وزير التعليم السابق الهلالي الشربيني يكتب: كورونا يتحدى العولمة

آخر تحديث: الإثنين 6 أبريل 2020 - 10:24 م بتوقيت القاهرة

يرى بعض الذين يدافعون عن ظاهرة العولمة ويروجون لها أنها مجرد انتقاء للمُثل الإنسانية من كل الخبرات الحضارية ووضعها فى شكل نموذج عالمى مثالى تستهدفه كل المجتمعات بقدر ما تسمح به ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والحقيقة أن هذا الطرح لا يعد سوى محاولة لتخفيف انزعاج الكثيرين من التعامل مع هذه الظاهرة؛ حيث إن التطبيق السائد لها يؤكد أنها تمثل مذهبًا يدعو إلى إلغاء الحدود، والسماح بحرية انتقال العمالة والسلع والخدمات، ورأسمالية الاقتصاد، وعالمية الثقافة، وذلك من خلال توجه أمريكى يسعى لتنميط أنظمة الحياة فى العالم وفقًا لنموذج أمريكى تتشابه فيه الأذواق وأنماط الاستهلاك، ولا يراعى أى خصوصيات ثقافية، أو قيم دينية أو مثل اجتماعية، أو احترام لمفهوم الدولة الوطنية، الذى تردده الشعوب باعتزاز وانتشاء أو بحسرة وانتقاد.

وقد عزز وجود هذا النموذج وانتشاره ــ اختيارا أم قهرًا وجبرًا ــ انهيار الاتحاد السوفيتى السابق وظهور أمريكا كقطب أوحد يهيمن على العالم ويركز على تنميطه على صورة أحادية البعد تتبنى النموذج الأمريكى، وتتجاوز ثقافات وقيم ومصالح الآخرين، بل وتجبرهم ــ وخاصة الفقراء والضعفاء منهم ــ على الاندماج فيه، والذوبان فى ثقافته اتقاءً لشره.

وقد تبنت العولمة أدوات وأساليب متعددة لتعميم المفاهيم والقيم والمعايير التى تتبناها على مختلف الدول والشعوب اختيارًا أو جبرًا وقهرًا، منها: وسائل الإعلام والاتصال الحديثة، والشركات متعددة الجنسيات، والعقوبات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكثير من المنظمات الدولية، منها: صندوق النقد الدولى، ومنظمة التجارة العالمية، والبنك الدولى، ومؤتمرات الدول الصناعية الكبرى، والاتحاد الأوروبى، وشبكة الإنترنت، وهيئة الأمم المتحدة، ونادى روما، ونادى باريس، والشركات العابرة للقارات، والمحكمة الجنائية الدولية.

وقد تعززت ظاهرة العولمة فى ظل الثورات التكنولوجية التى صاحبتها منذ نهاية القرن الماضى وأحدثت تطورًا كميًا وكيفيًا هائلا للمعرفة الإنسانية بغض النظر عن كونها تمثل حاجة إنسانية أم لا، فتطور دور التكنولوجيا فى حياة الناس، وزاد التحول نحو الرقمنة، كما ظهرت الحوسبة السحابية وزادت أهميتها فى كل المجالات، كما انتشرت أيضًا برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعى حتى صارت تحاكى العقل البشرى فى التفكير، والاكتشاف، والاستفادة من التجارب السابقة، والقيام بمهمات أكثر تعقيدا مما كنا نعتقد فى القرن الماضى، الأمر الذى جعل أقطاب العولمة يظنون أنهم أصبحوا قادرين على كل شىء.

ومع ظهور فيروس كورونا ــ ذلك الشىء الذى لا يرى بالعين المجردة ــ اختلت كل تلك المفاهيم والمعايير التى أقامت عليها العولمة صروحها، وأمام هذا الفيروس الغامض سقط الأغنياء والفقراء، والقادة والبسطاء فى بئر من الهلع والارتباك، كل يحاول أن ينجو بنفسه دون النظر لغيره؛ وعادت السلطة المركزية للدولة الوطنية تمارس أقصى مظاهر السيادة على حدودها وأراضيها دون أدنى اهتمام بالآخرين دولا كانوا أو شركات بعد أن قدمت الصين مثالًا فى الأداء أفضل من كل النظم الليبرالية، وأُغلِقت الحدود، ومُنِع السفر، وتم تخزين الإمدادات الطبية، ولم تستطع هولندا وسويسرا اللتان تنتجان المواد الطبية الوفاء باحتياجات العالم، بل وراحت تخزنها لنفسها، كما راحت دول مثل فرنسا تجمع كل ما يتاح لها من مواد طبية وتخزنها، وأخرى مثل ألمانيا وتركيا وروسيا تمنع تصدير الأقنعة الواقية، وساء الوضع فى إيطاليا وأسبانيا وبريطانيا ومن بعدهم الولايات المتحدة التى اشترت حمولة طائرة من الكمامات الصينية مباشرة على المدرج، كانت معدّة لفرنسا بعد أن أقعدها الفيروس لا حول لها ولا قوة تعانى من نقص المواد الطبية وتحاول لملمة وضعها الذى راح يسوء يومًا بعد يوم. وصار السؤال الذى يطرح نفسه بإلحاح: هل من الحكمة أن تؤمم الدول القطاع الصحى، أم تسيطر على كل مؤسساته بقوة العرف وتسخرها لصالح الشعب وقت الأزمات؟

وفى ظل عجز النظام العالمى الحالى أمام هذا الفيروس أصبح من المؤكد أن عالم ما بعد كورونا لن يكون هو عالم ما قبله، حيث كشف هذا الفيروس هشاشة العولمة وفشل النظام الاقتصادى المبنى عل السلاسل الاقتصادية القائمة على مبدأ توزيع إنتاج مكونات السلع على موردين من دول مختلفة، هذا بالإضافة إلى ما قامت به الصين من شراء لأسهم كل الشركات الأوروبية والأمريكية التى تعرضت للانهيار، وسرعة تعافيها من الأزمة، ثم استخدام قوتها الناعمة من خلال تقديم خدماتها للجميع فى مواجهة الفيروس، وذلك فى محاولة منها لإثبات أنها أحق بدور القيادة فى نظام ما بعد كورونا، والسؤال الذى يطرح نفسه هنا: هل ستسمح أمريكا والدول الغربية بأن تخرج من الأزمة فتجد نفسها أصبحت من ممتلكات الصينين؟

وعلى الرغم من أن تداعيات ومخاطر هذه الأزمة مازالت مجهولة حتى الآن، فإننى أعتقد أن مصر والدول العربية ليست بعيدة عن هذه المخاطر والتحديات، فالمنطقة العربية معرضة لانتشار العدوى، وانهيار السياحة، وتهاوى أسعار النفط، وإغلاق المدارس والجامعات لفترات قد تطول، ولكن ما نأمله ونتمنى تحققه أن يدرك الناس فى هذه المنطقة من العالم خطورة ما هو قادم، فتتوقف إلى الأبد الأحضان والقبلات وتختفى التجمعات والحروب والصراعات والخصومات الجيوسياسية ويتم التركيز على توفير الرعاية الطبية والكساء والغذاء للشعوب، ويتم التمييز بين الحرية والفوضوية، والعودة إلى المنهج العلمى فى البحث والتفكير عند تناول القضايا وحل المشكلات، وأن تتوقف عن أعمال الشعوذة والدروشة، على شاكلة ما رأيناه فى شوارع الإسكندرية منذ أيام.

* أستاذ تخطيط التعليم بجامعة المنصورة، ووزير التربية والتعليم والتعليم الفنى السابق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved