دكتور خالد فهمى يقارن بين: الباشا والرئيس.. محمد على وجمال عبد الناصر (1)

آخر تحديث: الأربعاء 7 يناير 2015 - 1:02 م بتوقيت القاهرة

«يوليو» قضت على حكم الأسرة العلوية لكن عبد الناصر سار فى ركاب محمد على واستلهم الكثير من رؤاه فى كيفية حكم مصر والنهوض بها

«مركزية الدولة» كانت القاسم المشترك بين الرجلين.. والاهتمام بالرى والتعليم والصناعة من دعائم سياستهما للإصلاح

هزيمة المشروع الناصرى تعود إلى تواطؤ إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة

فشلت تجربة محمد على بسبب تواطؤ أوروبا الاستعمارية مع الدولة العثمانية الذليلة

عقدت بريطانيا العزم على هزيمة محمد على والتخلص من صناعاته.. ووزير خارجيتها كان يحتقره ويصفه بـ«صبى القهوجى»

بالرغم من الاختلافات العديدة التى تفصل بين محمد على و عبد الناصر، ومن أن انقلاب يوليو أتى ليقضى على حكم الأسرة العلوية التى أسسها محمد على فى مصر، فإن كثيرا ما تعقد المقارنات بين الرجلين، بل إن كثيرين يرون عبد الناصر، محتذيا حذو محمد على وسائرا فى ركابه ومستلهما الكثير من رؤاه فى كيفية حكم مصر والنهوض بها.

فى السطور القليلة التالية أعرض صورة مختصرة لتلك الرؤية التى يبدو فيها الرجلان مكملين لبعضهما البعض ومنتميين لنفس المشروع النهضوى الواحد. ثم سأقوم بتقديم نقد لتلك الرؤية مبنيا على قراءة لسيرة محمد على وسياساته، قراءة نابعة من إطار عثمانى وليس مصريا خالصا. ثم سأختم بطرح تساؤل عما ستبدو عليه المقارنة بين الرجلين إذا نظرنا إلى محمد على من داخل هذا الإطار العثمانى.

يبدو كل من محمد على وعبد الناصر كمصلحين عظيمين كانت لكل منهما طموحات ضخمة لمصر مبنية على قراءة دقيقة لتاريخها ولشعبها ولموقعها الإستراتيجى الفذ. ويعتقد الكثيرون أن تلك الرؤى العظيمة لم تكن مجرد أحلام بل ترجمت إلى حقائق ملموسة بناء على خطط محكمة أعدت بحنكة وعناية. وتبدو السياسة التعليمية كإحدى الدعائم الأساسية لسياسة الإصلاح الاجتماعى لكل من محمد على وعبد الناصر. فكثيرا ما يشاد بمحمد على لإنشائه ديوان المدارس فى عام ١٨٣٨، الذى يعتبر أول وزارة للتعليم، ولافتتاحه العديد من المدارس فى طول البلاد وعرضها، ولإرساله البعثات العلمية لأوربا، بالإضافة إلى رعايته لمشروع ترجمة طموح استطاع أن يترجم المئات من الكتب الفرنسية والإنجليزية العلمية إلى كتب عربية طبعت فى مطبعة بولاق، وجاءت لغتها جزلة رصينة. وبالمثل فإن الكثيرين يعتبرون أن من أهم إنجازات ثورة يوليو تلك السياسات التعليمية التى ضمنت بها الدولة تعليما مجانيا للجميع حتى المستوى الجامعى.

أما القاسم الثانى المشترك بين «مشروعى» محمد على وعبد الناصر فيتمحور حول الدور المركزى الذى لعبته الدولة فى كل منهما. فبالرغم من أن الرجلين أوليا عناية كبيرة للزراعة وتحديدا لمشروعات الرى الكبرى (القناطر الخيرية بالنسبة لمحمد على والسد العالى بالنسبة لعبد الناصر) فإن الصناعة نالت هى الأخرى قدرا كبيرا من اهتمامهما. فيُشتهر عن محمد على إنشائه لأول منشآت صناعية على ضفاف النيل إذ انتجت «فاوريقاته» الطرابيش والزجاج والبارود والأحذية والكيماويات وقلاع المراكب والعديد من المنتجات الأخرى. وقد زادت سياسة الاحتكار من قبضة الدولة على الاقتصاد، ونُظر إليها على أنها جزء مكمل من سياسة اقتصادية محكمة. وبالمثل فإن قرارات عبد الناصر الاشتراكية فى أوائل الستينيات من القرن الماضى أخضعت المنشآت الصناعية لسيطرة الدولة، وأعانت سياسة إحلال الواردات التى انتهجتها الدولة من إنتاج كل شىء «من الإبرة للصاروخ» حسبما ردد الشعار المشهور. ويسود الاعتقاد أن خلف تلك القناعة بأهمية الصناعة إيمان عميق بأنها توفر أفضل السبل للـ«لحاق بالغرب» والأهم أن اضطلاع الدولة بهذه المهمة يمثل أقصر الطرق للوصول لتلك الغاية.

على أن أهم نقطة تجمع الرجلين هى إدراك كل منهما أنه حتى يكتب لمشروعيهما النجاح يجب على مصر أن تندمج وتنصهر فى محيطها الجغرافى، وأن تتولى الدفاع عن عمقها الإستراتيجى، بل إن تخلق هذا العمق من الأساس إن استلزم الأمر. وبالتالى يُنظر لتوسعات محمد على فى السودان والجزيرة العربية وكريت والشام وبسطه لنفوذه فى الأناضول كخطوة ضرورية لتأسيس شبه إمبراطورية متمركزة حول القاهرة قامت قوة عسكرية مبهرة بقيادة القائد الفذ إبراهيم باشا بحمايتها والذود عنها. ويرى الكثير من الدارسين أن تلك التوسعات الجغرافية لم يكن الغرض منها أية أطماع استعمارية، بل أملتها سياساته الاقتصادية حتى يتسنى للصناعة المصرية الوليدة أن تجد أسواقا لمنتجاتها. ويزيد بعض هؤلاء الدارسين أن كون أغلب المناطق التى بسط عليها محمد على نفوذه تتحدث العربية لم يكن وليد الصدفة، إذ إن كلا من الرجل وابنه كانت لهما آمال فى تأسيس دولتهما مترامية الأطراف على قاعدة صلبة من القومية العربية، حسب مقولة جورج أنطونيوس التى أطلقها فى كتابه الشهير، يقظة العرب فى عام ١٩٣٩.

اللورد بالمرستون

وبالمثل فقد حدد عبد الناصر الدوائر الثلاث التى تتحرك فيها مصر والتى تكتسب منها عمقها الإستراتيجى: العربية والإفريقية والإسلامية. ويُنظر عادة لتبنيه لفكرة الوحدة العربية كعنصر مكمل لسياساته الداخلية إضافة إلى كونها نابعة من إيمان عميق بوحدة التاريخ والمصير لكل العرب. إضافة إلى ذلك، فإن مساعداته الإيجابية للحركات الوطنية المناهضة للاستعمار فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كسبت لمصر حلفاء استراتيجيين عديدين. وتبدو تلك النقطة تحديدا، أى محاولة بسط نفوذ مصر فى الخارج بناء على قراءة واعية للتاريخ والجغرافيا، كأهم نقطة يشترك فيها عبد الناصر مع محمد على.

على أن من أهم تفاصيل تلك الرؤية التى تجمع الرجلين سويا فى منظومة فكرية واحدة تلك التى تحاول أن تشرح أسباب إخفاق هاتين التجربتين الطموحتين. فبالرغم من أن تلك الرؤية الشائعة عن الرجلين تعترف بوجود بعض الخلل الداخلى فى كل من التجربتين فإنها تؤكد أن هذا الخلل لم يكن جوهريا، وأن كلتا التجربتين كان بوسعهما التغلب عليه لو لم تتدخل قوى أجنبية. ففشل تجربة محمد على يعود، حسب هذه الرواية، إلى تواطؤ أوربا الاستعمارية الإمبريالية مع الدولة العثمانية الذليلة، أما هزيمة المشروع الناصرى فتعود إلى تواطؤ إسرائيل مع القوى الاستعمارية القديمة متمثلة فى بريطانيا وفرنسا فى أول الأمر ثم تواطؤ إسرائيل مرة ثانية مع الولايات المتحدة، القوة العظمى الجديدة.

وتذهب الرواية الشائعة إلى أن بريطانيا كانت مصممة على إجهاض جهود محمد على الطموحة بعد أن أدركت أن سياسة الاحتكار التى كان يطبقها فى الأراضى، التى مد نفوذه عليها مكنته من إغلاق أسواق واسعة أمام المنتجات البريطانية. وأخذ عداء بريطانيا لمحمد على بعدا شخصيا متمثلا فى اللورد بالمرستون، وزير خارجية الملكة فيكتوريا، الذى كان يحتقر محمد على مشبها إياه بصبى القهوة. وتؤكد تلك الرواية الشائعة أن عداء بالمرستون الشخصى لمحمد على كان نابعا من إدراكه أن سياسة التصنيع التى انتهجها الباشا فى مصر كانت تضر بالمصالح البريطانية أكثر من سياسة الاحتكار. وبالتالى فقد عقدت بريطانيا العزم على هزيمة محمد على، والتخلص من صناعاته، وبعد أن فشلت فى تحقيق ذلك فى الجولة الأولى عندما تمكن محمد على من أن يفيق من كارثة تحطيم أسطوله فى واقعة نفارينو عام ١٨٢٧ على أيدى الأساطيل البريطانية والفرنسية والروسية مجتمعة، فقد صممت على ألا يفلت منها فى الجولة التالية. وبالفعل فقد عقد بالمرستون مؤتمر لندن المشئوم عام ١٨٤٠، حيث دعت أوروبا بزعامة بريطانيا محمد على إلى التنازل عن جميع الأراضى التى كان يسيطر عليها وحرمته من ثمار انتصاراته العسكرية المتلاحقة على الدولة العثمانية. وإضافة إلى ذلك فإن تسوية ١٨٤٠ــ١٨٤١، يُنظر إليها عادة على أنها أجبرت محمد على على إغلاق مصانعه، وبذلك آلت كل التجربة للفشل.

وبطريقة مماثلة تلام العوامل الخارجية عادة على إفشال مشروع عبد الناصر. فقد تواطأت كل من بريطانيا وفرنسا من دافع انزعاجهما من سياسات عبد الناصر المناهضة للاستعمار والمهددة لسياساتهما فيما اعتبرتاها مناطق نفوذهما ــ تواطأتا مع إسرائيل التى شعرت بالتهديد لما يمثله عبدالناصر من إمكانية توحيد العرب ضدها، وشنت هذه الدول العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦. وعندما فشلت تلك القوى الاستعمارية من التخلص من عبد الناصر وعندما خرج منتصرا ومحلقا عاليا فى سماء العالم الثالث تحالفت القوى الرجعية مع الاستعمار مرة أخرى ضد مصر، ونصبت لها شباك الغدر، وساقتها إلى نكسة خطيرة فى عام ١٩٦٧.

وإذا قبلنا بتلك الرواية الشائعة لن يسعنا سوى أن نرى أوجه الشبه بين الرجلين وسوف ندرك مدى التطابق بين مشروعى النهضة اللذين حاول الرجلان أن يحققاهما فى مصر. ففى تلك الرواية يتجلى الغرب مهيمنا، وتتحمل القوى الغربية مسئولية فشل الجهود الحثيثة التى بذلتها مصر من أجل اللحاق بركب الحداثة. وبالتالى يبدو الرجلان كبطلين تراجيديين كانا يواجهان قوى أكبر منهما. وعلى عكس اليابان التى مكنها وضعها الجغرافى من تحاشى المؤامرات الأوروبية فقد كان موقع مصر المتميز، ذلك الموقع الذى وصفه الجغرافى الشهير جمال حمدان بالعبقرية، بمثابة لعنة حيث جذب أنظار الأجانب لأهميته وزاد من قدرتهم على التدخل فى أمور مصر الداخلية وعلى إجهاض المشاريع النهضوية الوطنية.

وبالرغم من جاذبية تلك الرؤية فإنها تعانى من الكثير من التضاربات والمقارنات المخلة. فإذا جاز القول بأن الرجلين يشتركان فى بعض السمات إلا أن ما يفصلهما عن بعضهما أهم مما يجمعهما. كما أن تلك الرؤية الشائعة عن محمد على وعبد الناصر مبنية على قراءة سطحية ومبسطة لهاتين الشخصيتين المعقدتين بالإضافة إلى ولعها بحشرهما فى سياق زمنى تسلسل فيه الأحداث بشكل مبسط وسطحى. وإذا كان من الصواب التأكيد على أن تاريخ علاقة مصر بالغرب ملىء بالمؤامرات والتواطؤات، فإن تصوير تاريخنا الحديث على أنه سلسلة من المؤامرات التى حيكت ضدنا (كما يحلو لأتباع نظرية المؤامرة ترديده) لهو تبسيط مخل لهذا التاريخ إذ أنه يسطح الغرب ويبرئ ساحة الكثير من الفاعلين المحليين من المسئولية التاريخية.

وعوضا عن تقديم قراءة جديدة للحقبة الناصرية فإن ما أعرضه هنا فى محاولة لنقد تلك الرؤية الشائعة هو إظهار مدى عدم دقتها فى التعامل مع فترة حكم محمد على. فالنظر إلى محمد على على أنه سلف عبد الناصر كبطل وطنى مصرى أو قومى عربى لهو إسقاط منطق حديث على فترة زمنية كان فيها مفهوم الوطنية المصرية أو القومية العربية غير معروف. وبالمثل فإن القول بأن سياسات محمد على الاقتصادية كانت تحتم توسعات جغرافية فيه إخلال بالمنطق الذى حكم سياسات الباشا العسكرية، كما أنه يفشل فى فهم العلاقة بين الاقتصاد والتوسع الحربى. أما القول بأن عداء بريطانيا لمحمد على كان نابعا من القلق من منافسة الصناعة المصرية لمثيلتها البريطانية لهو نوع من السخف إذا أخذنا فى الاعتبار أنه لم توجد فى مصر وقتئذ سوى حفنة من ماكينات البخار التى لم تكن لتستطيع أن تهدد مصانع مانشستر وليفربول العتيدة. كما أن هذا القول يفشل فى إدراك طبيعة المصالح البريطانية فى المنطقة والسبب الحقيقى لعدائها لمحمد على. وفوق كل شىء فإن تلك الرؤية تفشل فى الوقوف على مطامع محمد على فى مصر وتصبغ على أفعاله منطقا غريبا لا يتماشى مع طبيعة الرجل وخلفيته وطبيعة نواياه.

الملكة فيكتوريا

إن فهمنا لشخصية محمد على لن يكتمل إلا إذا وضعناها فى محيطها العثمانى الذى أملى على الباشا سياساته وشكل معظم توجهاته. على أن التأكيد على أهمية هذا الإطار العثمانى ليس مرده أن محمد على نفسه انحدرت جذوره من قوله إحدى مدن البلقان التى كانت تابعة، كمصر، للدولة العثمانية، أو أنه كان يتحدث التركية وأن إلمامه بالعربية كان محدودا وتعامله بها منعدما. وليس مرده أيضا أنه كان يرى نفسه كوالٍ عثمانى أكثر من كونه سيدا مصريا (أيا كان معنى تلك العبارة). ولكن التركيز على هذا البعد العثمانى عائد بالأحرى إلى أن مصر كانت عندما وفد إليها محمد على عام ١٨٠١ ولاية من ولايات الدولة العثمانية، وأنه كان قد مضى عليها قرابة أربعة قرون، وهى منخرطة داخل الدولة العثمانية وأن تلك القرون الأربعة قد تركت ولا ريب آثارا على حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

على أن النقطة الأجدر بالذكر فى هذا السياق هى أن محمد على أتى للحكم فى مصر بناء على فرمان من السلطان العثمانى، سليم الثالث، يوليه الحكم فى مصر برتبة باشا. فكما هو معروف كانت القاهرة قبيل وصول هذا الفرمان تموج بـ«تحركات ثورية»، وقد قام مشايخ الأزهر بالتعاون مع كبار التجار باختيار محمد على واليا عليهم، واستطاعوا أن يطردوا الولاة الذين كانت الأستانة قد أرسلتهم الواحد تلو الآخر. وبالتالى يتضح أن محمد على لم يكن الرجل المفضل من قِبل الباب العالى لولاية مصر، وإضافة إلى ذلك فقد حاول السلطان، دون جدوى، أن يعزله بعيد توليته، واختصارا يمكن القول بأن تولية السلطان سليم لمحمد على كانت ضد رغبة السلطان، وأنه قد أجبر على اتخاذ هذا القرار عندما فشل فى تعيين أى والٍ آخر، وبمعنى آخر فإن محمد على قد أرغم على السلطان إرغاما.

ولكن وبالرغم من كل ذلك فإن مصدر شرعية محمد على الوحيد كان تلك الورقة الآتية من الأستانة والحاملة لطغراء السلطان العثمانى. ذلك أن محمد على لم يكن فاتحا يمكن أن يبنى شرعيته على السيف، كما أنه لم يكن من الأشراف حتى يستطيع أن يبنى شرعيته على نسل رفيع، وهو أيضا لم يكن من الأمراء المحليين ذوى السطوة والجاه، وبالتالى يمكن أن يُنعم ويغدق على أتباعه الهبات حتى يؤسس لشرعية جديدة. أما الزعامة الشعبية الممثلة فى المشايخ وكبار التجار الذين بايعوه واليا عليهم بشروطهم فقد عمل حالما وصله الفرمان السلطانى على التخلص منهم، فنفى عمر مكرم، قائد تلك الزعامة الشعبية، إلى دمياط ولم يسمح له بالعودة للقاهرة إلا بعد مرور سنوات طويلة، وأما بخصوص سائر المشايخ والتجار فقد صادر أملاكهم واستولى على أوقافهم ولم يأخذ برأيهم ولا استعان بهم فى حكم البلاد. وكدليل إضافى على الأهمية التى كان يوليها لمصدر شرعيته النابعة من الأستانة فقد كان يقيم احتفالا مهيبا فى القلعة عندما يصل التتر من عاصمة السلطنة مبشرا بتجديد الولاية له سنويا، وكان الفرمان يقرأ فى مواجهة حشد غافر من الأعيان والمشايخ والتجار مذكرا إياهم أنه، وقد وصله هذا الفرمان، صاحب الحق الأوحد فى الولاية والحكم.

وبعبارة أخرى فإن محمد على كان مدركا أنه وإن استطاع أن يبسط سيطرته على الأمور فى مصر اعتمادا على الحامية الألبانية التى توفى قائدها طاهر باشا تاركا له أهم قوة عسكرية فى البلاد وقتئذ، فإنه أدرك فى الوقت ذاته أنه لن يستقر له الحال فى مصر إلا إذا وصله فرمان من السلطان العثمانى يصبغ الشرعية على أفعاله. وهنا تكمن أهمية فرمان ١١ يوليو ١٨٠٥، إذ ترجم ذلك الفرمان النجاحات التى حققها محمد على على أرض الواقع بقوة السيف إلى حقائق قانونية جديدة غير قابلة للنقض. وربما يعطينا نص الخطاب النادر الآتى الذى بعث به محمد على للسلطان فكرة عن الطريقة التى نظر بها محمد على لنفسه ولوضعه داخل الدولة العثمانية (وكان ذلك فى أوائل حكمه وتحديدا فى عام ١٨١١ قبل أن يتحول على السلطان):

إن عبدكم الأحقر هذا (يقصد نفسه) مع كونه عبدا لا قيمه له من أدانى أهالى قضاء قوله التى ما هى سوى قرية من قرى إقليم مصر قد حظى بالتصرف والولاية على إقليم عظيم مثل مصر برتبة الوزارة العالية تحت ظلال سعد السلطنة السنية من غير استحقاق ومن غير خدمة سابقة تستوجب ذلك، وقد نال عبدكم المملوك (يقصد نفسه مرة ثانية) زيادة على ذلك من أنواع التوجه والعطف والتلطف والعناية من حضرة صاحب الخلافة ما لم يتمكن من نيله عبيدكم الوزراء السالفة على إبرازهم مدى ثلاثين سنة أو أربعين سنة أنواع الخدمات المرضية للدولة العلية الدائمة الأبدية، فاعتلت هامة سرورى وافتخارى بهذه المظهرية الفاخرة إلى مستوى واحد من الأوج الأعلى، والله يعلم أن نكران هذه العناية السلطانية والتقصير فيما يمكن إجراؤه من الحكمة والعبودية بمنزلة الكفر عند هذا العاجز.

على أن هذا الوضع المتميز الذى حازه محمد على بعد سنوات قليلة من توليته، على أهميته، لم يكن خاليا من المشاكل، ففرمان تولية محمد على على مصر، كسائر الفرمانات المبعوثة لولاة الدولة العثمانية العديدين، لم يكن لمدى الحياة، بل كان يجدد سنويا. وثانيا، كان هناك العديدون فى عاصمة الدولة المتوجسون خيفة من هذا الرجل المجهول لديهم ولذلك كانوا، ومنذ اللحظة الأولى التى تولى محمد على فيها الولاية، يحيكون ضده المؤامرات حتى يعزلونه من تلك الولاية المهمة والغنية.

وكان على رأس هذا الحزب المناوئ لمحمد على خسرو باشا الذى كان قد وقع عليه اختيار السلطان لولاية مصر عام ١٨٠٣، ولكنه لم يستطع أن يصمد أمام محمد على وجنوده الألبان، واضطر إلى الرحيل فى خزى وهوان على متن سفينة أقلته إلى اسطانبول.

وثالثا، وعلى عكس الولاة السابقين الذين كانت ولاية مصر تمثل لهم مرحلة مهمة من مراحل الترقى الوظيفى فى المراتب العليا من الهيراركية الوظيفية العثمانية، أتى محمد على من خارج تلك الزمرة الحاكمة التى نظرت له ببعض الحيطة وبالكثير من الريبة والتوجس. ونظرا لعدم انتمائه لدوائر صنع القرار تلك فقد كان محمد على بدوره يرتاب فى «رجال الأستانة» (كما كان يسمى تلك الزمرة الحاكمة) وكان ينظر للوعود التى كانت تصله بتوليته على ولايات أخرى بشك وريبة معتبرا إياها محاولة مبطنة للتخلص منه كلية. ورابعا، فقد ازدادت شكوك محمد على فى نوايا الآستانة تجاهه عندما جاءته التوجيهات الواحدة تلو الأخرى يأمره فيها السلطان بمساعدته فى حروبه العديدة (ضد الوهابيين واليونانيين والصرب والروس) حتى يضعفه ويستنزف موارده.

اقرأ الحلقة الثانية من هنا:

دكتور خالد فهمى يقارن بين: الباشا والرئيس.. محمد على وجمال عبد الناصر (2)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved