«الروح المبدعة للإنسان العربي» تتوهج بين الشباب على طريق الفنانين الرواد
آخر تحديث: الأربعاء 13 مارس 2019 - 11:43 ص بتوقيت القاهرة
القاهرة - أ ش أ:
لعل "الروح المبدعة للإنسان العربي" تتجلى الآن في تلك الحالة من الزخم الفني والأفكار المبتكرة لجيل شاب من الفنانين في مصر والعالم العربي ككل فيما تتوهج إبداعات فنانين من الرواد مثل الفنان التشكيلي المصري الكبير حلمي التوني.
وإذا كان معرض "وش قهوة" الذي احتضنه "اتيليه القاهرة" مؤخرا قد لفت الأنظار للفنانة التشكيلية المصرية الشابة سارة مدحت التي عرضت نحو 40 لوحة مرسومة بالقهوة تعبر عن أطياف وتنويعات الحياة اليومية وبيوت قاهرية قديمة فان الفنان الأردني أحمد القرعان يثير اهتماما وتفاؤلا بالأفكار المبتكرة للمبدعين العرب في كل مكان.
والمصرية سارة مدحت التي لفتت أنظار صحف ووسائل إعلام شاركت من قبل "بلوحاتها لفن القهوة" في معرضين دوليين بالنمسا وبلجيكا، فضلا عن معارض جماعية في مصر قبل أن تقيم مؤخرا أول معرض فردي لهذا الفن في القاهرة بينما الأردني أحمد القرعان كان قد وقع منذ نحو عامين في "هوى الرسم بالقهوة" ليلفت بدوره أنظار صحف ووسائل إعلام بعضها في الغرب.
وهذا الفنان الأردني الذي كان قبل ذلك يعشق الرسم وفن الخط العربي بدأت قصته بدوره مع الرسم بالقهوة بمحض مصادفة شأنه شأن المصرية سارة مدحت عندما كان يحتسي فنجان قهوته الصباحي في مكتبه عام 2017 لتتحول "فناجين قهوته إلى لوحات" في قصة تتشابه كثيرا في "عامل الصدفة الذي حدا بالفنانة المصرية سارة مدحت".
ومع تميزه في "بورتريه فن القهوة ونجاحه في استخلاص درجات متعددة من مداد القهوة"، رسم القرعان عدة شخصيات شهيرة باستخدام القهوة ومن بينها "كوكب الشرق" أم كلثوم -الحاضرة في إبداعات المصرية سارة مدحت- والشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش والناشطة الفلسطينية عهد التميمي، فيما تبدو أعماله لافتة بتفاصيلها إلى مساحات صغيرة للغاية وأحيانا يستخدم الصحون والأقراط والقلادات للرسم عليها بالقهوة بينما تستخدم المصرية سارة مدحت في رسوماتها بالقهوة الخيش إلى جانب القماش والورق.
ولم ينس الأردني أحمد القرعان غرامه الأول بالخط العربي، فبات يغمس أقلاما خشبية في القهوة ليبدع بها لوحات في الخط العربي الذي درسه على يد العراقي الراحل خليل الزهاوي، فيما حق له وهو الذي حول "القهوة إلى فن" أن يردد دوما مقولة للشاعر محمود درويش حول القهوة باعتبارها "مرآة اليد وقراءة لكتاب النفس".
وتوضح الفنانة سارة مدحت التي تخرجت في كلية الفنون التطبيقية في جامعة حلوان عام 2008 أن العوامل الجوية كالرطوبة لا تنال من جودة وتفاصيل اللوحات المرسومة بالقهوة لأنها مصقولة بمادة مثبتة فيما يبدو حديثها عن القهوة بحبيباتها ورائحتها المنعشة ومذاقاتها اقرب للغزل فيما تشترك مع الفنان الأردني أحمد القرعان في التأكيد على العلاقة الوثيقة بين الفن التشكيلي والموسيقى.
وإن كان "معرض وش قهوة القاهري" أول معرض من نوعه في مصر لفن الرسم بالقهوة فالأمل أن يقام أكثر من معرض لهذا الفن الجديد لمبدعين عرب من أصحاب النزعات التجريبية الابتكارية كالمصرية سارة مدحت الأردني أحمد القرعان فيما يمكن بسهولة أن هذين الفنانين العربيين يشتركان معا في "التوظيف الفني الإبداعي للبن بكل تدرجاته وكأن فنجان القهوة قد تحول إلى باليتة الوان".
وقد لا تكون هذه الحالة الإبداعية المصرية وكذلك الحالة الإبداعية الأردنية منبتة الصلة بحالة مبدع عربي آخر في الجزائر الشقيقة وهو الفنان شمس الدين بلعربي الذي يعرف "بشمسو بلعربي" الذي يعبر بامتياز عن أصالة الإبداع وقد عرف في الغرب الأوروبي والأمريكي بلوحاته وصوره للمشاهير وكبار النجوم مثل بطل الملاكمة العالمي الراحل محمد علي كلاي والممثل البلجيكي الأصل والنجم الهوليوودي جان كلود فان دام ورائد الفضاء الكندي جيرمي هانسن.
وإذا كانت المصرية سارة مدحت تعتز بلوحات رسمتها بالقهوة لفنانين وفنانات من نجوم الفن في مصر والعالم العربي مثل عبدالحليم حافظ وأحمد رمزي ورشدي أباظة وحسين رياض وتحية كاريوكا وماري منيب وشادية وهند رستم وشويكار ونجلاء فتحي، فالجزائري شمس الدين بلعربي برع بدوره في رسم نجوم الفن في الغرب لتكون السينما بنجومها في الشرق والغرب ملهمة لهذين الفنانين في مصر والجزائر.
وبلعربي الذي ولد في 14 فبراير عام 1987 ببلدية "عين تادلس" في ولاية مستغانم غرب الجزائر كان قد أقام "محترفه الفني في غابة قريبة من بيت عائلته" ويصف حياته في هذا المحترف بأنها حياة فنية بغلالة صوفية" بينما لا يخفي اعتزازه برسائل من مشاهير ونجوم في الغرب تصل لهذا المحترف أو "الورشة الفنية في غابة جزائرية".
ويقول شمس الدين بلعربي لوكالة انباء الشرق الأوسط إنه منذ الطفولة وهو يرسم في كل وقت وعندما كان يعود من المدرسة للبيت يلتقط أي جرائد من الطريق ليرسم مافيها من صور وهو ما كان يفعله أيضا مع افيشات الأفلام السينمائية ولقطات يراها على الشاشة الكبيرة.
وإن عملت المصرية سارة مدحت لعدة سنوات في مجال الدعاية والإعلان، فالجزائري شمس الدين بلعربي الذي يقول إنه ينتمي أصلا لعائلة فقيرة ماديا، ومن ثم فقد سعى منذ سنوات الصبا لكسب الرزق بالانخراط في أنشطة الديكور، ويتذكر مبتسما أنه إذا كان البعض لم يمنحه حينئذ حقوقه المالية فإن الكثيرين مدوا له يد المساعدة والتشجيع فيما بادر بطموح مبكر بإرسال رسوماته لشركات إنتاج سينمائي في هوليوود.
ولعل صمود هذا الفنان الجزائري في مواجهة شدائد الحياة تعيد للأذهان قصة الفنان الراحل عبدالبديع عبدالحي الذي قضى منذ نحو عقد ونصف العقد وكان هذا النحات العظيم يحول إحباطاته وهمومه الحياتية كمواطن مصري بسيط وكادح إلى طاقة إبداع تتجلى في أعماله النحتية فيما يعد مثالا لمعنى "الفنان الفطري والإنسان المصري المبدع".
فقد تكون لحظة الألم هي الشرارة المحفزة لإعلان المبدع عن نفسه وتأكيد موهبته كما حدث مع الفنان الفطري المصري الراحل عبدالبديع عبدالحي عندما عامله أستاذ في كلية الفنون الجميلة بازدراء وتعامل معه بما لا يليق مصرا على أنه "مجرد عامل في الكلية وليس بفنان".
وجاء رفض هذا الفنان الكبير لتلك الإهانة ورده عليها عمليا عبر مجموعة أعمال فنية من النحت البارز والغائر أطلق عليها "الشكاوى" وكأنها "شكاوى الفلاح المصري القديم"، فيما قدر لعبدالبديع عبدالحي بعد ذلك أن ينطلق في إبداع أعماله المنفذة في الخامات شديدة الصلابة من أحجار الجرانيت والبازلت والديوريت.
ولئن راوحت حياة شيخ النحاتين عبدالبديع عبدالحي الذي قضى عن عمر يناهز الـ88 عاما بين الفن المبدع والمرض الأليم فإن الصفة الرئيسية في شخصيته كانت الصمود ومواجهة الشدائد ورفض تقديم أي تنازلات وحرصه على الجدارة والتفرد كفنان مصري أصيل وتفريغ شحنات غضبه في أعمال إبداعية تبقى شاهدة على علو القامة وشموخ الفنان عاشق الحجر الصلب.
ومن هنا، قال الناقد والمؤرخ الفني الراحل الدكتور صبحي الشاروني إن أعظم ما يميز أعمال عبدالبديع عبدالحي هو احترامه للخامة التي ينحت فيها تمثاله وعمق إحساسه بها حتى يشعر المشاهد بمدى تفاعله معها وحبه لها بما يشبه العشق فيما حق وصف يد هذا الفنان الذي بدأ حياته "طباخا" بأنها "اليد التي أنطقت الحجر".
أما الفنان التشكيلي المصري حسن سليمان الذي ولد عام 1928 وقضى عام 2008، فقال في كتابه "حرية الفنان" :"على الرغم من ان حياتي الفنية مملوءة بالصراعات والتغيرات وفرضت علي معارك حتمية حددت مسار حياتي، فإن الفن هو الملاذ الوحيد وكان صمودي هذا نتيجة تربية اعتمدت كثيرا على الثقافة".
فيما يتابع هذا الفنان العظيم القول في كتابه: "نأيت بنفسي عن كل مايستهلكني أو يضعني في صراع لاطائل منه وعلى الرغم من هذا فأنا الوم نفسي كثيرا إذ كان يجب أن أركز أكثر في عملي".
وها هو حسن سليمان يهمس لذاته قبل الآخرين عندما يقول: "لم أشعر بالغيرة قط من إنسان اغتنى أو حتى صنع صورة جيدة.لا أغير. لا أحقد. لا أتنافس على شيء من متاع الدنيا.. مثل هذه الأشياء إن أخذت بتلابيب الفنان فستعوقه أن يواجه السطح الأبيض الذي أمامه بكل حرية وبكل تركيز ولم يشغلني قط مايفعله الآخرون".
وكلمات رائد في الفن التشكيلي كحسن سليمان تنطوي على دروس لأجيال تالية من الفنانين العرب كالفنان الجزائري شمس الدين بلعربي الذي تلقى ثناء من متنفذين في شركات أمريكية للإنتاج السينمائي مثل الهولندي سالار زرزا وحظى بدعم المنتج والفنان المغربي الأصل محمد القيسي فيما يمكن ملاحظة أنه استفاد من مواقع التواصل الاجتماعي في عرض إبداعاته شأنه في ذلك شأن المصرية سارة مدحت والأردني أحمد القرعان.
وكل ذلك يثير حالة من التفاؤل حيال مستقبل الفن التشكيلي العربي وغيره من الفنون ويؤشر لاستجابات إبداعية عربية على مستوى التحديات الراهنة التي تواجه الإنسان العربي فيما تشهد بيروت حاليا معرضا فنيا دوليا بعنوان: "في الترانزيت" ويضم 300 لوحة لفنانين عرب وأجانب حول هموم اللاجئين والنازحين ليعبر هذا المعرض الذي افتتح أمس الأول الاثنين ويستمر حتى 24 مارس الجاري عن رؤى إبداعية بشأن قضية تؤرق الضمير العالمي بعد أن تفاقمت في العقد الأخير.
وفي الدورة الرابعة "لجائزة محمود كحيل" وهو الفنان اللبناني الراحل الذي أبدع في فن الكاريكاتير كان الفنان التشكيلي المصري الكبير حلمي التوني قد توج أمس الثلاثاء في احتفالية بالجامعة الأمريكية في بيروت بجائزة التكريم التي تحمل اسم "قاعة المشاهير لإنجازات العمر الفخرية".
ويتزامن هذا التكريم بجائزة فخرية مرموقة في بيروت مع معرض في القاهرة للفنان حلمي التوني بعنوان: "للنساء وجوه" ويستمر حتى 21 شهر مارس الجاري في "جاليري بيكاسو بالزمالك" ويضم 60 لوحة لوجوه النساء كما يراها هذا الفنان المصري الذي ولد في 30 أبريل عام 1964 وتعددت أنشطته الإبداعية مابين الفن التشكيلي ورسوم الكاريكاتير والجرافيك وتصميم الكتب والإخراج الفني للمجلات.
وفي مقابلة صحفية، قال حلمي التوني إنه يحب اللغة العربية ويختار عناوين معارضه بحرص "وأي معرض بالنسبة له مثل رواية أو قصيدة له عنوان وله موضوع"، معتبرا أن "الفن ابتكار واتقان والفنان دائما أمام تحد بألا يكرر نفسه".
وفيما يقول حلمي التوني إنه يحرص في أعماله الفنية "على مخاطبة ذكريات من يراها" فهذا التوجه يبدو واضحا أيضا في أعمال فنانة شابة مثل سارة مدحت التي تنبض لوحات رسمها بالقهوة بكثير من الذكريات فيما عملت أيضا كرسامة لكتب الأطفال التي أبدع فيها حلمي التوني صاحب المقولة الدالة: "الفن لكل الناس".
وإذ تتوالى الكتب الجديدة في الغرب عن فنانين بعضهم رحل منذ سنوات طويلة مثل ذلك الكتاب الجديد الذي صدر عن الفنانة السويسرية صوفي تاوبر-ارب التي قضت في مطلع عام 1943 وتعد من أبرز الفنانين التجريديين في القرن العشرين فإن وضع صورتها على عملات سويسرية يحمل مغزى واضحا بما فيه الكفاية حول مدى التقدير لفنانين نهضوا بأدوار طليعية في الثقافة الغربية وشكلوا علامات لأجيال تالية وهو ما يتبدي أيضا في الثقافة العربية.
فمسيرة الفنانين الكبار كحلمي التوني الذي كرم بالأمس في بيروت وبقية الرواد مثل الفنانين التشكيليين محمود سعيد وعبدالهادي الجزار ورمسيس يونان والأخوين سيف وأدهم وانلي وصلاح طاهر وصلاح عبدالكريم وتحية حليم وحسين بيكار وحسن سليمان ومنير كنعان وكلهم شكلوا كوكبة نادرة من المبدعين وجمع بعضهم مابين سحر الريشة والقلم تشكل علامات للأجيال الشابة من المبدعين العرب.. كأنه عناق الحكمة والأمل في رحلة الأجيال ومدارات الأيام وشراع الإبداع!.