عن عادل رفعت وبهجت النادي أو محمود حسين كما عرفهما سمير غريب: هل يمكن أن نشترك فى كتابة نص واحد دون أن نختلف؟

آخر تحديث: الجمعة 4 يوليه 2025 - 7:02 م بتوقيت القاهرة

إيمان صبرى خفاجة

نادرا ما يستطيع الإنسان أن يخلق من علاقاته الإنسانية مصيرا مشتركا على المستوى العملى، إذ اعتدنا أن يخشى الإنسان من أن يندمج إلى هذا الحد فى تجربة مشتركة. وهنا يكمن تميز واختلاف التجربة الفكرية التى قدّمها المفكران عادل رفعت وبهجت النادى، اللذان دربتهما تجربة السجن السياسى المشتركة على أن يفكّرا وكأنهما شخص واحد، بل ويكتبا ويقدما أعمالهما فى صورة مقالات وكتب تحمل توقيعًا مشتركا باسم واحد عُرفا به فى العالمين العربى والغربى: محمود حسين.

بالرغم من انتماء كل منهما إلى بيئة اجتماعية مختلفة، وتفاوت سنوات العمر فيما بينهما، جمعتهما الصدفة أكثر من مرة فى بدايات مرحلة الشباب. اللقاء الأول كان فى أحد اجتماعات لجان تشكلت من أجل السلام بعد انعقاد مؤتمر باندونج فى إبريل 1955، وكانت لجانا يسارية سرعان ما ألغيت فى مصر، بينما استمرت صداقة عادل وبهجت، ليتطوع الصديقان فى العام التالى 1956 لمحاربة العدوان الثلاثى على بورسعيد.

ظل عادل وبهجت يساريين بالرغم من تغيرات المرحلة التى عاصروها فى ذلك الوقت، فسُجنا معًا، لكن كعادة الصديقين فى استثمار الفرص التى تجمع بينهما، تعلم بهجت اللغة الفرنسية من عادل فى السجن.

وكأن القدر يرسم خيوط حكايتهم المتشابكة إنسانيا وأدبيا، فقد انتهت رحلة عادل وبهجت فى مصر، ليرحل الصديقان إلى فرنسا عام 1966، التى كانت محطة هامة فى تشكيل هويتهما الفكرية، ليصبحا «محمود حسين»، اسما واحدا يعبر عنهم، يوقّعان به أعمالهما الأدبية ما بين الكتب والمقالات الصحفية التى ظلا يكتبانها معًا، عدا كتاباتهما ولقاءاتهما الشهيرة فى مجلة رسالة اليونسكو، حيث كان بهجت رئيسا لتحريرها، وعادل مديرا للتحرير.

من هما عادل رفعت وبهجت النادى؟ وماذا يعنى «محمود حسين» لدى كلٍّ منهما؟ ولماذا اختار الصديقان اسمًا مستعارًا لكتاباتهما؟ وكيف استطاعا أن يتشاركا الكتابة، هذا العمل الشاق الأنانى، طوال هذه المدة دون أن يختلفا أو يتخلى أى منهما عن الفكرة؟

تكمن الإجابة بين صفحات كتاب «محمود حسين كما عرفته»، للكاتب سمير غريب، الصادر عن دار الشروق لهذا العام 2025، كما يتحدث الكاتب أيضًا عن الصداقة التى جمعته بعادل وبهجت، ولماذا اختص تجربتهما بهذه الصفحات.

يبدأ الكتاب بمقدمة يتحدث فيها عن دوافعه لكتابة هذه المذكرات، والتى كان أبرزها رفض عادل وبهجت الكتابة عن تجربتهما الشخصية والعملية، فأراد الكاتب أن يقوم بهذا الدور نيابة عنهما، فى حدود الصداقة التى جمعته بهما، وسمحت له بأن يكون الأكثر معرفة بتاريخهما، ومن ثم تقديرًا لقيمتهما الفكرية.

ثم يذهب إلى شرح الآلية التى اتبعها فى كتابة هذه السيرة، من حيث أسلوب السرد واللغة وترتيب الفقرات، والحديث عن دوافعه خلف هذا الأسلوب. وبالفعل، بمجرد أن يبدأ القارئ فى تتبع الحكاية، يدرك أنه أمام سيرة ذاتية كُتبت بطريقة مختلفة، فلم تكتب كما جرت العادة بالترتيب الزمنى أو حتى ترتيب الأحداث، بل قرر أن يتناولها من منظور العصف الذهنى للذكرى، وكأنه يجلس بجانبك يحدثك عنهما، وكلما تذكر جزءًا استرسل فى روايته بالكامل، ثم يذهب إلى جانب آخر، وهكذا حتى نهاية المذكرات.

كما جمعت هذه المذكرات بين الحكى بصوت الراوى، وهو الكاتب، ثم اليوميات التى استند فيها إلى رسائل عادل وبهجت المباشرة إليه، التى كانا يتبادلانها معه طوال سنوات، ثم المقالات التى كتبت عن أعمالهما، والحوارات التى أجرياها، والحوارات المباشرة التى دارت بينهما كأصدقاء.

ينتقل الكاتب فيما بعد إلى الصدفة التى اختصته بلقاء محمود حسين، ويرجعها الأستاذ بهجت النادى إلى لقاء جمعهم فى مكتب فاروق حسنى، وزير الثقافة، عام 1988. ومن هذه الذكرى، تومض فى ذهن الكاتب ذكريات خاصة بينه وبين بهجت النادى، بصفة خاصة فى فرنسا، التى ينطلق منها إلى رصد ظروف سفر عادل وبهجت إلى فرنسا عام 1966، ليقررا الإقامة والعمل فيها، ولم يعودا إلى مصر إلا بعد مرور 21 عاما للزيارة.

لكنهما طوال تلك الفترة وطدا علاقتهما بمصر بشكل أعمق، وعملا على خدمة وإثراء وجه مصر الثقافى فى العالم، حيث ظلا يتحدثان باسمها فى اللقاءات التليفزيونية، ولم يثنهما شىء فى العالم عن ذلك، بالرغم من أن سفرهما إلى فرنسا كان لجوءًا سياسيا.

وبالرغم من ذلك، لم يحصل أى من عادل وبهجت على الجنسية الفرنسية إلا بعد 17 عامًا، بواسطة شخصية مرموقة كان لها دور هام فى حياتهما، فلم يطلب أى منهما الجنسية، وكانا مكتفيين بتجديد الإقامة.

من هذه النقطة، ينطلق الكاتب إلى الحديث عن جذور عادل وبهجت، وظروف نشأة كل منهما على حدة، لتسيطر على المذكرات فى ذلك الجزء تقنية «الفلاش باك» بلغة أهل السينما، يتذكر مواقف عديدة من الحياة العائلية لكل منهما، ويمزج بينها وبين ما عرفه شخصيا فيما بعد.

وفى هذا الجزء أيضًا، ضوء أخضر يسلط على التركيبة الاجتماعية المختلفة للمجتمع المصرى فى ذلك الوقت، التى تمثلت فى عادل وبهجت، فمنهم من ينتمى للقرية، والآخر ابن لأسرة أرستقراطية، لكن المناخ العام فى مصر الثقافى والسياسى كان يجمع كافة الطبقات فكريا، فقد كانت هناك مساحة من التلاقى الفكرى فى ميادين العمل العام بالسياسة والثقافة، ومساحة التعليم الجاد الذى كان يبنى الشخصيات إن استطاعوا الحصول عليه.

ثم يتحدث الكاتب من خلال رسالة طويلة عن علاقة الصداقة التى جمعت بين بهجت النادى والكاتب الشهير خالد محمد خالد، والتى تحدث عنها الأخير فى مذكراته، وقد حرص الكاتب على الاستشهاد بها فى المذكرات كاملة، لنرى من خلالها المناخ الأدبى والثقافى فى مصر فى تلك الفترة، الذى جمع بين شاب فى مقتبل حياته العملية والثقافية والشخصية، وبين كاتب راسخ إلى الحد الذى يؤدى بالكاتب للحديث عنه فى مذكراته.

لكن هذه العلاقة الفريدة كانت شرارة لعلاقات مميزة جمعت بين الثنائى عادل وبهجت منذ أن قررا الكتابة تحت اسم واحد «محمود حسين»، وبين العديد من الأسماء اللامعة، فقد التقيا بالفيلسوف الوجودى جان بول سارتر، والفيلسوف ميشيل فوكو، والكاتب الطاهر بنجلون الذى كتب عن تجربتهما، وتناول كتابهما «ثوار النيل» بالمناقشة والبحث، فى مقال نشر فى مجلة «لوبوان» الفرنسية عام 2018.

بالإضافة إلى مجموعة من المثقفين المصريين، تحدث عنهم الكاتب باستفاضة، حيث استطاع أن يلتقى بهم عن طريق عادل وبهجت، ومنهم على الشلقانى، ومحمد سيد أحمد، ومحمد قاسم.

ثم تأتى السيرة الفكرية العملية لكل من عادل وبهجت لتحتل المساحة الأكبر وذلك لما تحمله من تنوع واختلاف، فقد بدأ مشوارهم فى فرنسا بالعمل مع منظمة فتح الفلسطينية، وأصدرا فيها مجلتين: واحدة بالفرنسية واسمها «فدائيون»، والثانية بالعربية واسمها «المسيرة»، وقد كانت هذه المرحلة السبب فى التأكيد على هويتهما وتوجهاتهما، حيث كانا من أهم المدافعين عن القضية الفلسطينية بالحديث والكتابة، وكذلك الأمر بالنسبة لمصر.

وقد ألحق الكاتب هذا الجزء بحوارات تليفزيونية وصحفية فارقة قام بها الصديقان للحديث عن كتاباتهما، وبالتحديد تلك التى كتبت فى الشأن المصرى. ومن هذا الجزء، ينطلق الكاتب للحديث المفصل عن الكتب الفكرية التى أصدرها عادل وبهجت، ليكتشف القارئ أن الكتاب الأول كان السبب خلف الاستعانة باسم: «محمود حسين».

بنهاية هذه المذكرات، يبرز جانب آخر يميز هذه التجربة الفريدة التى دعمها الأستاذ سمير غريب بملحق صور جمعته بالصديقين «محمود حسين». فالجهد الذى يبذل فى سبيل الفكر والكلمات لا يضيع أبدا، حتى وإن لم يحظ بالانتشار أو الشهرة كما قد يشعر قارئ هذه المراجعة.

جاء الكاتب ليسلط الضوء على تجربة «محمود حسين» ليثبت أن الكلمات قادرة على البقاء، طالما هناك قارئ واحد قد يعثر عليها يوما ما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved