كان وأصبح (30) قصر النيل.. ثكنة الإنجليز العسكرية التي تحولت إلى «النيل هيلتون»

آخر تحديث: الأربعاء 5 يونيو 2019 - 8:38 ص بتوقيت القاهرة

إنجي عبدالوهاب

سيطر عليه الإنجليز ورفع عليه فاروق علم الاستقلال قبل أن يُهدم وتتقاسم مقر لجامعة الدول العربية ومبنى للاتحاد الاشتراكي وفندق النيل هيلتون أنقاضه.

لا ينفصل تاريخ الفنون عمارة وتصويرًا ونحتًا عن السياسة والاجتماع والاقتصاد، ولا تقتصر قيمته على الجمال والإبداع والاحتراف، بل هي شهادة حية على أيام خلت وأحداث مضت وشخصيات كان يمكن أن تتوه في غياهب النسيان.

وفي سلسلتنا الجديدة "كان وأصبح"، التي ننشر حلقاتها على مدار شهر رمضان، نعرض نماذجا لحكايات منشآت معمارية أو قطع أثرية مصرية تنتمي لعصور مختلفة، تسببت التحولات السياسية والاجتماعية في تغيير تاريخها أو إخفاء معالمها أو تدميرها بالكامل؛ لتخبو بعدما كانت ملء السمع والبصر.

وتُنشر الحلقة الجديدة من تلك السلسلة يوميًا في 8 مساءً بتوقيت القاهرة..

ونتناول في هذه الحلقة قصة قصر لا تكاد تدخل العاصمة إلا ويتردد اسمه على مسامعك؛ فكوبري قصر النيل أحد مداخل القاهرة الرئيسة مرتبط باسمه، وعلى بعد أمتار معدودة منه تطأ قدماك شارع قصرالنيل الذي ارتبط باسمه أيضًا، ولكن هل تسائلت يومًا ماهي قصة «قصر النيل» الذي التصق اسمه بشوارع العاصمة ومنشآتها رغم هدمه، ولماذا لم تتمكن التحولات السياسية من طمس اسمه.

ماهي قصة «قصرالنيل»؟
كان «قصر النيل» الذي أنشأه محمد على باشا في العام 1848 يقع في الجهة الغربية لشاطي النيل، وتوسط لاحقًا الميدان الذي أُنشأه الخديو إسماعيل وسمي بـ« ميدان الإسماعلية» وأسماه بعض العوام «ميدان قصر النيل» (التحريرلاحقًا)، وظل اسم هذا القصر الذي كان مبنيًا على الطراز الإسلامي عالقًا في الذاكرة الجمعية للمصرين رغم مرور 171 عامًا على إنشاءه و137 عامًا على هدمه وإقامة ثكنات عسكرية للإنجليز على أنقاضه لارتباطه بثورتي عرابي و1919، فضلًا عن ارتباطه بجلاء الإنجليز ورفع الملك فاروق علم الاستقلال على ثكناتهم العسكرية.

لا يمكن استلهام الشكل الأولى للقصر قبل توسيعه ليشمل «قشلاق عسكري»، أو تصور مساحته فلم يورد المؤرخون وصفًا تفصيليًا له في كتاباتهم بل أوردوا إشارات عن القصر في كتابات وثقت للثورة العرابية وأخرى وثقت لثورة 1919، وفيما يعتقد البعض خطأ أن القصر يرجع للخديو إسماعيل وأنه بناه لإحدى زوجاته، ينسبه معظم المؤرخين إلى جده محمد علي باشا إذ يرجحون أنه أُنشأه في العام 1848 أي قبل وفاته بعام واحد.

ويعتقد بعضهم أنه بناه لأصغر كريماته الأميرة زينب عقب زواجها من يوسف كامل باشا فيما يقول البعض الآخر أنه أهداه لشقيقتها الكبرى الأميرة نازلي نظرًا لعشقها لنهر النيل، وكان العوام يطلقون علي القصراسم «قصرالنيل»، لكونهمن أوائل القصورالمبنية على مقربة من شاطيء النيل.

من استراحة ملكية إلى ثكنة عسكرية
مرَ القصر بعدة تحولات جوهرية، فبعدما كان بمثابة استراحة ملكية هُجرفي العام 1852 بعدما سافرت الأميرتان الشقيقتان زينب ونازلي إلى الأستانة جراء تولي الخديو عباس حلمي الأول الذي كان يناصب أفراد العائلة العداء، ثم تحول إلى ثكنة عسكرية للجيش المصري بتولي أخيهما الخديو محمد سعيد باشا (1854- 1863) الذي اهتم بالعسكرية المصرية ووسع الجيش بعدة قرارات كعدم إعفاء أبناء العمد من الجهادية.

وقيل إن سعيد باشا اشترى القصر من شقيقته الأميرة نازلي في العام 1856 وأصدر أمرًا إلى نظارة الداخلية بإنشاء رصيف أمامه وتحويل حدائقه إلى قشلاق (ثكنة عسكرية) للجيش المصري، وبنى إلى جواره مدرسة حربية محتفظًا بمبنى القصر كسراي شخصية يتفدها من الحين للأخر ويشرف من خلالها على الجيش، وظل يعتني ببنا المدارس الحربية.

وفي عهد الخديو إسماعيل انتقلت المدرسة الحربية من القلعة السعيدية بالقناطر إلى ثكنات قصر النيل تمهيدًا لنقلها إلى ثكنات العباسية، وحل محل المدرسة الحربية مدرسة الطب.

"شاهد على ثلاث ثورات"
لم ينفصل «قصر النيل»عن الأحداث السياسية التي شهدتها مصر بل شهد على ثورات ثلاث وقعت منذ إنشاءه؛ ففي عهد الخديو توفيق انطلقت من داخله الشرارة الأولى لـ«هوجة عرابي» ضد الخديو توفيق جراء خنوعه للتدخل الإنجليزي السافر في البلاد، ففي 1 فبراير 1881 اعتُقل الأميرلاي أحمد عرابي داخل القصر برفقة زملائه علي فهمي وعبدالعال حلمي، بعدما وقعوا على عريضة طالبوا فيها بعزل ناظرالجهادية عثمان رفقي.

وفي أعقاب ذلك دعاهم وزير الحربية إلى «قصرالنيل» للتفاوض وهناك قُبض عليهم وجردوا من أسلحتهم وأُودعوا في القصر تمهيدًا لمحاكمتهم عسكريًا، وحينها وصل إلى زميلهم في الجهادية البكباشي محمد عبيد، فأمربسرعة التوجه إلى قصرالنيل لتحرير زملائه، ومن ثم خرجوا جميعاً بقيادة أحمد عرابي متوجهين إلى ميدان عابدين فيما عُرف بمظاهرة عابدين الأولى، وهنا وجد الخديو توفيق نفسه مضطرًا إلى قبول مطالب عرابي ورفاقه.

ظلت «ثكنة قصر النيل» العسكرية بعد ذلك تحت الاحتلال الإنجليزي الذي استخدمها كجاضنة لجنوده، منذ سبتمبر1882 على إر للقرارالذي اتخذه الخديو توفيق بحل الجيش المصري حتى شهدت أحداث ثورة 1919؛ ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى تحولت هذه الثكنات إلى معتقل جماعي للرافضين للاحتلال الإنجليزي، اعتقل بداخلها بعض أعضاء حزب لوفد قبل أيام من ثورة 1919 كإسماعيل باشا صدقي وحمدالباسل باشا الذين اعتقلوا بداخلها وأُدعوا بالقصر قبل نفيهم إلى مالطا، حسبما أورده عبدالرحمن الرافعي في كتابه الذي حمل عنوان «ثورة 1919».

وبعدما تحررت «ثكنات قصر النيل» من براسم الاحتلال الإنجليزي بموجب معاهدة 1936، رفع الملك فاروق علم مصر عليها في 31 مارس 1947 وكان مرتديًا بدلته العسكرية وإلى جواره رئيس وزاءه محمود فهمي النقراشي وكبار رجالات الجيش المصري، احتفالاً بتحررها وتحرر البلاد من الإنجليز ومنذئذ تغير اسم الميدان الواقعة به من ميدان الإسماعيلية إلى "ميدان التحرير"، كما أصدر فاروق قرارًا بجعل هذا اليوم إجازة رسمية سميت بـ"إجازة التحرير".

واستكمالًا للمشهد المهيب الذي قوبل باحتفالات وزغاريد المواطنين قرر فاروق هدم ثكنات "قصر النيل" نهائيًا لمحو آثار الاحتلال وتحويلها لوجهة مشرفة على أن تكون المقر الجديد لجامعة الدول العربية التي تقرر إنشائها في مارس 1945 وكأنما يبعث برسالة إلى الاحتلال، ثم قرر فاروق هدم ثكنات "قصر النيل" لمحو آثار الاحتلال وتحويلها لوجهة مشرفة، فقررأن تكون المقر الجديد لجامعة الدول العربية في العام 1950، وكأنما يبعث برسالة إلى الاحتلال.

وفي أعقاب ثورة يوليو 1952، أممت المساحة المتبقية ضمن الخاصة الملكية وبنى عليها فندق «النيل هيلتون» الذي افتتحه جمال عبدالناصر عام 1959 ومبنى الاتحاد الاشتراكي القومي (تحول لاحقًا إلى مبنى الحزب الوطني الحاكم في عهد مبارك والذي أحرقه ثوار يناير يوم جمعة الغضب ثم تقرر هدمه)، وأضيفت المساحة المتبقية إلى قلب ميدان التحرير لتوسيعه

هكذا تعاقبت على «قصرالنيل» العهود ومرت عليه العقود حتى اندثر بنائه تمامًا لكن اسمه أبى الاندثار بل ظل عالقًا في الذاكرة الجمعية للمصريين رغم التحولات السياسية التي مرَ بها فأطلق على أحد اقدم شوارع وسط القاهرة كما التصق بأقدم كوبري لعبور نهر النيل ليصبح شاهدًا علي هذه التحولات ويري قصتها.

وغدًا حلقة جديدة..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved