«بيت القبطية» لأشرف العشماوي.. نيران مقصودة تأكل أحلام البسطاء

آخر تحديث: الجمعة 8 نوفمبر 2019 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

إيمان صبرى خفاجة

منذ أن بدأ الكاتب «أشرف العشماوى» رحلاته الروائية، وشخصية القاضى واضحة فى كل ما يطرحه من قضايا، دائما ما تقف حياته المهنية كمستشار بمحكمة الاستئناف فى كواليس الحكايات التى يرويها، حين يأتى بمشكلة مسكوت عنها أو حادث تاريخى غامض فيعيد ترتيب الأحداث والنظر إليها من جميع الأوجه.

وبمجرد أن تبدأ فى القراءة تدرك أن للكاتب هدفا واحدا وهو تحقيق روح العدالة التى كثيرا ما نعجز عن الاستعانة بها على أرض الواقع، ليعيد النظر فيما يبدو مسلمات ويلقن المجتمع درسا مهما.. وهو أن لكل قضية مهما بدت واضحة جانب آخر لا تراه سوى روح الرحمة التى لا تعرف الجمود.

فى «بيت القبطية» العمل الروائى الأحدث للكاتب، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، تقف شخصية القاضى واضحة بل جزء أساسى ومحرك للأحداث من خلال «نادر كمال» وكيل النائب العام، الذى يكلف بالعمل فى إحدى قرى شمال الصعيد النائية.

يكتشف نادر كمال مشكلات القرية منذ اللحظة الأولى على أرضها، حين يلتقى «رمسيس»، رجل يصعب عليك أن تحدد انتماءاته وميوله ولمن ولاؤه بالضبط، ولكنك سوف تدرك أنه من هؤلاء الذين يساعدون فى تضليل العدالة واهمين بذلك أنهم يحققون مصالحهم وهم فى حقيقة الأمر أداة فى يد الحكومات الفاسدة.

ثم ينتقل إلى مشكلة أكثر تعقيدا، حين تطرق بابه قضية قديمة بين عائلتين إحداهما مسلمة والأخرى مسيحية، يعيشون منذ سنوات تحت وطأة نزاع على أرض القرية؛ كل منهم يدعى أن ملكيتها الأصلية تعود إليه، نزاع يتخذ البعض منه حجة ومبررللخلافات والاقتتال الطائفى الذى يطل علينا بأنيابه من فترة إلى أخرى، وينتهى بحلول تقليدية دون أن نعلم أين يكمن ومتى يشتعل ومن يشعله؟!

أسئلة متعددة حول قضايا مختلفة تظل بلا إجابات، حتى يلتقى نادر كمال بسيدة مسيحية هاربة من حياة قاسية إلى مصير غامض، لقاء يساعده فيما بعد على الربط بين الأحداث الغامضة ومعرفة أول الطريق إلى أسباب أكثر وضوحا عن مشكلات القرية.

«هدى» امرأة ذات ملامح مصرية طبيعية لا يميزها عن سيدات القرية المسلمات شيء، وهو ما أشار إليه الكاتب فى غلاف الرواية الذى زين بصورة تضم مجموعة من السيدات متشابهات حد التطابق فى الشكل والمظهر، فلا يوجد شيء جوهرى يميز الواحدة منهن عن الأخريات.

حتى معاناتهن واحدة التى تبدأ بانتهاك حقوقهن الآدمية ــ مسيحيات ومسلمات على حد سواء، فالضحايا فى كل مكان متشابهات لأن واقع حياتهم واحد لا يتغير، وهو ما أشارت إليه البطلة بقولها: «أنا مثلهن.. فكلنا نولد أبرياء.. براءة لا تلبث أن تتخلى عنا عاجلا أم آجلا، طالما نعيش بين فكى مجتمع مزيف، لا يشبع من التهام الأنقياء وتشويه الأسوياء، ولا يسأم أبدا من اجتذاب مزيد من الضحايا كل يوم».

تتزوج هدى من «رزق»، رجل مسالم يرمز لهؤلاء الذين يحبون الحياة ويؤمنون بحق التعايش بعيدا عن التطرف الدينى، وسرعان ما يتحول منزلهم إلى قبلة أهل القرية لالتماس النصيحة والسكينة، ومن سخرية القدر أن يطلق على منزلهم بيت القبطية، تكمن السخرية هنا فى الجهل بالمعانى التى تشكل هويتنا، فكلمة قبطى لا تعنى سوى مصرى، ولكن أهل القرية أطلقوه على المنزل ليكون دليلهم على أن من تسكنه أسرة مسيحية!

بين التحقيقات التى يجريها نادر كمال والحياة التى تعيشها هدى وتبحث فيها عن أمل جديد، ينتقل الكاتب بين عالمين مختلفين على أرض واحدة، ليرصد سلطة حكومات لم تر من احتياجات القرية سوى تقديم بعض الخدمات وحركة العمارة الجديدة، التى عرفتها قرى مصر بعد قيام ثورة يوليو 1952، لتختصر علاقة الدولة بتلك القرى فيما بعد على أصواتهم الانتخابية.

ومن الناحية الاجتماعية فقد ظلت بعض العقول من طين لم تعرف تحضرا وكأنهم فى عصور وسطى، فظلت القرية تعايش كل يوم حريق جديد لمنازل المسيحيين، وفى النهاية تغلق القضايا ضد مجهول يشعل نيران الفتنة ويختفى بعد أن يزور شهادات الشهود، ويخفى الأوراق المهمة، الأمر الذى يترتب عليها تضليل للعدالة يفقدنا كل يوم بيتا من بيوت القبطية.

بالوصول إلى هذا الجزء قد يبدو للقراء أن موضوع الرواية ليس بالجديد، هذا الرأى صحيح ولكن الاختلاف هنا فى طريقة تناوله، فقد وضع الكاتب جميع أطراف المشكلة فى مواجهة واحدة، وأشار بأصابع الاتهام للجميع؛ من يرتكب الجريمة ومن يسكت عنها، والقانون بمواده الصماء التى لا تعرف سوى الأوراق دليل فيقف عاجزا لا يقدم حلولا جذرية.

وكان للكاتب وقفة طويلة أمام شيوخ الفتنة الذين يحرمون ويحللون وفقا لأهوائهم، والكنيسة حين تخرج البعض من رحمتها، أو حين تغلق على نفسها وتستلم لدور الضحية، والشعب حين ينساق إلى ما سبق ويتجاهل حقيقة أن الحياة على الأرض حق للجميع، بالإضافة إلى أن يوميات القرية كانت مدخلا إلى العديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية التى تؤدى إلى الفتنة الطائفية فى نهاية الأمر.

استطاع الكاتب أن يناقش العديد من الموضوعات دون أن تصيب القارئ لحظة ملل واحدة من خلال سرد بالتناوب بين هدى ونادر كمان، كان أهم ما يميزه الحوار الداخلى لكل منهم؛ جمل حوارية بليغة توضح ما تعانيه النفس البشرية السوية فى ظل هذه الأفكار السوداوية والنزاعات التى لا تنتهى، وساهمت تلك الجمل فى اختصار العديد من التفاصيل دون أن تقلل من أهميتها.

كما اهتم الكاتب بالرموز فكانت أحد أبطال العمل لما تحمله من دلالات، حين أشار إلى المجموعة القصصية «عدالة وفن»، ورواية «يوميات نائب فى الأرياف»، للكاتب الكبير «توفيق الحكيم»، كتابين تحدث «الحكيم» من خلالهما عن متاعب حياته المهنية التى يعيشها نادر كمال الآن، الأمر الذى يعتبر دليلا قويا على تكرار نفس المشكلات، وكأن الزمن لا يتحرك فى تلك القرى، بالإضافة إلى العديد من الرموز التى يجب أن ننتبه إلى معناها حتى لا تقيد القضايا ضد مجهول!

تتعرض القرية إلى حادث مروع يفقدها المزيد من أهلها المسلمين والمسيحيين على حد سواء، نيران جديدة تأكل أحلام هدى البسيطة وترمى بها متهمة فى قضية الخلاص منها، لتنتهى الأحداث بجلسة محاكمة كان الهدف منها أن يجمع الكاتب بين جميع الأطراف وجها إلى وجه، ولا يهتم خلالها بوضع حلول نهائية بقدر اهتمامه بالكشف عن الحقائق كاملة حتى لو بدت غير مجدية فى عين القانون، حقائق تبدو قاسية لكنها لا تخلو من الأمل.

ليكتشف القارئ أن هدى ما هى إلا فطرتنا السليمة الممزقة بين التطرف الدينى وغياب القانون، ونادر كمال رمز لهؤلاء المؤمنين بها ويتخذون منها دينا ومبدأ، وبالرغم من النهاية المأساوية التى تلقاها السيدة البسيطة لكنها تترك أملا جديدا يكمن فى ميلاد طفلين، كانت صرخاتهما خلفية مصاحبة لنهاية الأحداث، يعبر الكاتب من خلالهما عن الإنسانية التى تصرخ فينا، لكى نقف ولو لحظة احترام لحق الحياة الضائع بين نيران فتاوى التعصب والقانون الأعمى والسلطة التى تستخدم الجميع لخدمة أغراضها.. فهل هناك من ينصت إلى هذا الصوت؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved