيع تلك الاتفاقية مباشرة فى عرض تلك العقارات للبيع! ثم قامت وزارة الأوقاف بتوقيع اتفاقية تفاهم «كارثية» مع اليونان فى 23 مايو سنة 1986م وهى مكملة لاتفاقية سنة 1984م. فقد تضمنت هذه الاتفاقية: إقرارالجانب المصرى بتقسيط المبالغ المستحقة نظير قطع الأراضى المبيعة من وقف قولة لليونان، وتسوية مسألة التعويضات المستحقة لليونانيين، الذين غادروا مصر على أثر التأميمات فى الستينيات من تلك المبالغ، وتسوية العجز فى الميزان التجارى لصالح اليونان وقيمته 6.6 مليون دولار أمريكى. وبهذا نجح الجانب اليونانى فى ربط مستحقات بيع الأوقاف المصرية فى قولة وطاش أوز، بتعويضات اليونانيين الذين غادروا مصر، وبالعجز فى الميزان التجارى بين مصر واليونان لصالح اليونان. وباعت الوزارة بالفعل القطعة المدرجة فى ملحق الاتفاقية برقم (9) وكانت عبارة عن مبنيين قديمين كانا مستعملين كمحلات بجزيرة طاش أوز ومساحتمها 464م2، وتم هذا البيع لصالح وزارة الثقافة اليونانية بتاريخ 29/5/1986م بمبلغ إجمالى 10,050,00 دراخمة يونانية، خصمت منه 3% مصاريف إدارية، وسددت منه النصف، والباقى بالتقسيط المريح على سنتين حسب اتفاقية التفاهم.

إن قصة هذا الملف المعتم (أوقاف قولة) مليئة بالتفاصيل والكوارث. ويكفى أن أسرد لك بعض العبارات التى وردت فى محضر اجتماع رسمى لهيئة الأوقاف المصرية بتاريخ 21 أكتوبر 1993م وهى تلقى بعض الضوء على سلوك المسئولين المصريين وبعض ما فعلوه فى هذا الشأن وكأن هذه الوقفيات عبء ثقيل كان ولا يزال يؤرقهم ليل نهار ويدعوهم للتخلص منه، وليس ثروة حضارية وتاريخية لها قيمة ثقافية ودينية لا نظير لها ولا تقدر بثمن. ومما جاء فى هذا المحضر ويصور ذلك السلوك باختصار أن: «السيد الأستاذ وكيل الوزارة مدير عام هيئة الأوقاف (كل هذه ألقاب سيادته) رأى أن من الأفضل التخلص من أعيان وقف قولة وبيعها بالثمن المعروض خوفا من التعدى عليها» (ص 5 من المحضر). ومعنى هذا بوضوح هو انعدام الإحساس بالمسئولية، وقد يكون وراء الأمر ما هو أكثر من ذلك.

وكلما قلبنا فى الأضابير المعتمة لهذا الملف نجد اللجان والوفود التى تذهب وتعود من اليونان توصى دائما بـ: «البيع»، و«التخلص من تلك العقارات» وتؤكد بشدة أن «هناك مخاطر تحيط بالأوقاف فى قولة وطاش أوز، وقد تقوم الحكومة اليونانية بنزع ملكيتها، وأن عائدها قليل ومهددة بالسقوط، وهناك أفراد وجهات يونانية تستولى عليها بوضع اليد. وأن عمدة قولة يدرك صعوبة أن تتحمل مصر تكاليف صيانة مبانى الآثار الوقفية، ويعرض ترميمها بمعونة من الاتحاد الأوروبى، وأن مبنى الإماريت مهدد هو الآخر، وهو(عمارة خيرية متعددة الأغراض) بناه محمد على باشا فى الفترة من 1223هـ ـ 1236هـ، وهو حسب ما جاء فى تقرير لأحد الوفود التى تكرر ذهابها وإيابها: مبنى مكون من أربع وحدات، الرابعة منها «غير مستخدمة ومغلقة، وبها مبنى خشبى مستجد، وهو آيل للسقوط ويلزم أزالته، وهذه الوحدة كانت مستخدمة كمقر إدارى تابع لوزارة الأوقاف المصرية، ويوجد به مكاتب وملفات وخرائط ورسومات هندسية ومكاتبات ومطبوعات خاصة بوزارة الأوقاف». ولك أن تسأل: واين ذهب كل هذا؟ ومن المسئول عنه؟ ومذا فعل المسئولون بعدما قرأوا تقرير تلك اللجنة وغيرها؟. ولكن لا جواب ولا مجيب. والملفت أن تقارير تلك الوفود واللجان لا تترك أمام قارئها مجالا للاجتهاد فى غير التخلص والبيع بالمخالفة للأحكام الشرعية والقوانين الخاصة بالأوقاف المصرية تحديدا؛ دون أن يسألهم أحد أو أن يحاسبهم أحد.

ليس معروفا ما الذى سيحققه أو سيفعله الوفد الذى أعلنت وزارة الأوقاف عن سفره عقب أجازة عيد الأضحى المبارك أى فى منتصف سبتمبر الحالى (2016) إلى اليونان لبحث «سبل الاستثمار وترميم الآثار الوقفية هناك» كما جاء فى تصريحات مسئولى الأوقاف. وهل ثمة حاجة فعلا لإرسال هذا الوفد لهذا الغرض المعلن أم يمكن تأجيله إلى حين التفكير فيما يجب عمله برؤية واضحة ومعلومات موثقة وخطة عملية للتحرك من أجل استرداد حقوقنا فى وقفية جزيرة طاش أوز وأوقاف قولة؟

الأنفع والأصلح الآن هو: تشكيل متخصصة تضم خبراء فى القانون دولى، والوقف، والآثار والسياحة، والتاريخ؛ وتكون مهمتها: بحث قضية وقف جزيرة طاش أوز فى ضوء الأصول الشرعية لمثل هذا النوع من الأوقاف، وفى ضوء قواعد القانون الدولى؛ خاصة قواعد «التوارث الدولى»، وذلك تمهيدا لاتخاذ خطوات عملية للمطالبة باسترداد هذه الجزيرة للسيادة المصرية بالطرق الدبلوماسية أولا، وإلا فبطرق المساعى الحميدة والتوفيق والتحكيم والقضاء إن اقتضى الأمر.

أما بالنسبة لأوقاف قولة فمسألتها مرتبطة بوقفية جزيرة طاش أوز ارتباط الأصل بالفرع. وثمة كثير من التصرفات الخاطئة التى نالت من هذه الوقفيات سواء داخل مصر، أو فى اليونان، ويمكن إبطالها بالطرق القانونية وتصويب وضعها عن طريق القضاء. وهذا يستلزم عدة إجراءات، أهمها اثنان:

الأول هو محاكمة جميع وزراء الأوقاف ورؤساء هيئة الأوقاف المصرية الذى أسهموا فى وقوع تلك التصرفات الخاطئة (ومن مات منهم يحاكم بشكل رمزى ويصدر حكم عليه للتاريخ إبراء لذمة الأجيال الجديدة من هذه المسئولية الدينية والتاريخية والأخلاقية والقانونية).

والثانى هو فتح باب التعاون والتشاور مع الجانب التركى للحصول على أكثرية أصول الوثائق الخاصة بوضعية جزيرة طاش أوز، ونسخ من أصول وقفيات قولة لكى تستخدمها مصر كأدلة فى مطالباتها بتبعية جزيرة طاش لها. وثمة مصالح مشتركة ومؤكدة لكل من مصر وتركيا فى فتح هذا الملف بشكل قانونى وموثق، وهذا أنفع لمصر ومصالحها العليا سواء فى ترسيم حدودها البحرية مع جيرانها فى البحر المتوسط ومنهم اليونان، أو فى استرداد حقوقها وصون هيبتها وتراثها الحضارى على مر الزمان.

الأستاذ العلوم السياسية ومستشار بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ومؤلف كتاب «الأوقاف والسياسة فى مصر»، وصدرت طبعته الأولى عام 1998.
 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved