كتاب «بلا منازع»: لماذا ستبقى أمريكا القوى العظمى الوحيدة في العالم «الحلقة الأخيرة»

آخر تحديث: الأربعاء 12 يونيو 2019 - 10:36 م بتوقيت القاهرة

عرض وتقديم ــ طارق الشامي:

شبكة التحالفات الأمريكية تشمل ربع سكان الأرض و75% من إجمالى الناتج المحلى العالمى
الدول الساعية لإحداث توازن القوة مع الولايات المتحدة تفتقر إلى الثروة والقدرات العسكرية لتحدى التفوق الأمريكى
الشراكة الصينية الروسية تطغى عليها صفة التنافس أكثر من التحالف
تشكيل تحالفات ضد الولايات المتحدة مغامرة مكلفة تتطلب فرض ضرائب باهظة لتمويل إنفاق دفاعى هائل
الصين تنفق 10 مليارات دولار سنويا لدعم مواقفها وأرائها
محاولات بكين وموسكو الحد من النفوذ المالى الأمريكى واجهت عراقيل والدولار أصبح أكثر نفوذا كعملة احتياط دولية
تمتع أمريكا بقوة مسيطرة وموقع جغرافى بعيد يجعلها حليفا مثاليا للقوى المتنافسة فى أوروآسيا
خلق «تحالف أوروبى» يتطلب إعادة بريطانيا إلى الاتحاد ومشاركة لندن وباريس سلاحهما النووى مع برلين وتقبل روسيا نشوء قوى عظمى على حدودها

فى الحلقات الماضية من عرض كتاب: «بلا منازع، لماذا ستبقى أمريكا القوة العظمى الوحيدة فى العالم» لمؤلفه «مايكل بيكلى»، تناولنا شرح فكرة الكتاب الأساسية وهى أن أيام الولايات المتحدة على رأس الكوكب الأرضى ليست معدودة كما يقول كثير من الباحثين والدارسين، ذلك أن أمريكا حسبما يقول «بيكلى» ستظل هى القوة المهيمنة فى العالم حتى نهاية القرن الحالى على الأقل، وهو يرتكز فى ذلك على منهج مختلف يقيس قوة الأمم من خلال حساب «صافى» الثروة الاقتصادية والإمكانات العسكرية لكل دولة، وليس باحتساب إجمالى القدرات الاقتصادية والعسكرية، وأن عناصر القوة الأمريكية تشير إلى أنها ستظل تمتلك قدرات أفضل عسكريا واقتصاديا وتقنيا لعقود أخرى قادمة خاصة على الصين التى تعد أقرب منافسيها.

صحيح أن الصين تقود العالم فى بعض الصناعات ويبلغ إجمالى احتياطياتها من العملات الأجنبية 3 تريليونات دولار، وكثفت خلال السنوات الأخيرة من عمليات التجسس الصناعى والتكنولوجى على الشركات الغربية، كما حسنت كثيرا من قدراتها العسكرية ومستوى التعليم والتدريب، إلا أنها لم تتحول إلى قوة دولية فى مجال الاختراعات والابتكارات ولا يمكن أن تواجه أمريكا عسكريا إلا فى منطقة واحدة حول العالم هى جنوب شرق آسى، كما يهددها حجم مديونية هائل يزيد عن 30 تريليون دولار، ويعتقد بيكلى أن الولايات المتحدة بمعايير صافى القوة فى المجال الاقتصادى والعسكرى، تظل هى أكثر ثراء من الصين بعدة مرات وأقوى عسكريا منها بمراحل عديدة.

                                              الإعلامي طارق الشامي

وفى هذه الحلقة نستعرض التوقعات المستقبلية للقوة وخريطة التحالفات المحتملة. فضلا عن بعض الملاحظات المتعلقة بآراء مؤلف الكتاب والمحتوى الذى اشتمل عليه.

يستخدم الباحثون فى العلاقات الدولية نظريتين لتفسير أسباب نهضة وانهيار القوى العظمى، الأولى تسمى نظرية «توازن القوى»، والثانية تسمى نظرية «التلاقى والتجمع»، وتقوم النظرية الأولى على فكرة أن الدول الضعيفة تحتشد ضد الدول القوية لتحدث التوازن معها ثم تجبرها على إعادة توزيع مصادر القوة داخل النظام الدولى، أما النظرية الثانية فتنبنى على أن الدول الفقيرة تنمو بوتيرة أسرع من الدول الغنية وبهذا يؤدى تلاقى وتجمع الدول الصاعدة الجديدة إلى اللحاق بالقوى القائمة المهيمنة.

لكن «مايكل بيكلى» يرى أن أى من النظريتين لا تصلحان للتطبيق فى النظام الدولى الحالى، ذلك أن الدول الأقل قوة الساعية لإحداث التوازن المطلوب، تفتقر إلى الثروة وإلى القدرات العسكرية اللازمة لتحدى التفوق الأمريكى الحالى، بينما تبدو نظرية «التلاقى والتجمع» غير محددة، ذلك أن الدول الفقيرة تنمو أحيانا بوتيرة أسرع من الدول الغنية، لكنها فى أحيان أخرى تتراجع عن مسيرتها ولا تتقدم إلى الأمام، ولمعرفة أى سيناريو يعد الأكثر احتمالا للتحقق خلال العقود القادمة، فإن الأمر يتطلب أولا التعرف على القوى الدافعة المولدة للنمو الاقتصادى، ومن ثم تقييم الاحتمالات لكل من القوى الرئيسية المتنافسة.

القوى الدافعة للنمو
استخدم «بيكلى» مؤشرات لتقييم احتمالات وتوقعات القوى الثمانية الأكثر قوة حاليا فى العالم وهى الولايات المتحدة والصين وروسيا واليابان وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا والهند، حيث يرى أن نظرية «توازن القوى» تتطلب أن تقوم الدول بحماية نفسها عبر اقتناء جيوش وتشكيل تحالفات وبذل كل ما يمكن لمنع أعدائها من التكتل فى قوة غالبة مسيطرة. وقد شهد العالم ردود فعل عنيفة فى الماضى ضد نهوض قوى جديدة غالبة، مثلما حدث ضد فرنسا النابليونية وضد الامبراطورية الألمانية، ولكن عندما تنجح إحدى القوى الناشئة فى أن تكون الأكثر قوة فى مقابل القوى الأخرى، فإن نظرية التوازن تفشل ويصيبها الاعتلال، ذلك أنه فى نظام القطبية الأحادية المعاصر، لا توجد دولة تتمتع بالقوة الكافية التى تمكنها من إحداث التوازن ومناطحة قوى مسيطرة قائمة، ولهذا يتطلب إحداث التوازن وجود تعاون بين كثير من الدول الأخرى.

وبالنظر إلى التكلفة المرتفعة لإحداث التوازن مع قوة مسيطرة، تصبح احتمالات النجاح ضعيفة، ذلك أن الدول الأقل قوة تلجأ ببساطة إلى السير فى ركب القوى العظمى الوحيدة أوعلى الأقل تتجنب استفزازها، وفى الحالة الأمريكية، فإن إحداث التوازن مع الولايات المتحدة يصبح غير محتمل ــ حسب المؤلف ــ لأن أمريكا تقع على مسافات بعيدة من القوى العظمى الأخرى، وفى سيناريو كهذا، يصبح الأكثر احتمالا هو نشوء محاولات للتوازن ضد القوة المحلية الأقوى داخل الإقليم، وليس التوازن ضد القوى العالمية العظمى، وقد تلجأ القوى الاقليمية المختلفة إلى منافسة بعضها البعض فى نيل دعم القوة العظمى الوحيدة، لأن الجغرافيا تجعل «المهيمن البعيد» حليفا مثاليا يملك من القوة ما يكفى للمساعدة ولكنه أيضا على مسافة بعيدة تمنعه من تشكيل تهديد مسيطر، والولايات المتحدة تتمتع اليوم بكلتى الخاصيتين، وهى قوى غالبة مسيطرة، وموقع جغرافى بعيد، فهى تمتلك من الثروة الاقتصادية ومن القوة العسكرية أكثر عدة مرات من أى دولة أخرى، وهى الدولة العظمى الوحيدة التى تقع فى النصف الغربى من العالم بينما ترتكز جميع القوى الأخرى فى «أورو آسيا» أى القارة الآسيوية الأوروبية، كما أن الولايات المتحدة لم تنقلب على نظام دولى سابق، بل على العكس، انهار النظام الدولى السابق عندما تفكك الاتحاد السوفييتى عام 1991.

ومنذ ذلك الحين، وسعت الولايات المتحدة من نطاق ومدى مؤسسات النظام الليبرالى الرئيسية، وأهمها حلف شمال الأطلسى (الناتو) ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد والبنك الدوليين، والأمم المتحدة، كما منعت الولايات المتحدة النظم المنافسة لها من الظهور عبر إطلاق مبادرات إقليمية تأكدت من خلالها أن الاتحاد الأوروبى لن يحل محل الناتو كمنظمة دفاع أوروبية، وبذلك أبقت على وجودها العسكرى المسيطر حول العالم.

ولهذا كله، فإن إحداث توازن من دول أخرى ضد الولايات المتحدة، سيكون مغامرة مكلفة تتطلب فرض ضرائب باهظة لتمويل إنفاق دفاعى هائل فى عصر يتباطأ فيه النمو الاقتصادى العالمى ويصعب تخيل وجود قادة سياسيين يستعجلون دفع هذه الفاتورة الباهظة.

التوازن العالمى
وفقا لـ«بارى بوزن» وهو خبير عسكرى فى معهد ماساتشوستس التكنولوجى، فإن الهيمنة الأمريكية ترتكز على ما يسمى بـ«قيادة المشاعات العالمية»، والمقصود بالمشاعات هنا، المياه الدولية والفضاء الخارجى والمجال الجوى فوق 15 ألف متر، على اعتبار أن الولايات المتحدة تتمتع تقريبا بحرية مطلقة من الحركة فى هذه المشاعات بل ويمكنها منع الدول الأخرى من التحرك بحرية فيها عبر التهديد بقطع خطوط الملاحة الدولية وقطع شبكات الاتصالات أيضا، ولهذا فإن تحقيق توازن عالمى يتحدى القيادة الأمريكية فى هذه المشاعات سوف يتطلب من أى دولة تدشين منصات قوية وضخمة تشمل حاملات طائرات وغواصات هجوم تعمل بالطاقة النووية، ومدمرات تحمل صواريخ موجهة وقواعد عسكرية تنتشر عبر البحار وطائرات إنذار وسيطرة وفرق قتالية محمولة جوا وأقمار صناعية وأسلحة مضادة للأقمار الصناعية، وكل هذه المنصات مكلفة للغاية لأنها تتطلب إنفاقا دفاعيا باهظا جدا.

ويشير المؤلف بيكلى إلى أن دولتين فقط انخرطتا فى زيادة الإنفاق الدفاعى بعد 1990 وهما روسيا والصين، لكن ترسانتهما العسكرية وتوقعات تحسنهما مستقبلا لا تزال ضعيفة، ولهذا فإن الفجوة فى القدرات العسكرية التى تفصل الولايات المتحدة عنهما لا تزال غير مسبوقة تاريخيا.

ففى القرن الـ 19، تمكنت فرنسا وروسيا والإمبراطورية النمساوية ــ المجرية من إحداث التوازن العسكرى مع بريطانيا والتى كانت مهيمنة على أجزاء من العالم وذلك عبر تسريع وزيادة الإنفاق العسكرى، كذلك فعل الاتحاد السوفييتى خلال الحرب الباردة لإحداث التوازن مع غريمته الولايات المتحدة، لكن الاستثمار الدفاعى الحالى للصين وروسيا مرتبط فقط بمتطلباتهما الأمنية قرب أراضى كل منهما، وهو فى كل الأحوال لا يقارن بالحالتين السابق ذكرهما لإحداث التوازن، بل إن محاولة روسيا إحداث قدر من التوازن فى محيطها الجغرافى عبر غزو جورجيا وضم القرم من أوكرانيا وتدخلها المباشر فى سوريا ومحاولة الاحتكاك بطائرات الناتو فوق بحر البلطيق والتهديد باستخدام أسلحة نووية إذا هاجمها الناتو، كل ذلك يراه محللون باعتباره محاولة لإعادة بعث قوة انهارت، ذلك أن الإنفاق الدفاعى الروسى الذى يبلغ 40 مليار دولار سنويا، لا يزال أقل من الأمريكى بمقدار 15 مرة، ومع خفض الميزانية الحكومية 7% عام 2017، و5% عام 2018 مع توقعات باستمرار خفضها فى السنوات القادمة، يصبح الانفاق الدفاعى الروسى فى حال تراجع مستمر.

التوازن الخارجى
لم يحدث أن شكلت مجموعة من الدول يوما تحالفا ضد الولايات المتحدة، فى حين أن 68 دولة تحالفت رسميا مع أمريكا، كما دخلت عشرات الدول الأخرى فى شراكات دفاعية معها، وتشمل شبكة التحالفات الأمريكية الحالية 25% من سكان الأرض وبما يمثل 75% من إجمالى الناتج المحلى العالمى وإجمالى الإنفاق الدفاعى العالمى، ولا توجد قوة عالمية كبرى فى التاريخ، حظيت بمثل هذه التحالفات، فى حين أن روسيا تحتفظ باتفاقيات دفاعية قليلة مع بعض دول الاتحاد السوفييتى السابق، ولا يوجد حليف للصين سوى كوريا الشمالية.

ويمثل غياب التحالفات المعادية للولايات المتحدة علامة فارقة، لأنها قطعت شوطا بعيدا فى مواجهة الدول الساعية إلى تحديها، وهى تحتفظ بقوات عسكرية فى كل بقاع العالم، وتستخدم القوة بشكل متكرر، وانخرطت فى أكثر من 60 صراعا عسكريا بين عامى 1991 و2018.

نظرة إلى المستقبل
هناك تحالفان يمكن أن يشكلا فى المستقبل تحديا للتفوق الأمريكى
الأول: تحالف أوروبى آسيوى تقوده روسيا والصين.
الثانى: دولة عظمى فى أوروبا الغربية تقوم على أكتاف الاتحاد الأوروبى.

لكن أيا من التحالفين ــ حسب «بيكلى» ــ ليس من المتوقع تشكيله، فالتحالف الأول يتطلب أن تجنب كل من روسيا والصين منافساتهما القديمة، وكبح جماح اليابان شرقا والهند جنوبا وحلف الناتو غربا، أما التحالف الثانى أى التحالف الأوروبى فسوف يتطلب إعادة انضمام بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبى مرة أخرى ومشاركة كل من بريطانيا وفرنسا سلاحهما النووى مع ألمانيا، وأن تقبل روسيا نشوء قوى عظمى أوروبية على بابها الغربى.

صحيح أن روسيا والصين تحتفظان حاليا بشراكة استراتيجية، لكن هذه العلاقة من غير المحتمل أن تفرز تحالفا حقيقيا بسبب رغبة كل منهما فى السيطرة على «يوروآسيا» بينما يتشاركان فى حدود طولها 2600 ميل، ولهذا يصعب تشكيل تحالف حقيقى بينهما إلا فى حال خضوع أحدهما للآخر.

ربما تتسبب كراهيتهما المشتركة للولايات المتحدة فى ابقائهما معا، لكن التاريخ يقول غير ذلك، ففى بداية الحرب الباردة اصطفت الصين إلى جوار الاتحاد السوفييتى، ولكن بحلول عام 1960 كان الحزبان الشيوعيان فى كل من البلدين فى حرب مع الآخر، وفى السبعينيات تحولت الصين للاصطفاف مع أمريكا.

والآن، يرى خبراء استراتيجيون روس وصينيون أنه من الخطأ الوثوق فى إخلاص الطرف الآخر لديمومة الشراكة بينهما، بل يرى البعض أن التعاون الروسى الصينى يقتصر على مجالات تتداخل فيها المصالح بين البلدين مثل دعم التجارة، فى حين أنه فى مناطق أخرى من العالم والتى تعنى الكثير لكل منهما، فإن صفة التنافس بينهما تطغى على كونهما حلفاء، فروسيا تبيع أسلحة إلى الصين، لكنها أخيرا خفضت من مبيعات الأسلحة للصين وزادت من مبيعات الأسلحة لخصوم الصين كالهند وفيتنام.

ورغم أن روسيا والصين تجريان مناورات عسكرية مشتركة بينهما، إلا أنهما تجريان مناورات مع دول أخرى على مواقف عدائية مع الطرف الآخر، فضلا عن إجراء كل منهما مناورات تحاكى حربا صينية ــ روسية.

وعلى الصعيد الاقتصادى تتقاسم روسيا والصين رغبة فى تطوير دول آسيا الوسطى، إلا أن روسيا ترغب فى ربط المنطقة بها عبر اتحاد اقتصادى يورو آسيوى، فى حين أن الصين تسعى إلى إحياء طريق الحرير بربط الصين بالشرق الأوسط مع أوروبا واستبعاد روسيا.

ولهذا وضعت تلك المصالح المتناقضة روسيا والصين على طريق يعظم ويسرع من حدة التنافس بينهما لا التحالف ضد الولايات المتحدة.

أما التحالف الأوروبى الذى قد يكون معاديا للولايات المتحدة، فقد شكلت دول الاتحاد الأوروبى منذ عام 1998 سياسة دفاعية وأمنية مشتركة وزادت من حجم قوة الانتشار السريع إلى 60 ألف جندى و18 مجموعة قتالية تتكون كل منها من 1500 جندى، وفى حين يرى البعض أن هذا يعد بمثابة توازن أوروبى ضد الولايات المتحدة، إلا أن دول الاتحاد خصصت أقل من 1% من قواتها العسكرية لهذه الوحدات وهو أقل بكثير مما تخصصه هذه الدول لتحالفها مع الناتو الذى تقوده أمريكا، كما أن القوات القتالية الأوروبية لم تنتشر قط ولم تشارك سوى فى مهام لحفظ السلام وبأعداد قليلة تصل إلى 3000 جندى.

توازن القوى الناعمة
قدرة الولايات المتحدة تشمل أيضا الوسائل غير العسكرية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو إعلامية، فمن الناحية الاقتصادية لم يحدث أن فرضت على أمريكا عقوبات ولكنها هى التى فرضت عقوبات على دول أخرى بلغت 46 مرة بما يعادل 60% من إجمالى العقوبات الاقتصادية منذ عام 1991، ونجحت العقوبات الأمريكية فى جعل الدول المستهدفة تنصاع إلى المطالب الأمريكية فى 40% من الحالات. ويرجع تفرد القوة الأمريكية هنا إلى أن الولايات المتحدة تلعب دورا مركزيا فى النظام المصرفى العالمى ونظم الشحن، فالبحرية الأمريكية، وتستطيع اعتراض أى عمليات شحن فى أى مكان من المياه الدولية، كما أن الدولار الأمريكى يستخدم بنسبة 80% من المعاملات المالية الدولية، ولأن معظم المعاملات المصرفية بالدولار تمر عبر النظام المالى الأمريكى، تتوافر لدى الحكومة الأمريكية فرص عظيمة تمكنها من تجميد الأصول وتنفيذ عقوبات ضد دول معادية لها. ويحاول خصوم واشنطن استخدام الاقتصاد كقوة ناعمة من خلال عدة خطوات مثل تطوير بدائل للنظام الاقتصادى الحر كما تفعل الصين وروسيا بتشجيع خلق سلة عملات دولية كى تحل محل الدولار الأمريكى الذى يعد عملة احتياط دولية، بحيث يكون ذلك نظاما للتعاملات المالية الدولية ينافس أو يستبدل نظام «سويفت» الخاص بالاتصالات المالية العالمية بين البنوك، وكذلك عبر تأسيس الصين بنك الاستثمار الآسيوى ليحد من النفوذ الاقتصادى الأمريكى عبر توفير بدائل مالية للدول الفقيرة بعيدا عن صندوق النقد والبنك الدوليين، وكذلك سعى الصين لتشكيل أكبر كتلة تجارية فى العالم من حيث عدد السكان تستبعد الولايات المتحدة منها، فضلا عن مبادرة الحزام والطريق.

ولا شك أن الزمن وحده سيثبت ما إذا كانت الصين ستنجح فى محاولاتها تقليص النفوذ الأمريكى، ولكن حتى هذه اللحظة ــ وكما يقول المؤلف ــ فإن المبادرات الصينية تواجه عراقيل، فالدولار أصبح أكثر نفوذا كعملة احتياط عالمية ولم تجد بكين وموسكو سوى قليل من المتعاونين لاستبدال نظام «سويفت».

وعلى صعيد استخدام القوى الناعمة السياسية، فإن هناك أشكالا متعددة، منها التدخل المباشر فى السياسات الداخلية للولايات المتحدة وبعض حلفائها، ويعترف «بيكلى» بأن الحاق الأذى الأكبر بفعل التدخلات الأجنبية يتمثل فى اعاقة ثقة الأميركيين فى حكومتهم ولهذا يشكل التخل الأجنبى خطرا داهما ومدمرا فى المستقبل. ويشير بيكلى إلى أن الدول الأخرى يمكن أن توازن نفوذها ضد الولايات المتحدة فيما أسماه الرئيس الصينى بـ«حرب مخاطبة العالم»، فالصين تنفق 10 مليارات دولار سنويا لتسويق المواقف والآراء المؤيدة للصين فيحين تنفق أمريكا 670 مليون دولار فقط للوصول إلى العالم الخارجى، كما تضخ الصين دعاية لها فى وسائل إعلام غربية وأسست أيضا بتمويل حكومى 500 من المعاهد الكونفوشيوسية فى 140 بلدا حول العالم منها 100 معهد فى الولايات المتحدة وحدها لتدريس اللغة والثقافة الصينية وهو ما يراه بعض الدارسين وسيلة لممارسة ضغوط وتبنى وجهات نظر معينة.

روسيا فى المقابل، ترعى مبادرات مماثلة، فأنشأت محطات تليفزيونية واذاعية دولية ومراكز بحث وتفكير فى واشنطن واستأجرت صحفيين لتقديم محتوى إلى مواقع أميركية على شبكة الإنترنت لتبنى وجهات نظر مؤيدة لروسيا.

ويقول المؤلف إنه من الصعب الجزم بأن المحاولات الصينية والروسية أدت إلى تآكل صورة ووضع أمريكا حول العالم، صحيح أن تأييد سكان العالم للولايات المتحدة تراجع من 64% عام 2016 إلى 49% عام 2017، إلا أن ذلك قد يكون بسبب الرئيس ترامب المختلف عليه عالميا وداخليا أكثر من كونه بسبب تأثير النفوذ الصينى، كما أن أمريكا تقاوم بشدة وفقا لباحثين آخرين اعتبروا أن الولايات المتحدة لا تزال اللاعب رقم واحد من حيث نفوذها كقوة ناعمة عبر مراكز البحوث والتفكير التى تروج لرؤية أمريكا، كما تمول واشنطن وسائل اعلام تستضيف منشقين روس وصينيين، وكل هذه الأمور تبنى تاريخا طويلا من التدخل الأميركى فى الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وكما يستشهد «بيكلى»، شنت الولايات المتحدة 72 عملية سياسية لإثارة أجواء عدم الاستقرار لنظم حكم أجنبية منها 66 عملية سرية. لكن الأكثر أهمية أن المجتمع المدنى الأمريكى من شركات ومؤسسات ناجحة وجامعات شهيرة فضلا عن التأثير الفنى والغنائى وغيره من قوى ناعمة، يساعد الولايات المتحدة على جذب شركاء أجانب إلى جوارها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved