المنسى قنديل يروى قرون الصمت الطويلة فى «لحظة تاريخ»

آخر تحديث: الجمعة 11 يونيو 2021 - 9:23 م بتوقيت القاهرة

كتبت ــ شيماء شناوى:

ــ الكتاب يتناول قصة آخر الملوك الذين ماتوا عشقا وعن تصور الطبرى لخلق الكون

يبدأ التاريخ العربى مثل حلم أسطورى رائق، ولكنه سرعان ما يتحول إلى كابوس عندما تستشرى فيه بذرة الفساد. هذا فحوى ما يسطره الروائى الكبير محمد المنسى قنديل، الفائز مؤخرا بجائزة الدولة التقديرية فى الآداب، فى كتابه «لحظة تاريخ»، الصادر عن دار الشروق، بلوحات رسمتها ريشة الفنان عمرو الكفراوى، ويروى خلاله ثلاثين حكاية من الزمن العربى بما شهده من مظاهر العظمة والجنون، النزوات والمجازفات والبطولات الحقيقية والزائفة، يتتبع أزمنة الفتن، وسيرة أئمة مخلوعين وخلفاء هاربين، وقادة انهمكوا فى إحصاء الغنائم، فتجمد معهم الزمن العربى وتبدلت انتصاراته بهزائم قادت الحضارة العربية إلى كل هذا القدر من الانحدار.
♦ «هكذا خُلق الكون كما تصور الطبرى»
عندما بدأ الطبرى يتأهب لكتابة تاريخه، قال لتلامذته: أتنشطون لكتابة تاريخ العالم من آدم حتى وقتنا هذا؟ تساءل التلامذة: كم يكون قدره؟ قال الطبرى: ثلاثون ألف ورقة، قالوا معترضين: إن هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. قال: إنا لله، ماتت الهمم، ولم يكن أمامه إلا أن يملى عليهم تاريخ العالم مختصرًا غاية فى الاختصار: «الحمد لله، الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، والقادر على كل شىء بغير انتقال، والخالق خلقه من غير شكل ولا مثال، الفرد الواحد من غير عدد، والباقى بعد كل أحد».
أول ما خلق الله من شىء كان القلم، فقال له: اكتب، قال القلم: وما أكتب يا رب..؟ قال له: اكتب كل ما هو مقدر، فجرى القلم فى تلك الساعة بما كان وبما هو كائن حتى أبد الدهر، ثم خلق الله سحابًا رقيقًا كالغمام، لف حول الكون الخالى فأصبح الكون عماء، ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق الله عرشه على الماء، وأخرج من الماء دخانًا فسما عليه سماء، وقسمها إلى سماوات سبع، ثم يبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين.
كانت الأرض مخلوقة على ظهر النون؛ الحوت السابح فى بحر الأبدية، وحين أراد الله أن يدحو الأرض ويضع فيها أرزاقها، تحرك النون فاضطربت الأرض وتزلزلت فأرسى عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الأرض، ثم خلق الظلمة والنور وميز بينهما، فجعل الظلمة ليلًا أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا، وخلق من نور عرشه شمسين، وفى بادئ الأمر لم يكن يعرف الليل من النهار، فأرسل الله جبريل فمر بجناحيه ثلاث مرات على وجه القمر وهو يومئذ شمس، فطمس عنه الضوء وبقى فيه النور، وبقيت خطوط سوداء على وجه القمر من أثر المحو، ودار الفلك دوران العجلة، فلو اقتربت الشمس لأحرقت كل شىء على الأرض حتى الصخور والحجارة، ولو بدا القمر لافتتن أهل الأرض وعبدوه من دون الله، وبدأت حركة الزمن فى الصيرورة، كل نهار يتلوه ليل إلى يوم القيامة فهو يوم عقيم، نهار لا يتلوه ليل. هكذا خلق الكون كما تصور الطبرى.
♦ «آخر الملوك الذين ماتوا عشقًا»
عندما تولى «يزيد بن عبدالملك» الخلافة، كان شابًّا متقشفًا خجولًا، على وجهه مسحة من الحزن، وتساءل المحيطون به من بنى أمية: هل يقدر هذا الشاب النحيل على مواجهة غاويات الحكم؟
فى اليوم الأول دخل إلى قاعة الحكم وتأمل العرش الذهبى ثم قال: أنا لست كسرى ولا قيصر، أحضروا لى مقعد ابن عمى عمر بن عبدالعزيز، تبادل الرجال نظرات قلقة؛ خليفة متقشف آخر يقبض على زمام الحكم ويوشك أن يقبض على رقابهم.
كان حلم يزيد أن يعم السلام هذه البقعة من الأرض التى لم تهدأ منذ أن اغتيل عثمان بن عفان، أصدر أوامره إلى الولاة أن يكفوا عن مطاردة العلويين الأحياء، وأن يتوقفوا عن نبش قبور الموتى، يصحو مع الفجر يذهب ليصلى بالناس، ثم يراقب حركة البيع والشراء بالأسواق، يتفقد السجون، ويفتح بابه للمظاليم وطلاب الحوائج، يفعل فى دأب لا يهدأ، وكان لا بد من البحث عن نقطة ضعف له، تنفذ منها كل الأهواء والرغبات لعله يلين.
كانت «سعدة» زوجة يزيد تحمل فى داخلها مخاوف أهلها من بنى أمية، سألته: يا أمير المؤمنين هل بقى لك شىء من الدنيا تتمناه؟ أجابها بصوت حالم: «حبابة»، صاحبة الجمال والصوت الذى جعله يهيم فى الصحراء. عرف اسمها وأن تُلقب بـ«العالية»؛ لأنها الأعلى قيمة بين كل المغنيات والمحظيات، وأصر مالكها على أن لا يبيعها إلا بأربعة آلاف دينار كاملة، دفع يزيد كل ما معه من مال، واستدان من بعض أصدقائه، وأرسل مكتوبًا عاجلًا لأخيه الخليفة سليمان بن عبدالملك يطلب منه مددًا من المال، ولكن الخليفة فزع عندما عرف المبلغ المهول الذى دفع فى جارية واحدة، فأرسل إليه مهددًا: ـ أيها الأرعن، تخلص منها فورًا وإلا قمت بالحجر عليك ونحيتك عن ولاية العهد.
كان الأمر أكثر من مجرد الغيرة، الأمر يخص كل بنى أمية ومصالحها المهددة، انطلقت الرسل سريعًا إلى مصر، تبحث عن التاجر الذى اشتراها، البسوها أفخر الثياب، تأملها يزيد وهو غير قادر على الكلام، وتركتهما الزوجة ووقفت تتنصت خارج الباب لكنها لم تسمع لا أحاديث، ولا أنغام، ولا تأوهات حب، دفعها فضولها لدخول الغرفة فوجدت بينهما سترا منسدلا نظر إليها يزيد «أخاف الله».
فى الصباح فوجئ الخليفة بأربعين شيخًا يطلبون الدخول إليه: جئنا يا مولاى من أجل خيرك وخير الناس، فأنت تأخذ نفسك بالشدة، وتحرم نفسك من متع الدنيا. جمعنا كل ما قيل فى أحكام السلطان من فتاوى وأحاديث، وكلها تؤكد على أنه ليس على الخلفاء والسلاطين حساب ولا عقاب فى الآخرة، ما يتحمله فى الدنيا من أعباء الحكم يكفيه ويجعله بريئًا وطاهرًا أمام رب العالمين، إنه ظل الله فى الأرض.. فكيف يحاكم ظله؟
استيقظت الرغبات القديمة، لم يعد هناك ما يكبحها، سمعت الزوجة فى الليل صوتهما وتأوهاتهما، أخذ القصر كله يتجسس عليهما ويحرص على سماع أصواتهما، كانوا جميعا يريدون الاطمئنان أن الخليفة لن يفلت بعد الآن من فخ الغواية. حتى جاءت اللحظة التى انتظرها بنو أمية، حين جمعهم وقال لهم:ـ لقد قررت أن أعتزلكم.. سأذهب أنا وحبابة وحدنا إلى قصر الغوطة، فرش القصر بالبسط والنعم، وملأه بالجوارى وعازفى الموسيقى ومقطرى الخمر، ولم يقبل أن يدخل عليه قاضٍ أو رسول، تفرغ لحبابة بكل طاقته وكامل وقته.
ولكن المتعة حلم عابر كما يقولون، كانا جالسين معًا وبينهما طبق من أعناب الغوطة، كانت تقذف له حبة فيلتقطها بفمه، ويقذف لها أخرى فتلتقطها بفمها، فوجئ بها تشرق وتسعل بشدة، ازرق وجهها وعجزت عن التنفس، توقفت الحبة فى مجرى القصبة الهوائية، صرخ الخليفة ينادى من ينقذها، كانت دمشق بعيدة، والأطباء أبعد، وانتفض جسدها المختنق ثم همد كل شىء. ظل يحتضنها ويقبلها لعله ينقل إليها بعضًا من روحه، انتزعوا جسدها منه وهو يبكى، وبعد أن تم دفنها ظل مقيمًا على قبرها رافضًا أن يذهب إلى أى مكان آخر، كان يدرك أن النهاية قادمة، وعندما تحين اللحظة لم يكن يريد أن يكون بعيدًا عنها.
عندما حانت ساعة الرحيل قال له تابعه وناصحه «أبو إسحاق»: إن كان لا بد من ذهابك إلى الخليفة فافعل شيئًا واحدًا، إذا دخلت عليه فاقتله. همس «أبو مسلم» فى ذهول: أأقتل الخليفة؟! قال: والله إن لم تفعل فلن تخرج من عنده على قدميك. كان قد خاض عشرات المعارك وقتل آلاف الناس، ويؤمن أنه لا يوجد عقاب سوى السيف، ولا يوجد سجن غير القبر، فهل يجرؤ على رفع سيفه فى وجه الخليفة أبى جعفر المنصور؟
منذ أن حضر رسول الخليفة إليه وهو عاجز عن النوم، وعن اتخاذ القرار، قبل ذلك كان يعتقد أنه قادر على مغالبة الدنيا كلها، فى البداية حدثه الرسول بلين، ولكن بلاغة الكلمات لم تخدعه، هتف بالرسول: ارجع إلى الخليفة فلست أريد لقاءه، فقال الرسول: أنصحك ألا تفعل، الخليفة يبلغك أنه برىء من محمد ودين الإسلام إن أبيت أن تأتى إليه أو عصيته، ولن يألو فى طلبك وقتالك بنفسه، ولو خضت البحر لخاضه، ولو اقتحمت النار لاقتحمها حتى يفتك بك، أو يموت دون ذلك».
كانت هذه هى المرة الأولى التى يتلقى فيها تهديدًا بهذه الحدة. تذكر المرات التى تقابل فيها مع الخليفة أبى جعفر المنصور، كما تتقاطع النصال على النصال، فى كل مرة يتولد جرح جديد ولكنه لا يصيب مقتلًا، هل حان وقت الإجهاز الأخير؟ فى صباح اليوم التالى أرسل «أبو مسلم» أعز أصدقائه «أبى إسحاق» رسولًا للخليفة لعله يستشف ماذا يدبر له فى هذا القصر العباسى، وعاد الصديق مبهورًا من حفاوة الاستقبال. وقال أبو مسلم لصديقه فى حيرة حقيقية: أوَتصدقنى القول يا أبا إسحاق؟ وأحنى الصديق رأسه وهو يقول: وهل أبيع قطعة من نفسى يا «أبا مسلم»؟، واحتضنا بعضهما وبكيا معًا؛ بكى «أبو مسلم» ندمًا لأنه ذات لحظة قد انتابه الشك فى أعز أصدقائه؛ وبكى أبو إسحاق لأنه كان يتساءل فى أعماقه إن كانت ولاية خراسان التى وعده بها الخليفة تستحق أن يبيع صديق عمره.
♦ « اليوم اكتملت خلافتك»
بدأ الرحيل عن خراسان فى قافلة طويلة محملة بالهدايا لعل الخليفة يرضى عنه، محفوفة بالفرسان لعله يرتدع منه، وأخذ يتذكر انتصاراته السابقة التى جعلته فارس الدولة العباسية وحاميها برغم توالى الخلفاء، ثم ظهر الخليفة أبو جعفر المنصور، الذى صدق الوشاية فى أن أبى مسلم، غير من ولائه وأصبح يميل للعلويين.
وصل «أبو مسلم الخراسانى» إلى «المدائن» قابل الخليفة وانتهت المقابلة الأولى ببساطة آسرة، فى الصباح التالى كان الأمر مختلفًا، وجد الخراسانى نصف جنوده سكارى، والنصف الثانى قبض من الدنانير ما يكفى، والذين يسيرون خلفه، يفعلون ذلك فقط حفاظًا على الهيبة، وفى الداخل كان الخليفة يبتسم ويتحدث فى بساطة: «سمعت عن سيفين أصبتهما من متاع عبدالله بن على حين كنت تحاربه، أهذا السيف أحدهما؟ وأومأ «أبو مسلم» موافقًا، وفتح الخليفة كفيه يطلب أرنه، ولم يكن هناك بد من أن يخلعه من خاصرته ويناوله إياه، وتأمل أبو جعفر صفحته الناصعة ثم وضعه تحت فراشه، تبعته عينا أبى مسلم فى قلق، أحس أنه قد وثق بالخليفة أكثر مما ينبغى.
قبل أن يقوم بأى خطوة كان الخليفة قد بدأ معه حسابه: أخبرنى عن كتابك إلى أخى أبى العباس تنهاه فيه عن أخذ الأرض الموات. هل أردت أن تعلمنا الدين؟ وكيف كان ظنك حين تقدمتنى فى طريق الحج؟ وماذا حين أتاك الخبر بموت أخى أبى العباس، ومع ذلك مضيت فلا أنت أقمت حتى نلحق بك، ولا أنت رجعت إلينا؟ وعصيانك لى؟ وخروجك إلى خراسان؟ ومنعك رسلى من إحصاء الغنائم؟ ومحاولتك الزواج بعمتى أمينة؟ كل هذا، وغيره، هل عندك حجج أخرى..؟
وهتف «أبو مسلم»: لا يقال لى هذا بعد بلائى فى إقامة دولتكم. ونهض الخليفة صائحًا: يا ابن الخبيثة لو بعثنا مكانك أمة سوداء لقامت بما قمت، ثم صاح بالحراس: اضربوه قطع الله أيديكم.
هوى الحارس الأول على ذراعه، والثانى على ساقه، والثالث على خاصرته، والرابع على رقبته، تعالت دقات الدفوف من الخارج تغطى على صرخاته. انتفض الجسد الذبيح ثم هدأ كل شىء، وهدأ الخليفة أيضًا، انحنى الوزير أبو أيوب أمام الخليفة وهو يقول: اليوم يا مولاى، اكتملت خلافتك.
 
 
 
 
 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved