أسامة غريب يكتب: كيخو!
آخر تحديث: الجمعة 4 يوليه 2025 - 7:22 م بتوقيت القاهرة
كان المدير مكروهًا من موظفيه، ومع ذلك فلم تكن هذه هي مشكلتهم معه. ما كان يحيرهم بشأن عصمت بيه، أنه في كل صباح وبينما يسير في الممر الطويل الذي يوصّل إلى مكتبه، كان يرد على تحية الصباح بغمغمة حار الموظفون في فهمها. لم يرد أبدًا بـ"صباح الخير" صريحة، لكنه كان يفتح فمه ويصدر أصواتًا لا معنى لها.
إن هذا الرجل يختلف عن المدير السابق رشوان بيه، فالأخير كان يسمع "صباح الخير" ولا يرد مطلقًا، وكأن بأذنيه صمم، وكان يتأمل الموظفين الذين يقدمون له التحية في سعادة مشوبة بالكِبر، ثم يمضي إلى مكتبه دون أن يفتح فمه. أما عصمت، فإنه يتظاهر برد السلام، بينما هو في حقيقة الأمر يثير نقمة الموظفين ويضاعف من حيرتهم.
قال أحد شباب الموظفين في تفسير الصوت: إن الرجل يقول "بوم سيخ".. كلمة "بوم" هي أول ما أسمعه عندما يفتح فمه لرد التحية، ثم يتبعها بكلمة "سيخ".
قال موظف آخر: بل يقول "بولوم".
ضحك ثالث قائلاً: لم يبق سوى أن تدّعوا أنه يقول "بولولوم"!
أضاف موظف قديم: لا.. إن المدير يغتصب ابتسامة بلاستيكية مقيتة قبل أن يقول "كيخو"، وهي كلمة أقرب إلى صوت القطط عندما تتعرض للهجوم.. إنه يقولها بسرعة لدرجة أنكم لا تتبينوها، أما أنا صاحب السمع الحاد فقد ميزتها.. إنها "كيخو".
غرق باقي الموظفين في الضحك من زميلهم الذي سمعها "كيخو"!
قالت زميلتهم الحسناء: إن سيادة المدير يبتسم في وجهي ويقول لي "صباح الفل" عندما أدخل إليه في أي أمر يخص شغل إدارتنا، ولا أفهم لماذا تفترون عليه بقولكم إنه لا يرد!
قال حسين، الموظف الجديد الذي لم يمضِ على تعيينه ثلاثة شهور: نحن لم نقل إنه لا يرد، لكن نقول إنه يعتمد سياسة الغموض البنّاء، فيقول كلمة لم ينجح في تفسيرها أحد، ومن المؤكد أن لديه تفسيرًا لهذه الكلمة الغامضة.
قال حسين هذا ثم أردف: إنني جديد هنا، لكن أنتم قضيتم فترة طويلة مع هذا الرجل.. ألم يفكر أحدكم في أن يسأله بأدب: "سيادتك بتقول إيه؟"
بدا سؤاله هذا ضربًا من الجنون، لأن أحدًا منهم ليس مستعدًا بحال لأن يتعرض لغضب الرجل وعقابه!
ضحك حسين قائلاً: أنا سأعرف بالضبط ماذا يقول.
سألوه: كيف؟
أجاب: سأسأله.
ستسأله؟ يا إلهي!.. وهل تجرؤ أن تفعلها؟
لم يكن حسين يهزل، وإنما توجه إلى سكرتيرة المدير وطلب موعدًا لمقابلة سيادته. ورغم أن المدير لم يكن يسمح للسكرتيرة بإدخال الموظفين العاديين إليه نظرًا لوقته الثمين ومشاغله الكونية، فإن السكرتيرة اضطرت إلى منحه موعدًا في اليوم التالي بعدما أقنعها أن الموضوع الذي سيطرحه يتعلق بالأوفر تايم، الذي سيعود بالنفع على الجميع.
عند الموعد، أشارت السكرتيرة لحسين بالدخول، فطرق الباب ودخل، ثم جلس قبالة عصمت بيه الذي كان منهمكًا في مطالعة أوراق ولم يحفل بالنظر إلى الشاب الذي دخل. طبعًا حسين يعرف أن السكرتيرة قبل إدخاله لا بد وأنها أخطرت المدير باسم من سيدخل ووظيفته، ولهذا لم يرَ داعيًا لمجرد أن يرفع رأسه أو يرد التحية.
كان حسين يأمل في أن يسمع من المدير ردًا لتحية الصباح وهو على مقربة منه داخل مكتبه، وربما كان هذا سيعفيه من السؤال الذي أتى من أجل الحصول على إجابة له، وكان حينها سيخترع سببًا آخر للزيارة، لكن الرجل لم يرد حتى بمجرد "كيخو"!
بعد ربع ساعة، رفع رأسه، ثم هزّ نفس الرأس متسائلًا دون كلام عن سبب الزيارة.
لم يرتبك حسين، وإنما نظر للمدير في عينيه وهو يلقي سؤاله:
"كل يوم عند حضور سيادتك نتبارى جميعًا في إلقاء تحية الصباح عليك، لكننا اختلفنا في تفسير ردك، فهناك من يزعم أنك تقول (بوم سيخ)، ومن يدّعي أنك تقول (بولوم)، وأيضًا بعضنا يظنك تقول (كيخو)، لهذا فإنني أتمنى عليك، وأستحلفك بأغلى شيء عندك أن تصارحني وتقول لي الكلمة الصحيحة التي تخرج من فمك في الصباح حتى أرتاح.. إننا جميعًا نشعر بالتوتر ونأمل في أن تنهي حيرتنا بعد أن نعرف هل هي بولولوم أم بوم سيخ أم كيخو؟"
كان حسين مباشرًا وسريعًا، الأمر الذي باغت المدير ولم يسمح له بالمقاطعة حتى انتهى الشاب من كلامه.
نظر عصمت بك إليه في ذهول: "أنت في كامل قواك العقلية يا ابني؟"
قال حسين في لهجة صادقة: "أتوسل إليك.. أنا في حاجة إلى إجابة تريح نفسي المتعبة، ولن أنسى جميلك هذا ما حييت."
صرخ المدير: "إن أي جزاء إداري أوقعه عليك لن يكون كافيًا.. إنني سأطلب لك مستشفى المجانين حالًا!"
رد حسين ضاحكًا: "وهل تنوي أن تُلبسني القميص بالمقلوب وتزوجني هنّومة؟!"
قالها ثم أطلق ضحكة عريضة، وقام فأعطى ظهره للمدير، وعند الباب التفت إلى عصمت قائلاً: "باي باي يا شقي يا بتاع كيخو!"
في اليوم التالي، كان قسم الموارد البشرية بالشركة يقوم بإعداد جواب فصل للموظف المستهتر، أما حسين فقد اتخذ مقعده داخل الطائرة في الطريق إلى أمريكا، بعد أن فاز في قرعة الهجرة السنوية.
الغريب أن عصمت بيه بعد ذلك كان يرد تحية الصباح بشكل واضح: "صباح النور!"