نبيل نعوم يكتب: بقاء الراحلين
آخر تحديث: الجمعة 9 يوليه 2021 - 8:33 م بتوقيت القاهرة
رحل عنا فى الفترة القصيرة الماضية اثنان أحبا مصر وعاشت فى وجدانهما كما ستبقى ذكراهما حية فى وجدان هذا الوطن. أولا الفنانة السويسرية إيفلين بوريه (1940 ــ 2021) الخزافة التى عاشت معظم حياتها فى قرية تونس فى الفيوم حيث مارست مهنتها وأقامت مدرسة لتعليم الخزف، أصبحت الآن من المعالم الأساسية للزيارة حيث انتشرت معارض تلاميذها من أهالى القرية التى بفضلها تحولت إلى مقصد للسياح من مختلف أنحاء العالم. وإيفلين بوريه هى زوجة الشاعر سيد حجاب السابقة وقد بدأ استقرارها بقرية تونس منذ عام 1967 فى منزل مبنى بالطوب النيئ وملحق به فرن للخزف من تصميم المعمارى الكبير نسيم هنرى شقيق النحات العالمى آدم حنين (صمويل هنرى). وحول هذه النواة المعمارية الرائعة أضاف زوجها الثانى الخزاف المشهور ميشيل بوريه العديد من الأجنحة والحدائق الداخلية فى تناسق معمارى تحول فيما بعد إلى مثال لمدى قدرة البناء بالطوب النيئ من إمكانيات. وبالطبع يرجع الفضل لاستعمال هذه المادة الرخيصة والمتاحة لدى سكان القرى للمعماريين حسن فتحى الذى صمم ونفذ قرية القرنة فى الأقصر فى أواخر أربعينيات القرن الماضى، والمعمارى رمسيس ويصا واصف صاحب فكرة قرية الحرانية للنسيج اليدوى. وقد تتلمذ على أيديهما العديد من كبار المعماريين المعاصرين ومنهم المهندس نسيم هنرى. ومن الهام الذى يذكر عن الفنانة إيفلين بوريه والتى كان يناديها أهل القرية (بالست أم آدم، وأم ماريا بالطبع)، هو اهتمامها ببنات وسيدات قرية تونس. فلم يكن مساعدتها لهن فقط فى تعليمهن صنعة الفخار والخزف الذى برعن فيه مساواة بالرجال، وبذلك منحتهن فرصة لرفع مستوى معيشتهم الأسرية، وأيضا الاعتراف بهن كشركاء فى مجتمع تسود فيه سيطرة الرجل؛ وإنما أيضا فى مساعدتهم فى الأمور الاجتماعية والصحية. إيفلين بوريه وهبت الكثير من حياتها ليس فقط لقرية تونس بل لمصر ككل حيث إن تجربتها الرائدة هنالك تعتبر نواة لتجارب مماثلة فى أنحاء أخرى.
وثانيا رحل عنا أيضا أخيرا المصور الفرنسى برنار جيو (1950 ــ 2021) الذى عاش أغلب عمره بين فرنسا ومصر التى أحبها واعتبرها بلده الثانى، وقد أجاد اللغة العامية وتنقل بين القرى كأحد فلاحيها، ولكنه أيضا عشق القاهرة حيث أقام لسنوات طويلة فى فندق أو بنسيون مافيت استوريا، حيث صوره وصور زبائنه وحجراته وحيطانه ليصبح جزءا من تاريخه الفنى. وقد أقام الفنان المعارض فى كل من مصر وفرنسا وسويسرا وألمانيا والولايات المتحدة. وللفنان أيضا عدد من الكتب والكتالوجات الفنية التى تضم إنتاجه الفنى من الصور الفوتوغرافية، إلى جانب أعماله الأخرى من الرسم بالألوان. ومما يذكر أن برنار جيو حصل على الميدالية الذهبية فى الرسم فى بينالى الإسكندرية 1984، والجائزة الكبرى «نادار» فى فن التصوير الفوتوغرافى عام 2003، وتُعرض أعماله فى متحف الفن الحديث لمدينة باريس، ومركز جورج بومبيدو، ومتحف الفن الحديث فى نيس. والمكتبة الوطنية. كما شارك بمعارض خاصة بالعديد من الجاليريات، ومنذ عام2007 بجاليرى موازان فى باريس. وفى القاهرة
عُرضت أعماله فى جاليريات، منها جاليرى زاد الرمال، ومشربية، وكريم فرنسيس، والقاهرة برلين، والجامعة الأمريكية، وزاد الحيطان. وإلى جانب المتاحف والجاليريات توجد أعماله فى العديد من المقتنيات الخاصة.
وبرنار كان أيضا شاعرا ليس فقط خلال كتاباته ولكن أيضا فى حياته التى وهبها للفن، ولإضفاء البهجة على كل من عرفوه. وإن اتسمت أعماله بمزيج من الرمزية والاقتصاد فى اللون والاعتماد على أهمية النور كرسامى الانطباعيين، لكن أهم ما ميز أعماله كانت تلك الصبغة الروحية والتأملية التى من الممكن اعتبارها صوفية.
وفى أعمال برنار جيو على ورق الكارتون الذى كان يشتريه من سوق الورق فى العتبة، والذى يحمل روائح القاهرة التى عشقها والتى عاش بها نصف السنة لسنوات طويلة، وعاصر لحظات هدوئها ولحظات صخبها، كما عاش لحظات تمردها وثورتها؛ يمنحنا برنار جيو تجربة خاصة لتذوق المنسى من ذاكرتنا الجماعية لكيانات كملائكة تطير بأجنحة أو بدون، وأشباح لرجال ونساء يعبرن بحار من الضوء بين الحياة وما بعدها. أشجار تثمر اللؤلؤ والخبز السخن يتقاسمه من يستحق الذوق. لأن فقط من ذاق عرف. ومن عرف مصرح له الاستمتاع بمتعة لحظة خلق الفنان، كالفنان نفسه أثناء لحظة الخلق. المياه تتدفق كما الزمن وقد أعطى الفنان مكانًا مهمًا للمياه فى حياته، كمنبع للبركة أو الطهارة، ولذا عشق نهر النيل ونهر السين والترع والقنوات والمصارف الذى حاول لمس مياهها أثناء رحلاته المستمرة. فهو عاشق للطبيعة بسحرها وألغازها، حيث حاول أن يثبت رؤياه الشفافة خلال تناوب الضوء والظل فى صوره الفوتوغرافية بانتشار الرمادى المبهر، وفى رسومه باستعمال ألوان من صبغات طبيعية، مما يثير الرغبة فى الدخول فى عالمه الملموس وغير المفصح عنه.
وفى الوداع لصديقين حميمين استمرت صداقتى معهما لحوالى نصف قرن. ربما أذكر هنا من جميل شعر الوداع مقاطع (من ترجمتى) من قصيدة الشاعرة الأمريكية إيسلا بسكال ريتشاردسون (1886 ــ 1971)، وهى القصيدة التى قرأها الممثل الكبير جريجورى بك فى رثاء المغنى المشهور فرانك سيناترا فى 21 مايو 1998
لمن أحب
إذا كان علىَّ تركك يا من أحب
للرحيل عبر الطريق الصامت
لا تحزن
ولا تتحدث عنى بدموع
بل اضحك وتكلم عنى وكأنى بجانبك
وحين سماعك أغنية
أو رؤية طائرا أنا أحببته
أرجوك لا تدع ذكراى تحزنك
لأنى أحبك كما أحببتك دائما
الفنانة إيفلين بوريه
الفنان برنار جيو فى معرضه فى جاليرى موازان فى باريس عام 2016 (من تصويري)