الولاية الهندية التي يشعر سكانها بالرضا والهدوء

آخر تحديث: الخميس 11 يوليه 2019 - 11:52 م بتوقيت القاهرة

كان المشهد مستغربا بالنسبة لي، عندما وجدت كل محال أسواق مدينة باناجي مغلقة، حينما كنت أجول هناك مؤخرا بعد ظهر يوم حار، باحثا عن زوج جديد من الأحذية بدلا من حذائي الذي بلى من كثرة السير، في أسواق وشوارع بلدات مماثلة لهذه المدينة الهندية في ولاية غوا.

آنذاك اتصلت بصديق لسؤاله عن مواعيد عمل هذه المحال، فقال: "عليك الانتظار حتى حلول المساء". اتضح لي أن المدينة كلها تقريبا تغلق أبوابها يوميا في الفترة ما بين الواحدة والخامسة. فولاية غوا الساحلية الواقعة غربي الهند تنعم في وقت الغداء هذا من كل يوم بما يُعرف بالـ"سوسيغاد" الجماعي، حيث يحتجب الناس عن الحرارة الحارقة في الخارج.

ويشير هذا المفهوم - وهو مشتق من المفردة البرتغالية "سوسيغادو" والتي تعني الهدوء - إلى تبني توجه هادئ ومسترخٍ بين سكان غوا ممن يبدو أنهم يعيشون في حالة من الرضا والقناعة الدائمتيْن.

وقال لي أحدهم إن هذا التوجه - مثله مثل نوم القيلولة مثلا - نجم عن إدراك فطري بأن المرء "لا يستطيع - ولا ينبغي له - أن يقاتل أمورا صغيرة في الحياة. ومن هذا المنطق فإن أفضل ما يفعله في فترة ما بعد الظهر في يوم صيفي حار هو أن يغلق عليه الأبواب ويقضي وقته في الظل، وإلا سيفشل في أن ينعم بالأمسية الصيفية معتدلة الأجواء التي ستلي ذلك".

لكن الـ"سوسيغاد" يتجاوز بكثير مجرد نوم القيلولة، فهو - كما يقول مسؤول تنفيذي في مجال التسويق وُلِد وقضى غالبية حياته في غوا - يعني "أن تعيش حياتك بإيقاع هادئ بطيء، وأن تنعم بوقت طيب خلال تعاملك مع كل ما فيها".
ولدى الصحفية جوانا لوبو - التي نشأت في شمال غوا وتعيش الآن في مومباي - ذكريات عما عايشته في طفولتها من تطبيقات حياتية لهذا المفهوم. وتقول إن ما تتذكره في هذا الشأن هو قضاء "يوم الأحد مع الأسرة، ونيل قسط من الراحة والاسترخاء بعد وجبة غداء من الأرز والأسماك والخضروات، والانهماك إما في الثرثرة والقيل والقال عن أحوال القرية، أو في ممارسة ألعاب الورق. إنه ذاك الشعور بالاسترخاء أو بالرضا عن الحياة".

وهكذا شكلّت القناعة والسكون والصمت والتمتع بالسلام النفسي موضوعات ظهرت مرارا وتكرارا خلال أحاديثي مع أُناسٍ من غوا، سواء ممن ما زالوا يعيشون هناك أو ممن غادروا هذه الولاية.

وبينما تُعرف الولايات الهندية الأخرى بما تصدره حركة المرور في شوارعها من أصوات، كدوي متصل لأبواق السيارات على سبيل المثال، أو حتى بضجيج النقاشات المحتدمة بين سكانها، فإن الأمر في بلدات وقرى غوا يختلف، إذ لا يحس المرء بمرور الزمن هناك سوى عبر دقات أجراس الكنائس، أو الرنين اللطيف الصادر من أجراس الدراجات الهوائية المارة في طرقاتها.

لكن الصحفية لوبو سارعت بالتأكيد على أن تبني هذا المفهوم في التعامل مع الحياة لا يعني أن يكون المرء كسولا أو غير مكترث بعمله. وتقول إن الفهم الخاطئ لهذه المسألة هو أكثر ما يثير ألمها "لأنه ببساطة ليس صحيحا"، مُشددة على أن أهالي غوا "يعملون بجد"، لكنهم يريدون الاستمتاع بحياتهم في الوقت ذاته.

ويُشبّه أحد سكان غوا الأمر بمواجهة المرء موقفا عائليا يشعر فيه بالعجز، ويجد في هذه الحالة أن أفضل ما يمكنه القيام به يتمثل في أن "يحتسي جعة باردة، ويحظى بقسط من النوم في فترة القيلولة".

ويقول إن اللجوء إلى تصرف مثل هذا لا يمثل "تراخيا أو كسلا. إنه قرار بشأن ما الذي يجب أن تكافح من أجله، وما الذي يتعين عليك أن تتخلى عنه".

ويشيع في الهند صور نمطية عن بعض الأقاليم والتجمعات السكانية المختلفة، حيث تنظر كل منطقة إلى الأخرى بقليل من الشك والشعور بالتفوق أيضا. لكن غوا - كما هو مُسلمٌ به - تمضي على وتيرة إيقاعها الخاص. فهذه الولاية - التي تشكل إحدى أقل ولايات الهند من حيث عدد السكان، إذ يزيد عددهم بقليل عن مليون ونصف المليون نسمة - تنعم بتوافق سعيد وفريد من نوعه، بين تأثيرات الهندوسية الهندية والكاثوليكية البرتغالية.

فقد وصل البرتغاليون إلى غوا للمرة الأولى عام 1510. وكان لقدومهم أسباب متعددة، أهمها الحصول على كميات من التوابل القيمة، مثل الفلفل الأسود والهيل الأخضر، والعودة بها إلى بلادهم، بجانب نشر المسيحية. وقد سرّهم ما وجدوه في هذه الولاية من شواطئ بِكر وغابات وارفة الأشجار، ناهيك عن ميناء قابل للاستخدام، سهّل حركة التجارة بين غوا والمناطق المجاورة لها. ولذلك بقي البرتغاليون هناك لأكثر من 450 عاما.

ولم ينته الاستعمار البرتغالي للولاية سوى في عام 1961، أي بعد 14 عاما كاملة من نيل الهند استقلالها عن بريطانيا. وفي واقع الأمر، من الشائع أن يسمع المرء سكان غوا وهم يتحدثون عن الهند باعتبارها دولة أخرى منفصلة عن تلك التي ينتمون إليها، لا يربطهم بها إلا القليل. ولا يشكل مفهوم الـ"سوسيغاد" سوى أحد جوانب إرث الحقبة البرتغالية، جنبا إلى جنب مع الروح المعتدلة التي تميز منطقة البحر المتوسط.

ومازال لدى الكثير من سكان غوا من كبار السن جوازات سفر برتغالية، بل ويمتلك بعض هؤلاء منازل في البرتغال نفسها. كما لا تزال اللغة البرتغالية تُستخدم وتُفهم على نطاق واسع في مختلف أنحاء الولاية الهندية. ومن جوانب الإرث الأخرى لحقبة الحكم البرتغالي التي ما زالت موجودة في غوا تبني توجه الـ"سوسيغاد" في التعامل مع تفاصيل الحياة اليومية، بالإضافة إلى وجود المذهب الكاثوليكي، فضلا عن أنواع من الأطعمة والموسيقى والرقص والفن وطراز الفن المعماري.

فالزائرون الأجانب للولاية سيجدون الأطعمة المنتشرة هناك عبارة عن مزيج شهي من الأطباق البرتغالية والمكونات الغذائية المرتبطة بالمناطق الواقعة على السواحل، والنباتات التي تنمو هناك مثل جوز الهند والفلفل. حتى نوع الخبز المنتشر في كل أرجاء الجزيرة مستورد من البرتغال كذلك.

وإذا ما تجولت في باناجي فستجد منطقة يُطلق عليها اسم الحي اللاتيني. هناك سترى مباني - تتنوع ما بين الكنائس والقصور - مُشيدة على الطراز البرتغالي التقليدي. وبينما بدأ عدد محدود من سكان غوا ترميم القصور البرتغالية القديمة، للحفاظ على ملامحها الفنية والمعمارية التقليدية، فُتِح اثنان منها أمام الزوار.

وشرح لي بعض السكان أن هناك ألفة متبادلة لا تزال قائمة حتى يومنا هذا بين غوا والبرتغال. ويشير هؤلاء إلى أن البرتغاليين - على عكس البريطانيين - لم يستغلوا موارد الهند، ولم يعتبروا غوا مستعمرة يجنون منها المال، وإنما نظروا إليها بوصفها جزءا من البرتغال. ولذا رأى سكان تلك الولاية أن البرتغاليين هم "مواطنوهم وليسوا غرباء".

لكن هل يقتصر تبني مفهوم الـ"سوسيغاد" على السكان الكاثوليك لهذه الولاية الهندية، باعتبار أن إرث الحقبة البرتغالية يتسم بقوة أكبر بين هؤلاء الأشخاص ممن اعتنقوا ذلك المذهب على يد القساوسة اليسوعيين البرتغاليين؟

عندما طرأ هذا السؤال على ذهني، كنت أفكر في أرقام من قبيل أن 25 في المئة فقط من سكان غوا هم من الكاثوليك، بينما يعتنق الغالبية من الموجودين هناك - ممن تزيد نسبتهم على 66 في المئة - الهندوسية. فهل يمكن أن يكون توجه مثل ذاك الذي نتحدث عنه في هذه السطور قاصرا على من تحولوا للكاثوليكية؟ الإجابة التي استمعت إليها على لسان كل من تحدثت معهم في هذه الولاية الهندية كانت بالنفي؛ فقد قالوا إن ذلك التوجه سائد لدى كل من عاش في غوا، حتى ولو لبضع سنوات.

وتحدثت إلى مُدَوِنة انتقلت للسكن في غوا قبل خمس سنوات، بعدما عملت في مدينتيْ نيودلهي وبنغالو. في نظرها، يشكل الـ"سوسيغاد" أحد عوامل الجذب لولاية غوا، مثله مثل الشمس والبحر. وشرحت لي أن روتين حياتها اليومية، على مدار السنوات الخمس السابقة - أي منذ أن انتقلت للعيش في تلك الولاية - أصبح أبطأ وأكثر يسرا وسهولة، مُتماشيا بذلك مع طبيعة الحياة السائدة في غوا.

وعندما فكرت مليا في الأسباب التي جعلت مثل هذا التوجه ملمحا مُمَيِزا لتلك الولاية وحدها، بدأت في التعرف على الدور الذي يبدو أن العلاقات القوية القائمة بين سكان الولاية، قد لعبته على صعيد بلورة ذلك المفهوم من الأصل. بطبيعة الحال، بدأ كل ذلك بمسألة نوم القيلولة، التي تشكل أمرا ضروريا في مجتمع غوا، الذي كان مجتمعا زراعيا يستيقظ أبناؤه مبكرا للعمل في الحقول أو لصيد السمك لبيعه في الأسواق التي تقام في فترة الصباح. وهكذا تعلم أبناء هذا المجتمع أنه يتعين عليهم - بجانب العمل - أن ينالوا قسطا من الراحة كلما احتاجوا لهذا، وذلك في توازن قاد إلى أن ينعموا بشعور من الرضا. وهكذا جاء الانتقال من نوم القيلولة لتبني مفهوم الـ"سوسيغاد" تطورا طبيعيا في نمط حياة سكان الولاية.

وقال لي أحد السكان إن غوا نَعُمَت دائما بالوفرة والرخاء الطبيعييْن، وهو ما انعكس في شعور القناعة الذي ترسخ في نفوس سكانها. وأشار الرجل إلى أن "الروابط المجتمعية، ما تزال قوية في الولاية؛ فالناس يزرعون ويحصدون معا، أو يوفرون قوة عمل جماعية لأداء مهام من قبيل تغطية الأسطح بالقرميد أو طلاء الجدران في المنازل" جنبا إلى جنب أيضا.

وأضاف ذلك الرجل - وغيره ممن يقيمون في هذه الولاية صغيرة المساحة - أن فكرة الحدود الفاصلة بين البلدات والقرى في غوا تشكل "مفهوما نظريا"، في منطقة يسودها إيمان فطري بالمساواة، في ظل عدم وجود "أي ضغوط يتعرض لها أي شخص هناك لكي يسعى لأن يصبح أفضل من جاره".

ويمثل ذلك توجها حياتيا باقيا من الأيام الخوالي، التي كانت فيها غوا تشعر بالعزلة الاجتماعية لا الجغرافية عن الهند، في ضوء أنها كانت تخضع لحكم البرتغاليين، بينما كان البلد بأسره خاضعا للاستعمار البريطاني. ولهذا السبب، كانت هناك حاجة لأن يبقى سكان تلك الولاية قريبين من بعضهم بعضا، بغض النظر عن اختلافاتهم الاجتماعية والدينية.

وكما يقول أحد سكان الولاية الهندية: "عندما تكون جديدا في غوا، سيستغرق الأمر منك بعض الوقت لتعتاد الطريقة التي يتعامل بها سكانها مع الحياة، وهي تلك المعروفة باسم `سوسيغاد`، لكن ما أن تتكيف مع إيقاع هذه الحياة، فستبدأ في الاستمتاع بها".

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved