أكتوبر حكاية عمري.. قصة محارب قضى بقية حياته في مشفى عسكري بعد نصر 1973

آخر تحديث: الخميس 6 أكتوبر 2022 - 2:49 م بتوقيت القاهرة

بسنت الشرقاوي

في غرفة داخل مشفى عسكري، ظل محارب أربعيني جالسا على كرسيه المتحرك طيلة 20 عاما، يُآنسه مصحف صغير، وملائكة رحمة تطل عليه بين الحين والآخر لتخفف عنه آلام حربٍ أبية على النسيان.

ما أقسى الحرب عندما تسرق أعمار الشباب، تنتزع أحلامهم لتقذفها بعيدا بلا هوادة، جميعها تبخرت لدى محارب مصري في أوج شبابه، إلا حلم واحد كان الأغلى والأبقى، هو النصر واسترجاع الكرامة المسلوبة، دفع ثمنه الشاب ليصبح مصابا بشلل رباعي في ربيعه العشريني، وظل قعيدا حبيس جدران مشفى عسكري مصري طيلة حياته، حتى تجاوز سن الأربعين ولفظ أنفاسه الأخيرة قبل سنوات.

تسطيع الحرب سرقة الأشياء الملموسة، تدمر الأبنية، تخرق الأرض، لكنها تبقى عاجزة عن تحطيم قلوب مؤمنة بأوطانها، مسلمة للقدر، هذا هو السر الذي جعل المحارب البطل المقدم محمد رضا عبد القادر، أربعيني قعيد بقلب شاب عشريني.

لم يحظ البطل الراحل المقدم محمد رضا عبد القادر من مواليد عام 1950، بالظهور الإعلامي الذي يليق به، غير قصته المنشورة في كتاب "القادة يتحدثون" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام 1993، للكاتبة منال نور الدين، التي جمعت بنفسها شهادات على لسان قادة حرب 6 أكتوبر 1973، في التسعينيات، عبر لقاءات شخصية بمناسبة مرور 20 عاما على ذكرى الحرب، ولم تتوافر له صورا سوى الموجودة داخل الكتاب بعين كاميرا مصور جريدة الأهرام عادل أحمد، فيما تعيد "الشروق" نشر قصة البطل الراحل، حيث يوافق اليوم الخميس الذكرى الـ49 لحرب أكتوبر المجيدة.

ولطالما قدمت مصر شهداء شرفاء وسير خالدة في حرب أكتوبر المجيدية أظهرت عظمة الجندي المصري، لكن مأساة البطل الراحل تبقى فريدة من نوعها، حيث كان الحالة الوحيدة المصابة بالشلل الرباعي وقضى طيلة حياته يتلقى العلاج داخل المشفى العسكري إلى أن لقيَ ربه.

* شاب حديث التخرج يتمنى لقاء العدو!

10 أشهر فقط مرت على تخرج محمد رضا عبد القادر من الكلية الحربية، سلاح الدفاع الجوي-صواريخ، برتبة ملازم، حتى أعلن الرئيس الراحل أنور السادات قرار الحرب، التي كانت أسمى أمنيات الطالب حديث التخرج، فلطالما تمنى مواجهة العدو وجها لوجه، تاركا أحلامه الشخصية في ذيل قائمة اهتماماته.

"قبل الحرب لم يكن يشغلني شيء سوى أن تتاح لي فرصة القتال لأن المقاتل المصري ظُلم في أعوام 1948 و 1956 و1967، فلم تتح له فرصة القتال وجها لوجه مع إسرائيل، بينما الحرب الوحيدة التي حدثت فيها مواجهة كانت حرب أكتوبر، كانت أحلامي مثل أحلام أي عسكري، القتال وجلب الأرض المسلوبة بعد ذلك أتت أحلامي الشخصية التي تركزت على مسؤولياتي الكبرى تجاه أسرتي لأني كنت مسؤول عنها".

* شظية ثمن الحرية
انطلقت الحرب وكان الملازم محمد رضا وقتها يؤدي واجبه في ميدان سلاح الدفاع الجوي_الصواريخ، وحدث الانتصار الأكبر، فقد استطاع المصريون عبور قناة السويس في أول أيام الحرب، لكن القدر كان يخفي مفاجأة غير سارة، فبعد مرور 14 يوما وبالتحديد في 20 أكتوبر، فوجئ رضا وزملاؤه بقصف مكثف من القوات الاسرائيلية، وأصيب بشظية في العمود الفقري سببت له شللا رباعيا، جعلته قعيدا تقتضى حالته العلاج الدائم، ليمكث في مستشفى المعادي العسكري في حي المعادي في القاهرة طيلة حياته.

"إصابتي حدثت يوم 20 أكتوبر الساعة 12 ظهرا من الطيران الإسرائيلي، كنت أعمل أنا وزملائي 22 ساعة في اليوم ومحطة الصواريخ كانت تتوقف عن العمل لمدة ساعتين فقط كراحة يومية، وخلال ذلك تقوم بحمايتنا المحطات المجاورة، لكن تلك المحطات المجاورة لم تكتشف القصف المكثف علينا من القوات الاسرائيلية".

عندما بدأ الضباط المصريون يدركون القصف، كانت عملية التشغيل والضبط لمحطة الصواريخ تستغرق 3 دقائق لكن إرادة الله سبقت كل شيء، وكان الملازم محمد رضا الضابط الوحيد الذي أصيب في المحطة، حيث كان متواجدا خارجها يمر على الجنود المقاتلين كنوع من الحماية حول المنطقة.

"أحسست بضربة الطيران التي كانت السبب في إصابتي لكن لحظة الإصابة نفسها لم أشعر بشيء، كنت واعيا لحظة نقلي للمستشفى لكني فقدت الشعور بكل أعضاء جسمي، كنت صائما عندما أصبت ورفضت الإفطار، ولم أشعر بشيء على الإطلاق إلا في منتصف الليل حيث تناولت إفطاري كوبا من الزبادي في مستشفى القصاصين".

كان الملازم محمد رضا الحالة الوحيدة في حرب أكتوبر التي أصيبت بالشلل الرباعي ضمن 5 حالات شلل نتيجة الحرب، حيث استعصت حالته عن الباقين فلم يستطع الشعور بجسده وفقد السيطرة تماما على أي جهاز من أجهزة الجسم حتى اليدين والقديمن.

"لم يستطع الأطباء تشخيص حالتي بسهولة، كنت ولا أزال محتفظا بالشظية التي استقرت في عمودي الفقري، وهي بلية حديدية تطايرت من (قنابل البلي) المحرمة دوليا".

* أمل مُحطم وموقف لا يُنسى

لم ينس المقدم الراحل محمد رضا الموقف الذي عرف فيه حقيقة إصابته، فلم يكن يتوقع عدم قدرته على المشي مجددا إلا عند سفره إلى فرنسا وهناك قال له الطبيب إنه سيقضى بقية عمره على كرسي متحرك!: "لم أنس وجهه ونبرة صوته التي لا زالت تتردد في أذني وكأنها بالأمس، لقد سافرت لفرنسا والأمل يسكنني لكني صُدمت صدمة هائلة".

نفس الموقف تكرر في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما سافر المقدم رضا للعلاج وأخبره الأطباء أن مدة بقاؤه حيا لن تجاوز 15 عام إلى 22 عام، فتذكر الموقف مازحا: "الحمد لله قضيت 20 سنة الله أعلم الباقي قد ايه".

"أنا أؤمن أن إصابتي كانت ستحدث لي سواء التحقت بالقوات المسلحة أو كنت خارجها، (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)".

* وحدة بعد بطولة

بين جدران غرفته التي يتخللها ضوء الغروب الخافت، دمعت عيناه من وحشة الوحدة قائلا: "في أكتوبر كنت حاسس إن كل المصريين معايا دلوقتي حاسس إني بقيت وحيد مع نفسي، الناس الى عاصرت الحرب بيقولوا لحد دلوقتي القوات المسلحة عملت دورها وخلاص!، أنا مش غاضب لإني أعلم تماما إن كل سنة في ناس كتير بتنسى الحرب حتى الأجيال الجديدة دلوقتي في التسعينات معندهاش فكرة عن حرب 73".

"مرة سألت نفسي سؤال ياترى هيجي يوم على مصر تنسى فيه حرب أكتوبر؟ كانت إجابتي لنفسي إني طالما أرضيت ضميري وأديت واجبي يبقى مش مهم أي شيء تاني، لا أنتظر كلمة شكر أو هدية من حد، المهم هو ضميري".

* دعم الأهل والأصدقاء
في أوقات الوحدة القاتلة، اختار البطل الراحل المصحف الشريف، وبعض الأعمدة اليومية التي كان يحرص على مطالعتها في الصحف اليومية، خير صاحب وونيس، وكان يشغل وقته بقراءة أشعار بيرم التونسي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي وغيرهم، ويقتل الملل بالاستماع للإذاعة، ومشاهدة الأفلام القديمة والأجنبية وحفلات السيدة أم كلثوم.

ورغم معاناته الكبيرة لم يتخل أهل المقدم رضا عنه، فكان يأتيه أشقاؤه وأهله وأصدقاؤه وزملاره العسكريون وأبناء إخوته الذين كان يعتبرهم أبنائه وكانت سعادتهم تضفي على نفسه فرحة لا توصف.

* واقع هائل عجزت الشاشة عن نقله!
كان البطل الراحل يشاهد الأفلام التي وثقت حرب أكتوبر المجيدة فيشعر أنها لم تقدر على تجسيد الواقع الذي عايشه بكل تفاصيله القاسية: "أشاهد أفلام حرب أكتوبر واستمتع بها لكن لقطات الحرب تم تصوريها بعد العبور وهناك فرق هائل بين الحرب كما حدثت في الواقع وما بعدها".

* دموع في الغروب.. 20 عام على كرسي متحرك

عادت طابا وأرض سيناء كاملة، واستمرت إسرائيل في أغتصاب مزيدا من الأراضي الفلسطينية، اختلفت موازين القوى العالمية، تغيرت الأوضاع برمتها في الوطن العربي، ونشأت أجيال مختلفة الطباع، وبقى البطل الراحل متابعا في صمت يتلقى ترقياته من ملازم إلى مقدم، يملؤه الأمل بأن تذكره أجيال مصر القادمة أو تدرك قدر التضحيات المبذولة في حرب عظيمة عصية النسيان.

في عام 1993، وبينما مرت 20 عاما على حرب أكتوبر المجيدة، جلس المقدم الراحل محمد رضا يشاهد غروب الشمس من شرفة غرفته المطلة على النيل، فتمتم بصوت منخفض وهو يجفف دموعه: "أيام الحرب كانت أمتع وأجمل أيام عشتها في حياتي، حسيت أنني عملت شيئ حقيقي لبلدي، الشعب المصري أصيل بيظهر معدنه في المحن والشدائد، ياهل ترى الأجيال الجاية هتفتكرني؟ مش مهم أنا راضي بما أنا عليه ولا أريد كلمة شكر يكفي إني أرضيت ضميري تجاه الله ووطني".

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved