الفلاح المصري.. عنوان الأصالة والحاضر والمستقبل وملهم المبدعين

آخر تحديث: الإثنين 9 سبتمبر 2019 - 7:15 ص بتوقيت القاهرة

أ ش أ

يحتفل المصريون اليوم "الاثنين" بعيد الفلاح وهو في الواقع احتفال بالأصل وعنوان الأصالة وانجازات الحاضر وبشارة المستقبل، فيما يشكل الفلاح المصري الذي يقترن تاريخه بأعرق حضارة في التاريخ مصدر الهامات متجددة للمبدعين.

ويحل عيد الفلاح هذا العام وسط اهتمام مكثف على كل المستويات بدعم الفلاحين ورعايتهم فيما تتوالى إنجازات مضيئة وباعثة على صعيد تطوير القطاع الزراعي وتكثيف التنمية الزراعية وتمضي قدما عملية تنفيذ مشاريع عملاقة كالمشروع القومي لاستصلاح مليون ونصف المليون فدان وانشاء مائة الف صوبة زراعية والتوسع في انتاج الأسمدة فضلا عن "مبادرة القرية المنتجة".

وان حق القول بأن الريف او "الأرض الخضراء والمبهجة" مصدر الهامات ل اتنضب لأعمال ثقافية وابداعات في الغرب والشرق فمن الحق أيضا القول بأن الفلاح المصري يشكل علامة دالة كملهم للمبدعين جيلا تلو جيل.

وإذا كان الفلاح المصري في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين يتبدى بجلاء في "الأيام" كعنوان للسيرة الذاتية لعميد الأدب العربي وصاحب "دعاء الكروان" الدكتور طه حسين ، ففي دراسات وكتب عن أيقونات فنية وثقافية مصرية مثل الكتاب الذي أصدره الكاتب اللبنانى حازم صاغية حول كوكب الشرق أم كلثوم بعنوان "الهوى دون أهله" يتجلى الاهتمام الكبير برصد تأثير النشأة الريفية على سيدة الغناء العربي القادمة من ريف مصر.

ومن الطريف أن يلاحظ حازم صاغية أن ام كلثوم "فى بدايات غربتها الطويلة بالقاهرة تعرضت لما يتعرض له الريفيون البسطاء المهاجرون الى المدن على أيدى التجار والسماسرة والوسطاء ، فكان وكلاء الحفلات الغنائية يسخرون منها ومن أبيها ويبخسونهما حقهما.

ويضيف في كتابه انه حين اشترت ام كلثوم قطعة أرضها الأولى لم تستطع ان تتملكها لأن العقد كان مغشوشا فدفعت المال ولم تحصل على ملكية فى مقابله لكنها امتلكت قلوب المصريين والعرب ككل بعد ذلك بقدر ما انتصرت على "ثقافة الكباريه" التى سادت فى الفن لحظة مجيئها من الريف للقاهرة.

والفلاح المصري محور رواية «يوميات نائب في الأرياف» للأديب الكبير توفيق الحكيم وهي من أشهر روايات الأدب العربي الحديث التي تعرضت لواقع الريف وحياة الفلاحين في مصر، في النصف الأول من القرن العشرين.

وعقب صدورها بوقت وجيز للغاية، ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية، وكتب عنها الناقد الفرنسي رمون فرنانديز: "إنها صورة حية، ساخرة، قاسية أحيانا لدنيا الريف المصري وإن هذه الدنيا لتتحرك في صفحات هذا الكتاب في حيوية مدهشة".

واللافت أن الهامات الريف وحياة الفلاح المصري متنوعة عبر طيف واسع من الأعمال الإبداعية ما بين الرومانسية التي تتجلى في ابداعات الروائي والقاص المصري الراحل محمد عبد الحليم عبدالله عندما كتب صاحب "شجرة اللبلاب" و"غصن الزيتون" و"بعد الغروب" عن الريف والقرية المصرية والواقعية الاجتماعية النقدية في ابداعات "أمير القصة القصيرة العربية" والكاتب المسرحي والروائي الدكتور يوسف ادريس ابن قرية البيروم بمحافظة الشرقية وصاحب "النداهة" و"الحرام" و"العيب".

كما تتجلى هموم الريف والبسطاء في قرى مصر المحروسة في قلب الاهتمامات الإبداعية لصاحب "شكاوى الفلاح الفصيح" الأديب والبرلماني المصري يوسف القعيد وقصصه القصيرة ومن بينها "الفلاحون يصعدون الى السماء" فيما عرفت بعض اعماله الابداعية طريقها للشاشة الصغيرة او الكبيرة مثل "قطار الصعيد" و"بلد المحبوب" و"وجع البعاد" و"عزبة المنيسي".

وإذ تشهد "بردية الفلاح الفصيح" التي تعود لآلاف السنوات على عمق الدور التكويني والمؤسس للفلاح المصري في الثقافة الإنسانية ككل فان الريف المصري ملهم لكثير من الابداعات عبر مسيرة الزمن ومن بينها مسرحية "الفلاح الفصيح" للكاتب الراحل علي أحمد باكثير الذي قضى في العاشر من نوفمبر عام 1969.

واذا كان محمد البساطى أحد ابرز الأصوات الأدبية المصرية لماعرف "بجيل الستينيات" وصاحب نحو 25 عملا ابداعيا ما بين الرواية والقصة فان صاحب "الأيام الصعبة" و"صخب البحيرة" و"أصوات الليل" الذى ولد في الأول من نوفمبر عام 1937 ببلدة الجمالية بمحافظة الدقهلية وقضى في الرابع عشر من يوليو عام 2012 ارتبطت اغلب اعماله بأجواء الريف مع اهتمام كبير برصد أحوال الفلاحين.

ومن الذي ينسى الارتباط الحميم بين الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر والريف حتى انه كان يعيش على زراعة قطعة ارض في بلدته بالمنوفية بينما يحمل ابداع مطر الذي قضى في الثامن والعشرين من يونيو عام 2010 "رائحة الغيطان والسنابل والأرض والشمس المصرية" وهو الذي كتب أروع القصائد بالفصحى في "رباعية الفرح" و"يتحدث الطمي" بينما قال في شعر بالعامية :"القمح طالع من قميص الضيف والشعر فيه ريحة الغيطان في الصيف".

والريف كان ملهما للشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل منذ ديوانه الأول "أغاني الكوخ" الذي صدر عام 1935 فيما يتجلى جمال الطبيعة الريفية في أشعار هذا المبدع المصري الذي ولد عام 1910 ببلدة النخيلة في محافظة أسيوط قضى في الخامس والعشرين من أبريل عام 1975 وصور بعبقرية قريحته الفنانة حاملة الجرة في الريف المصري وهي التي ابدع فنان مصري اخر هو محمود مختار في تجسيدها بالنحت في الحجر.

ولا يمكن تناسي تمثال "الفلاحة المصرية" للفنان الرائد محمود مختار الذي قضى عام 1934 وهو أيضا صاحب تمثال "الفلاحة المرحة" كما تحضر الفلاحات في تماثيل أخرى لصاحب "حاملة الجرة" مثل "العودة من السوق" و"بائعة الجبن" و"العودة من النهر" و"مناجاة" فيما يعد مثالا للمبدع المولع بحياة الريف والقرية المصرية وعبر بفنه عن روح الريف المصري الطيب بكل عاداته وتقاليده.

ويقول وزير الثقافة الأسبق والكاتب والناقد الدكتور جابر عصفور ان الفلاحة في إبداعات مختار هي الأم وهي الأصل كالأرض فيما يرى ان تمثاله "على شاطيء الترعة" لا يقيمه "الا مصري فلاح يعرف معنى الترعة وشاطئها".

وان ابدى بعض الكتاب اعجابا بروعة المناظر الريفية الخلابة في أوروبا كالريف الإنجليزي ببيوته واكواخه الأنيقة فالريف المصري ملهم بدوره حتى لمبدعين أجانب مثل الفنانة الأسبانية اسونثيون مولينوس جوردو التي اتجهت لفن "الخيامية" لتقديم عملها الفني "الزراعة الشبح" الذي يجسد صورا لفلاحين بسطاء والطرق التقليدية لري أراضيهم وأخرى لاستثمارات زراعية كبيرة تستخدم احدث طرق الري .

وواقع الحال ان هذه الفنانة الأسبانية حولت صور الحاسوب الرقمية الى قطعة نسيج في تطوير مثير لفن الخيامية وتصوير مشاهد الفلاحة في الريف المصري وكأنها توميء ضمنا "للقاء المنشود بين الأصالة والمعاصرة".

والثقافة المصرية سواء على مستوى الابداعات او الدراسات والتنظيرات الثقافية المتصلة بالفلاح المصري والريف على وجه العموم تنتج اعمالا بعضها تضارع في الجودة والعمق ماينتجه الغرب في سياقاته وما يظهر في مكتباته من كتب جديدة مثل "الفلاح الأمريكي في القرن الثامن عشر: تاريخ اجتماعي وثقافي" وهو بقلم ريتشارد بوشمان.

ومن تلك الإصدارات أيضا كتاب "هذه الأرض المباركة :عام من الحياة في مزرعة عائلة أمريكية" بقلم تيد جينوايز وكتاب"العمل المثمر:البيئة والاقتصاد والممارسات في مزرعة عائلية" بقلم مايك ماديسون.

فاذا كانت الولايات المتحدة تعيش فيما يسمى بزمن ما بعد الحداثة تظهر مثل هذه الكتب الجديدة ان الاهتمام الثقافي بالريف لم يتراجع أبدا سواء على مستوى الأعمال الإبداعية أو التنظيرات الثقافية والطروحات التي تتناول قضايا متعددة من بينها الاقتصاد الريفي.

ولا ينكر الأمريكيون أو يطعنون في صواب ماقاله الكاتب الإنجليزي ويليام كوبيت في عام 1818 :"الولايات المتحدة الأمريكية ليست الا بلد الفلاحين" بينما يقول الآن الكاتب الأمريكي مايك اديسون ان "الريف يوميء للروح الإنسانية الخيرة التي تطمح لاعمار الكون".

وفي بلد كالصين فان اديبها النوبلي مو يان يوصف بأنه "كاتب االفلاحين" فيما تأثر صاحب "عصيدة الذرة الحمراء" بخلفيته الريفية والحكايات التى كان ينصت لها فى ايام الصبا وكأنها تشكل "الخميرة الابداعية" لهذا الفتى الصينى الذى ترك الدراسة فى المدارس وهو صبيا فى الثانية عشرة من عمره ليعمل فى الحقول حتى توج بجائزة نوبل في الاداب عام 2012.

واذا كان الكاتب التشيكي الشهير فرانز كافكا الذي قضى في الثالث من يونيو عام 1924 قد تضمنت "تركته الروائية عملا بعنوان :تحضيرات لعرس في الريف" فالطامح لجائزة نوبل في الآداب إسماعيل قدري الذي ولد عام 1936 فى مدينة جيركاستير جنوب البانيا لم ينس في حياته الباريسية الفلاحات في بلاده لتنطوي ابداعاته على توظيف مدهش للقرية والتاريخ والأسطورة واللغة الشاعرة كما يتبدى فى روايته "سقوط المدينة الحجرية".

ففي هذه الرواية لا أحد يعرف مااذا كانت الفتيات فى القرى يتعرضن للخطف ويتم اقتيادهن الى مدينة جيركاستير-كما يقال-ام انهن جئن للمدينة الحجرية بغواية الانحراف فى انسياق ارادى وانصياع "لنداهة المدينة".

والكاتب والروائي الفرنسي الكبير جول رينار الذي قضى عام 1910 ابدع في الكتابة عن الريف بقدر ماالهمه الريف بعض أروع أعماله التي تتجلى في مفكراته الريفية وهي المفكرات التي تحمل صورا بديعة للطبيعة الريفية الخلابة.

لكن الريف حاضر في المقالات الصحفية للكاتبة والأديبة المصرية سكينة فؤاد اكثر من اعمالها الروائية وهي صاحبة الاهتمام الكبير بقضايا الزراعة والأمن الغذائي في مصر فيما تؤكد على ان "الفلاح المصري هو الذي علم الدنيا الزراعة".

ولرئيسة المجلس القومي للمرأة الدكتورة مايا مرسي دراسات منشورة توضح ان المرأة في الريف المصري تقوم بدور كبير في اعالة الأسرة خلال "فترة مابين الحصادين للمحاصيل الزراعية" وتنتج ثلث الإنتاج الداجن في مصر.

والفلاح المصري حاضر بوضوح في قلب التوجه الحميد لوزارة الثقافة المصرية لتفعيل مفاهيم العدالة الثقافية وتقديم الخدمات الثقافية في الريف المصري فيما يمكن للهيئة العامة لقصور الثقافة بحكم طبيعتها وامكاناتها النهوض بدور مهم على هذا المضمار.

وعندما نحتفل اليوم بعيد الفلاح ، فإننا نحتفل بكل المعاني الأصيلة والنبيلة..فهنا على هذه الأرض الطيبة شيد الفلاح المصري منذ آلاف السنين حضارة خالدة..هنا يبقى الريف دالا على "بلد الطيبين" وهنا كتب التاريخ ابجديته الطيبة ويكتب الحاضر إنجازاته الكبيرة ويحمل المستقبل المزيد من المجد لشعب طيب الأعراق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved