سمير فؤاد يكتب عن سطوة الفن

آخر تحديث: السبت 10 أغسطس 2019 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

فى عام 1944 فى غمار الحرب العالمية الثانية كانت إحدى محطات الراديو الروسية تذيع كونشرتو البيانو رقم 23 لموتسارت من عزف عازفة البيانو الشهيرة فى وقتها ماريا يودينا .. وكان جوزيف ستالين بالصدفة البحتة يستمع إلى هذه المحطة وفتنته الشاعرية المرهفة والحساسية الدافقة فى الأداء لألحان العبقرى المتفرد موتسارت..وقد كان أن طلب ستالين من أحد مساعديه نسخة من هذا التسجيل .. ما كان لا يعلمه ستالين أو مساعده هو أن المحطة كانت تذيع الحفلالموسيقى على الهواء مباشرة ولم تكن تسجلها من باب توفير النفقات.
كانت ماريا يودينا واحدة من فطاحل عازفى البيانو الذين تسيدوا ساحة الموسيقى الكلاسيكية فى الإتحاد السوفيتى فى النصف الأول من القرن العشرين مثل سيفياتوسلاف ريختر وإميل جيللز وليف أوبورين.. وكانت مشهورة بعزف مؤلفات باخ وبتهوفن وموتسارت بجانب موسيقى معاصريها من المؤلفين السوفييت أمثال سكريابين وراحمانينوف وبروكوفييف وشوستاكوفيتش الذى كان صديقها من أيام الدراسة والذى قال عنها " كانتتعزف وكانها تصلى."
ولدت يودينا على الديانة اليهودية وبعد أن تخرجت في كونسيرفاتوار موسكو درست علم الأديان المقارن ونتيجة لهذا تحولت إلى المسيحية الأورثوذكسية وكانت تمارس شعائرها فى الكنيسة وتضع صليبا حول عنقها أثناء حفلاتها الموسيقية فى عصر حمى الدولة الشيوعية والتى كانت تعتبر إظهار أى علامة دينية من الأفعال التى تؤدى بصاحبها إلى تنحيته من وظيفته وربما بالسجن أو النفى إذا أصر وتمادى.. ولكن السلطات أغمضت عينها عن أفعال يودينا نتيجة لشهرتها الكبيرة .
نعود الى التسجيل الذى طلبه ستالين والذى نقله المسئول الكبير على عجل إلى مدير المحطة الذى أصيب بالهلع فطلبات الطاغية الكبير أوامر يجب تنفيذها فورا وبدون إبطاء وإلا فالعواقب غير محمودة.. تم إستدعاء العازفة يودينا فى منتصف الليل وتجميع أوركسترا وقائد أوركسترا وبدأ التسجيل ولكن قائد الأوركسترا أخذ يخطئ من ضغط الموقف فتم تغييره ولكن حظ القائد الجديد لم يكن أفضل فأحضروا الثالث.. وخلال هذه التراجيديا الملحمية كانت ماريا يودينا فى منتهى الثبات.. وتم الإنتهاء من العمل على مشارف اليوم التالى وأرسل التسجيل إلى ستالين الذى لحسن حظ الجميع لم يلاحظ الفرق بين التسجيل وما كان يستمع إليه فى الليلة الماضية.
بعد فترة وصل إلى ماريا يودينا منحة من ستالين تقديرا لها على عزفها مبلغ عشرون ألف روبل.. وقد أرسلت يودينا إلى ستالين خطابا تشكره فيه على هذه المنحة وقالت فيه.." إنى شاكرة على هذه المنحة وإننى أصلى من أجلك إلى الرب لكى يغفر لك خطاياك فى حق أبناء بلدى ولقد تبرعت بالمبلغ الذى أرسلته إلى الكنيسة التى أذهب إليها."
وصل الخطاب إلى ستالين بعد أن قرأه مستشارو الأمن ولسبب ما قرروا عدم حجبه وتم تسليمه إلى ستالين ..وإنتظر الجميع رد فعل الطاغية الدموى الذى كان معروفا بردود أفعاله الجامحة والذى أرسل الملايين إلى المعتقلات أو إلى المجهول لأسباب أقل من هذا التحدى السافر من هذه العازفة الرعناء.. قرأ ستالين الخطاب دون أن يبدوا عليه أى رد فعل ثم طواه ووضعه فى جيبه.
عندما أصيب ستالين بجلطة فى عام 1953 ومات بعدها بقليل.. وجدوا على الجرامفون الذى كان بجانبه التسجيل الذى أدته ماريا يودينا من أجله قبلها بتسع سنوات ..وكان هذا آخر ما إستمع إليه قبل وفاته.. لقد جعل الفن قلب هذا الطاغية الدموى ينصهر ويرق ويلين ..وهذه هى سطوة الفن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved