خالد محمود يكتب: السينما الإيرانية.. قصص حزينة نبضت مبكرا بثورة فى قلب طهران

آخر تحديث: الأحد 7 يناير 2018 - 11:19 ص بتوقيت القاهرة

خالد محمود

• الكبت السياسى والظلم الاجتماعى والتسلط الأمنى.. ثلاث قضايا ملأت الأفلام رغم حصار مخرجيها
• الحلم لن يظل حبيسا إلى ما لا نهاية.. المهم أنه لم يمت.. والرسالة وصلت للعالم

دون شك، تجيئ السينما الايرانية أحد الروافد المهمة والمحركة لنبض الشارع الايرانى، كونها تعكس ومنذ سنوات واقع من الكبت والقهر السياسى وسوء لأوضاع اجتماعية ورقابة نالت حتى من الاحلام، والتى عانى منها السينمائيون أنفسهم، حيث طالت الكثير منهم اغلال قيود، واضطروا لأن يصنعوا ابداعهم سرا، وحملت الافلام الرسالة وقد وصلت عبر عرضها فى المحافل الدولية وتتويجها بأكبر الجوائز.

مشهد إيران اليوم تنبأت به اعمال وبناهى وفرهادى ورسولوف ومخملباف، ورخشان بنى اعتماد، ومن قبلهم كياروستامى، وهم مخرجون عظام ولدوا من باطن الازمة، واشاروا إلى مفاتيح الحرية التى حلموا بها لمجتمعهم ومازالوا.

«الفيلم لن يظل حبيسا فى الأدراج إلى ما لا نهاية، سيأتى عليه يوم ويشاهده الناس لتعرف ما به من حقائق سواء كنا أحياء أو أمواتا».. كانت هذه خلاصة مشهد النهاية للفيلم الإيرانى «قصص»، الذى يعرض صورا من حياة الإيرانيين البائسة اجتماعيا وسياسيا، والذين لا يجدون سوى المال القليل الذى يساعدهم على البقاء على قيد الحياة، بينما تسهم البطالة والظلم وإدمان المخدرات فى ازدياد محنتهم.

«ياما قبض علينا.. المهم أننا لم نمت» الجملة قالها أحد أبطال العمل، مصور الفوتوغرافيا بعد أن تم الافراج عنه، حيث سألته صديقته: هم أفرجوا عنك، ليقول لها: ياما قبض علينا، المهم أننا لم نمت، فى إشارة إلى رسالة الفيلم الأسمى وهى الاستمرار فى كشف الخداع السياسى والاستمرار فى مقاومة العقبات التى تحول دون حياة آدمية بسيطة.

هذا الشاب المصور الذى يمثل نقطة الضوء للعمل يلتقط كل شىء فى الشارع وواقع الحياة اليومية والطبقة الكادحة، ليرصد متغيراته الاجتماعية والسياسية، حتى عندما سأله سائق التاكسى لماذا تصور الشوارع طول الطريق، رد عليه بأنه يريد أن يتذكر العالم ما عشناه، وبالقطع هو يقصد العالم الذى يعيشه كمواطن إيرانى وبمأساة وطن يعانى فساد مسئولين وكبتا للحريات، وتفشى أمراض التفكك الاجتماعى، والتسلط الأمنى بل وانحطاطا اخلاقيا، تلك الظواهر التى رصدتها المخرجة رخشان بنى اعتماد، بصورة شديدة الواقعية عبر سيناريو ناضج فكريا وذكى فنيا فى تقديمه مجموعة من القصص التى تكشف النقاب عن قضايا شائكة دون وقوع حواراتها فى فخ المباشرة، والجمل الخطابية، التى ظهرت على استحياء فى قصة اضراب العمال، بينما فى القصص الأخرى كانت الصورة شديدة الشفافية وهى توثق لمجتمع ينهار بشره من الداخل.

بالقطع كان أداء أبطاله مبهرا، حيث كانوا فى قمة الوعى بالمشاعر وهم يرون الحكايات ويشتبكون بأحداثها، وظهر كيف وظفت المخرجة أبطالها لصالح الفكرة التى شرحت مجتمع العاصمة الايرانية طهران، بقصصها، وهى بالقطع تلقى بظلالها على واقع بلدها فى 2014، وقد بات الأمر أكثر سوءا لكنه فى الوقت ذاته أصبح إيجابيا بالبوح وكشف المستور وعدم الاختفاء وراء أقنعة.

كشف الفيلم عن ظهور تيار واقعى جديد للسينما الإيرانية، بل ويعتبر من الأعمال الاكثر استثنائية فى تاريخ السينما الإيرانية المعاصرة، واعتقد أن ملامح السوداوية الطاغية عليه، هى إحدى مناطق جماله السينمائى، وبدا وكأن المخرجة التى تجاوزت حدودا كثيرة أرادت أن تقول بأن الأمر المهم هو روح المقاومة وليست السلبية لدى شخصيات العمل التى بدت نهايتها سعيدة.

جمعت المخرجة بضع شخصيات لترصد تحولات الظرف السياسى والاجتماعى ليقدموا مجموعة قصص، الواحدة تسلم الأخرى، لتتبع أسلوبا بانوراميا مثلما شاهدنا طريقة المخرج جعفر بناهى فى فيلم «دائرة» وان اختلفت نظرتهما، لنرى يومهم فى حياة سبع شخصيات تعيش ظروفا تبدو أنها غير عادية أى مليئة بالشقاء والقتامة، وهى ليست قصصا بالمعنى الصريح، بل مجموعة مشاهد من الحياة اليومية غير مكتملة كما الواقع، من المتقاعدين والمحرومين والعاطلين الذين يجدون صعوبة فى إيجاد من يستمع إليهم، وإلى الهاربين نحو الإدمان، حيث يريد العمل القريب من الوثائقى فى أسلوب تنفيذه، عدم استكمال حكاياه، حتى فى سرده الشديد الانتقاد للمجتمع. وبدا ذلك فى شخصية السائق والفتاة التى حلم بها، حيث نرى مشهدا يستمر نحو 15 دقيقة، يحاول الاثنان الاعتراف بالحب وفى نفس الوقت لماذا لم يرتبطا، فى حوار رائع هى تذكره بأنه ترك الجامعة وعمل سائقا، وتخلى عن أحلامه، وهو ينبهها إلى خطورة ادمانها ومحاولتها الانتحار، وغيرها من القصص.

وفى مشهد آخر نرى المحامى الثرى وهو يسلم الزوج رسالة خاصة من الثرى، وهنا يملأ الشك الزوج الفقير، ويطلب من زوجته أن تقرأ خطاب الخطيئة بنفسها، يطلب من ابنه أن يكمله، ليكتشف أن الثرى يحاول أن يرد الجميل لمن شجعته على النجاح بكتابة شقة باسمها، وقد رحل عن الحياة.

وبين كل قصة وأخرى نرى تركيز الكاميرا على لوحة التاكسى وهى تحمل كلمة طهران لتؤكد خاصية المجتمع وليس أى مكان رمزى لتقف المخرجة فى فيلمها وعبر سينما حزينة عند نقطة نهاية هى فى الحقيقة نقطة بداية متجددة عندما يقول مصور الفوتوغرافيا: «المشوار مستمر».

• «تاكسى ».. مقاومة فرهادى الكبيرة

عقب الاعلان عن فوز فيلم «تاكسى» للمخرج الإيرانى الكبير جعفر بناهى بجائزة الدب الذهبى لمهرجان برلين السينمائى، كان السؤال المطروح دائما هو هل بإمكان الحكومات أن تمنع مبدعيها من تصوير أعمالهم الفنية؟، بالقطع لا، حيث إن فيلم «تاكسى» يعد التجربة الثالثة لمخرجه منذ أن صدر قرار بمنعه تماما من الإخراج من قبل الحكومة الايرانية.

بناهى نجح فى تهريب فيلمه «تاكسى» إلى برلين، ليحقق المفاجأة، وهو واحد من أبرز المخرجين الإيرانيين والذى يعانى دائما من محاولات قمعه بشتى الطرق من قبل السلطات الإيرانية، حتى إنها منعته من مزاولة مهنته وتصوير أى أفلام سينمائية، لكنه تمرد على ذلك الوضع وتحدى القيود التى وضعتها حكومة بلاده ومنعه من السفر لأى دولة أخرى، خشية من تصوير أفلامه بالخارج، لم يستسلم لتلك المعوقات ليعطى درسا كبيرا للسلطات الإيرانية بأنه لا يستطيع أحد مصادرة حق القوى الناعمة فى التعبير عن قضايا المجتمع.

صور بناهى الفيلم فى تاكسى بعيدا عن أنظار المسئولين، بل ويجسد به دور سائق تاكسى يركب معه العديد من الاشخاص البسطاء وكل منهم يعبر عن رأيه خلال الطريق وعبر مواقف شخصية فى الأوضاع السياسية والاجتماعية فى طهران بشكل مباشر وغير مباشر ليكشف الكثير من تردى الحريات فى إيران، وهو يؤكد أنه رغم كل المضايقات التى يتعرض لها إلا أنه لا يعرف شيئا سوى تصوير الأفلام السينمائية التى يحيا بها، والمدهش اننا فى الفيلم نرى بعض الركاب وقد تعرفوا اليه ينادونه باسمه، ليكتسى العمل بالواقعية الشديدة ليس فقط فى أسلوب الطرح، ولكن اراد بناهى ان يؤكد للجميع انه قادر على صنع السينما التى يحبها رغم انف الجميع، ولم ننس بالقطع البيان الذى نشره بناهى يؤكد فيه «أنه لن يمنعه شىء من التصوير بالكاميرا، وأنه حتى عندما تمت محاولة وضعه فى زاوية بعيدة ليتنحى جانبا إلا أنه تواصل مع ذاته الداخلية، وأوجد عملا إبداعيا يتخطى مجرد موضوع الرغبة».

ظاهرة بناهى نجحت فى انتقاد النظام الإيرانى بـ«تاكسى»، ليصل برسالته السياسية والاجتماعية إلى الجمهور بحرفية لنقله واقع الشارع الإيرانى، وذلك من خلال أسلوب بسيط وسهل لكنه مؤثر للغاية، وربما لهذا السبب تعتبر الحكومة الإيرانية بناهى شخصا مخربا وتروج إلى أنه يسعى لإثارة البلبلة فى بلاده، فأفلامه تتضمن دائما سخرية اجتماعية لاذعة وهو ما لا يعجب السلطات وتم منعه من التصوير بعدما حاول بالكاميرا توثيق المظاهرات التى اندلعت فى إيران اعتراضا على إعادة انتخاب الرئيس السابق محمود أحمدى نجادى 2009، وفى 2011 صدر ضده حكم بالسجن لمدة 20 سنة، ومنعه من التصوير أو كتابة الأفلام أو السفر، ثم تم إخلاء سبيله بكفالة على أن يحق للسلطات اعتقاله متى شاءت.

فى «تاكسى»، يقترب بناهى من الناس ليلتقط أفكارهم وهواجسهم وتطلعاتهم، بكاميراته الصغيرة المثبتة قرب مقدمة السيارة، مستعيدا بذلك حقه فى الوجود داخل ضوضاء المدينة، بعد فيلمين صورهما خارجها، مؤكدا من خلال هذه التجربة أن الخيال الانسانى عصى على المصادرة، والحاجة إلى التعبير مصدر كل الحيل الفنية. نحن ازاء سينما مقاوِمة، ولكن بلا قبضات مرفوعة وشعارات ورصاص حى. هناك فى «تاكسى» عدد من «المخرجين» يتشاركون صناعته؛ حينا نرى الكاميرا فى يد تاجر أفلام مقرصنة، وحينا آخر، تحركها ابنة أخت المخرج. هناك أيضا الكاميرا المتموضعة التى يغير بناهى اتجاهها بين حين وآخر، بالاضافة إلى عين مجهولة تلتقط ما يتعذر على الشخصيات التقاطه. غنى عن القول إن فى كل مراحل نقل الحكاية، ولكن أيا تكن الكاميرا المستخدمة، فهى دائما داخل السيارة، من اللحظة الأولى حتى الأخيرة. بناهى عمل مساعدا لعباس كيارستمى الذى أنجز فيلما صوره بالكامل فى السيارة («عشرة» ــ 2001)، وهو تلميذه إلى حد ما. هنا، فى «تاكسى»، يذهب بناهى إلى أبعد من فكرة معلمه، محولا مقصورة الركاب فى السيارة مسرحا للتبادل الديمقراطى بين نماذج مختلفة من المجتمع الايرانى المعاصر. الشق الأول من الفيلم مختلف تماما عن الشق الثانى، لا بل يمكن القول إنه نقيضه. فى الأول، ينجر بناهى مع الشخصيات انجرارا شبه كامل. هى التى تتحكم به، تأخذه من مكان إلى آخر. بناهى يمنحنا الشعور بأن قرار اختيار مساره لا يعود اليه، بل رهن أهواء الركاب وخططهم. هم مخرجو هذا الفيلم فى شقه الأول. فى هذا الاطار، تشكل فكرة قيادة التاكسى وترك المسار للآخرين، فكرة مباشرة واضحة وذكية.

• «حالة تسلل ».. فتيات يرغبن فى التحرر

فى فيلمه الآخر «حالة تسلل» 2006، يتابع بناهى مغامرة مجموعة من الشابات المحبات لمباريات كرة القدم يقمن بالتنكر وهم يرتدون زى أولاد لمتابعة مباراة المنتخب الإيرانى مع المنتخب البحرينى فى مباراة مهمة للتأهل لكأس العالم، تحاول الشابات التسلل إلى الملعب وهن يعلمن أن هذه الطريقة مخاطرة غير قانونية وقد يتعرضن للعقاب كون القانون يحرم حضور جمهور النساء فى المناسبات الرياضية ورغم هذا هنالك من يجازف ويركب المخاطر، الفيلم يتيح مساحة حرة لهذه الرغبة ورغم القبض على الفتيات فالفيلم يصور الرغبة فى التحرر من قبضة الرقابة وفرض قيود مخجلة على حرية المرأة الإيرانية.

جمال هذا العمل يكمن فى قدرته على التوفيق بين الكوميدية والمعاناة، كما انه يدير ببراعة هذه الأحداث التى نسجها هذا السيناريو الدقيق ليعكس الواقع ويتوغل فى اعماقه. الفيلم يشبه الأسلوب الوثائقى لكنه يُغرقنا فى قلب المجتمع الإيرانى كنداء مؤثر من أجل تحرير المرأة.

فى الفيلم نرى إحدى الفتيات المراهقات تسرع بلبس الحجاب بعد توبيخ ذلك الأب الذى يبحث عن ابنته، هذا الخطاب التوبيخى يأتى من الآباء ورجال الدين والمؤسسات التربوية والإعلامية التى تطالب المرأة بالبقاء فى البيت والقبول بوضعها وعدم التفكير بالتحرر، كما نشاهد ذلك العسكرى وهو يصم أذنه ويعجز عن مواصلة النقاش ويقول لتلك الفتاة المتحررة نحن لسنا فى اليابان، التأرجح بين الخطاب الأصولى والالتزام بتطبيق القانون ووجود خوف من تعرضه للعقاب، وكذلك قسوة الوضع المادى، فهذا الشاب المجند يريد أن ينتهى من خدمة التجنيد والعودة إلى حقله وزرعه ولكن الفتاة نجحت فى التشكيك فى الوضع الذى تحكمه إملاءات أيديولوجية سياسية ودينية وسلطة ذكورية ظالمة.

هذه النماذج الإنسانية تبحث عن القليل من الفرح وبعد الزج بهن فى زاوية جانبية خارج رؤية الملعب الرياضى، يحاولن معرفة ما يحدث فى الملعب، يتحول أحد الشباب المجندين إلى ناقل للحدث، ترى التفاعل الغريب وفى مشهد آخر يتخيل ما يحدث ويجسده وهو جعل المساحة الصغيرة التى تشبه السجن يتحول إلى ملعب، وهنا تظل الرغبة فى متابعة المباراة بكل الوسائل الممكنة كحلم لفتيات يردن الشعور بالحرية والمساواة فى مشاهدة الحدث الرياضى ويرفضن هذا التميز بكل قيوده.
وبدت كل الشخصيات فى الملعب السينمائى لا خارجه لتشعر بقسوة الواقع والألم العام الذى لا يفرق حقيقة بين رجل وامرأة فى إيران.

بناهى الذى سجن وزوجته وابنته وعدد من أصدقائه بحجة الدعاية ضد إيران، صور ايضا فيلمه «هذا ليس فيلما» وكان تحت الإقامة الجبرية ثم فيلم «الستارة المغلقة»، ونجح فى توجيه ضربات موجعة تفضح النظام، كما يحرص على تصوير صور انسانية من داخل المجتمع.

• «انفصـــال» فرهادى يخترق الأوجاع

قليلة هى السينما التى تعكس بحق أوضاع مجتمعاتها، وتنصب لها فخا فنيا ليكون بمثابة إما رصاصة رحمة على مكان وبشر، وإما نظرة اتهام صريحة لواقع سياسى واقتصادى، أو مرآة تكشف المستور رغم ما يحيطها من رقابة لا حدود لها، وإما صورة حلم يجعل حامله يتخطى كل مآسى الزمن وقهر الحكام وتقاليد أصولية مميتة.

فى فيلمه «انفصال نادر وسيمين» الفائز بالدب الذهبى لبرلين السينمائى، نرى كيف استطاع المخرج اصغر فرهادى، أن يطرح قصته الملتهبة والمتشابكة مع الشارع والمدينة والبلد ككل وسط نظام تعود أن يقمع مبدعيه ومازال، بحجة أنهم تمردوا أو انتقدوا وسخروا من أنفسهم كمواطنين.. من نظامهم كوطن.. من واقعهم.

جاء فرهادى يلخص المشهد الإيرانى فى أشخاص هم نتاج نزاع واحد وهو الكفاح من أجل البقاء، فى مقدمة هؤلاء الأشخاص يأتى نادر (موادى بيمان) وسيمين (ليلى حاتمى) وهما زوجان ينتميان للطبقة الوسطى، نراهما فى المشهد الأول داخل مبنى حكومى يتقدمان معا بطلب للطلاق بالتراضى، فكلاهما أحب الآخر وأنجبا فتاة هى الآن فى فترة المراهقة، لكن يبدو أن تشابك مشاكل الواقع قد ألقت بظلالها على واقعهما وحياتهما الصغيرة.. لم يعد أى منهما يشعر براحة فى ممارسة طقوس حياته اليومية بشكل طبيعى، فـ«سيمين» الزوجة تريد أن تهجر البلد لتعيش بعيدا مع أمها مصطحبة معها ابنتها تيرمين (سيرينا فرهادى) لشعورها وإيمانها بأن بيتها اليوم لم يكن ملائما لتربية الفتاة كما تريد.

بينما نرى الزوج الذى ملأته مواصفات الطيبة.. فزوجته أيضا تراه كذلك، لا يريد الرحيل من وطنه الأصغر لأنه يريد أن يبقى ليرعى والده المصاب بألزهايمر وأشياء أخرى، أراد ألا يترك جذوره يعصف بها الزمن.

ويصل بنا المخرج إلى ذروة الأزمة الإنسانية عبر حوار تتوارى فيه المشاعر بين لحظة وأخرى، وإيقاع لاهث أيضا مثل ساعات اليوم، والحقيقة أنك تشعر بأن نادر وسيمين يجلسان فى حجرة منزلك ويتجولان من حولك، فهما يتحدثان بلغة أقرب ما تكون للغة واقعية ومؤثرة دون لغو وثرثرة أو حتى فذلكة.. أيضا الصورة السينمائية أخذت بيدك لتضعك كجزء من الحدث أو كشاهد عيان على أثره.

فى الشق الثانى من الحدوتة نرى الزوجين وهما يبحثان عن من يعتنى بالأب يغرقان فى عالم آخر لأزمة أسرة جديدة.. فهناك امرأة مكافحة زوجة تأتى لترعى الأب، لكنها تتأخر يوما بسبب احضار طفلتها من المدرسة، وفى تلك اللحظة يتعرض الأب العجوز لأزمة صحية، وبالتالى يثور ابنه الذى ينقذه فى آخر لحظة، ويضطر لطرد تلك المرأة التى لم تراع والده، بل يدفعها دفعا للخروج من المنزل وسط اعتذاراتها، لكنه يصر على طردها وعندما يدفعها على السلم تتعرض لأزمة وهى أنها تفقد طفلها الذى كانت «حامل» به، وهنا نرى زوجها يثور على ما حدث ويذهب إلى المحكمة ليطلب بحقها وهو منهار تماما، ولكن كان هذا الانهيار نموذجيا! حيث كان الأداء أكثر من رائع وكشف عن ممثل يملك قدرات هائلة، ولم يكن حسين شهاب مجرد سارق شاطر للكاميرا، لكن أيضا حقق رغبة مخرجه من طرحه للأزمة، فنحن فى غرفة المحقق الضيقة، والزوج الجانى يجلس مدافعا عن نفسه بأنه لم يكن يقصد ذلك، بينما إيقاع الزوج الذى فقد طفله الجنين يزداد سخونة وانفعالات، وترجوه زوجته أن يهدأ؛ لأنها تريد أن تواصل حياتها أيا كانت الخسائر.. وفى الوسط تقف الابنة التى هى فى الحقيقة ابنة المخرج أصغر فرهادى لتدلى بشهادتها وسط دموع وتساؤلات حول المستقبل.

وطوال 123 دقيقة تظل مشاعرنا وأفكارنا خاضعة لتطورات الأحداث السريعة التى لم نشعر بها، وخلال القصة يتنقل فيها وجداننا من شخص لآخر، بل تعاطفنا مع الجميع، فهم جزء من مجتمع يحاول عقلاؤه من المواطنين متوسطى الحال إنقاذه من التصدع رغم وجود شرخ فى جدار علاقة الأفراد بعضها البعض.

أبدع المخرج أصغر فرهادى مثل أبطال قصته فى جعل المساحة المتاحة للتنفس ضيقة حتى يستنشق المشاهد الأزمة ويعرف أنها تشكل جزءا من واقع لم يكن ببعيد عنه، وربما تجىء الحبكة السينمائية المؤثرة والمحرضة على التفكير منذ البداية للنهاية بموسيقاها وزوايا تصويرها القريبة وراء فوز الفيلم بجائزة مهرجان برلين الكبرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved