جولة في «المراسلات السرية بين سعد زغلول وعبدالرحمن فهمي» (6): كواليس أول قرار بفصل أعضاء من الوفد

آخر تحديث: الأربعاء 13 مارس 2019 - 12:40 م بتوقيت القاهرة

حسام شورى:

بعد الاعتراف بالحماية الإنجليزية على مصر دب اليأس في نفوس بعض أعضاء الوفد ومستشاريه
«صدقي» و«أبو النصر» اعتقدا أن على الوفد السعي للتفاهم مع إنجلترا.. وعدم نشر فظائع حوادث نزلة الشوبك والعزيزية


تواصل «الشروق» على مدار شهر مارس عرض مجموعة من الكتب، الحديثة والقديمة، التي تروي جوانب مختلفة لتأريخ وتوثيق أحداث ثورة 1919 من الأسباب إلى المآلات.
وثاني كتاب نتجول بين صفحاته هو «دراسات في وثائق ثورة 1919»..«المراسلات السرية بين سعد زغلول وعبد الرحمن فهمي»، الذي يزيح الستار عن جانب خفي من نضال الوفد، ومن شخصية الزعيم سعد زغلول، وسكرتير اللجنة المركزية للوفد عبد الرحمن فهمي، وهو الجانب الذي لم يكن معروفًا حتى عثر الأستاذ الدكتور محمد أنيس على هذه المراسلات التي مكَن نشرها الباحثين من تركيب صورة تاريخية لثورة 1919 كان من المستحيل التوصل إليها من دون الاستعانة بهذه الوثائق.
بلغ عدد المراسلات السرية (مكتوبة بالحبر السري) المرسلة من سعد زغلول إلى عبد الرحمن فهمي 30 رسالة، من 23 يونيو 1919 إلى 28 أبريل 1920، كما بلغ عدد التي أرسلها فهمي لسعد 29 تقريرًا بدأت من 23 يوليو 1919 وحتى مايو 1920.
تناولت تلك المراسلات قضايا مهمة مثل (خروج إسماعيل صدقي ومحمود أبو النصر من الوفد، ومقاطعة لجنة ملنر، وحركة الأمراء، ووحدة عنصر الأمة والتكتل الأرستقراطي)؛ فكل تقرير كان يشمل مسائل متعددة.
وتقارير عبد الرحمن فهمي تشمل عرضا لأهم الأحداث العلنية والسرية التي كانت تدور في مصر؛ وكان يعطي من خلالها للوفد في باريس صورة عن الموقف في مصر، بينما كان سعد يعطي لعبد الرحمن فهمي رأي الوفد في كثير من المسائل التي تجري في مصر لتسير اللجنة المركزية للوفد على هديها.


الكتاب صدرت طبعته الأولى في عام 1963 للدكتور محمد أنيس (1921-1986) أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة، ومؤسس مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر (1967- 1975)، والرئيس الأول له، وهو المركز الذي قام تحت إشرافه بجمع شتات العديد من الوثائق المهمة، وأعادت دار الشروق نشر هذا الكتاب في 2019 ، ويقع في 242 صفحة، من القطع المتوسط.

• • • • • • 

كانت مسالة فصل إسماعيل صدقي ومحمود أبو النصر من الوفد في 24 يوليو 1919 من المسائل الغامضة، إلا أن المراسلات السرية بين عبدالرحمن فهمي وسعد زغلول كشفت كواليس هذه القضية بالتفصيل.

بعد اعتراف معاهدة فرساي بالحماية الإنجليزية على مصر بدأ اليأس يدب في نفوس بعض أعضاء الوفد ومستشاريه؛ حيث قدم مستشار الوفد عزيز منسي استقالته، وقال صراحة «لقد انتهت مهمة الوفد»، وكان حسين واصف يتفق معه في الرأي، حتى عندما عاد علي شعراوي إلى مصر لم يقل شيئا وانعزل بعد ذلك عن الوفد وعن كل عمل سياسي.

• بداية الأزمة
لكن أخطر خروج من الوفد كان لإسماعيل صدقي ومحمود أبو النصر؛ وأحدث خروجهما أزمة حادة كادت تعصف بمركز الوفد وبالوحدة الوطنية؛ والسبب الرئيسي في خروجهما اعتقادهما بأن الموقف بعد موافقة مؤتمر الصلح على الحماية البريطانية على مصر يحتم على الوفد أن يسعى للتفاهم مع إنجلترا؛ فمن الواجب- في رأيهما- أن يسعى الوفد لمفاوضة لجنة ملنر، بعدما أعلنت بريطانا إيفادها، في دائرة الحكم الذاتي.
أما الأزمة المباشرة التي حدثت بين أعضاء الوفد والعضوين كانت بسبب موضوع نشر فظائع القوات العسكرية البريطانية في مصر في حوادث نزلة الشوبك والعزيزية التي وصلت إلى الوفد كاملة من عبد الرحمن فهمي مدعمة بالصور والمستندات التي نشرها الوفد في العالم.

• خلاف وجهات النظر
وكان لإسماعيل صدقي ومحمود أبو النصر وجهة نظر في ذلك واعترضا على هذا النشر؛ إذ رأيا أن ذلك لا يتفق مع مصلحة الأمة المصرية ولا مع مهمة الوفد، وأوضح ذلك محمود أبو النصر في خطاب أرسله إلى سعد زغلول في 30 يونيو 1919 يقول فيه: «أما إنه لا يتفق مع مصلحة الأمة فلأنها لا تستفيد منه سوى توسيع الهوة بينها وبين الدولة البريطانية وإثارة أضغان رجال السياسة ورجال الجيش عليها، ورمي بنا مؤتمر السلام في مخالب الدول على الرغم منا..إذا كان نحس الطالع قد قضي على أمتنا التعيسة بأن تقف وحدها إزاء تلك الدولة العاتية وجها لوجه وقضي بأن تقف هي موقف القابض على زمام أمورنا والتصرف في شئون بلادنا قوة واقتدارا، فهل من المصلحة وحسن التدبير أن نجاهرهم بالعداء وأن نعمل على توسيع الهوة بيننا وبينهم في الوقت الذي نرى جيشهم متغلغلا في أنحاء البلاد ولابد أن تأخذه العزه بالإثم إذا نحن عملنا على التشهير به والطعن في شرفه فيحمل على الأمة حملاته الشعواء إنتقاما لنفسه من حملة وفدها عليه».

• الانقسام وقرار الفصل
وبالفعل رفض الوفد الأخذ بوجهة النظر هذه ونشر الفظائع البريطانية في مصر على العالم. وتخلف إسماعيل صدقي ومحمود أبو النصر عن اجتماعات الوفد. فما كان من الوفد إلا أن قرر فصلهما في 24 يوليو 1919.
وعادا إلى مصر دون أن يكون هناك وضوح كامل في دوائر الرأي العام المصري لما حدث. وانقسمت اللجنة المركزية في القاهرة بشأنهما انقساما خطيرًا، وطلبت اللجنة من الوفد أن يعيد النظر في قراره بشأن فصلهما بعد أن أعلنا أنهما لم يخرجا على مبدأ الوفد وخطته، ولكن سعد زغلول أصر على موقفه بفصلهما.

• تفسيرين للموقف
وتقدم الرسائل تفسيرين لمسلك إسماعيل صدقي ومحمود أبو النصر، أحدهما يقدمه عبد الرحمن فهمي في خطابه لسعد زغلول في 10 أغسطس 1919، ويقول فيه: «من مدة كنت علمت أن شخصا يدعى مصطفى طليمات المحامي بالإسكندرية أوفده سعيد باشا (رئيس الوزراء آنذاك وكان يمثل خطرًا شديدا على الوفد) إلى أوربا لمقابلة صدقي باشا، ويؤكدون أن سبب المقابلة هي استمالة هذا الأخير للعودة إلى مصر بوعود ليست معروفة».
ولكن سعد زغلول يقدم تفسيرًا آخر ذكره في خطابه لعبد الرحمن فهمي في 24 أغسطس 1919 قال فيه: «يحسن أن نخبركم بأن رجلا يدعى صباغ كان موظفًا عند المرحوم البرنس حسن ويظهر أنه مخبر للإنجليز في باريس عرض وساطته بيننا وبين المستر بلفور ورغبني أن أزور هذا الأخير بأن أترك له ورقة زيارة وأطلب في الوقت نفسه بواسطة سكرتير الوفد مقابلته، وذلك عقب أن قرر المؤتمر شروط الصلح التي تضمنت ما تعلمونه عن المسألة المصرية، وكان هذا باتفاق بينه وبين إسماعيل صدقي باشا وحسين واصف باشا على غير علم منا.

• ارتياب أدى للفصل
«فلعدم الثقة بهذا الرجل ولارتيابنا في هذا الاتفاق وعدم الوقوف على السر فيه، ولأن مقابلة مثل هذا الوزير عقب مؤتمر الصلح لا يتفق مع طلب الاستقلال التام، وحفظا لمبدأ الوفد وكرامة الأمة قرر الوفد رد هذه الوساطة.
«ومن هذا الحين غضب إسماعيل صدقي وصار يبذل جهد في عرقلة مساعي الوفد، حتى اضطر الوفد أن يخفي عليه أكثر أعماله خشية أن تذاع بمعرفته ومعرفة محمود أبو النصر الذي كان شريكا له في جميع هذه التصرفات.

• فرصة أخيرة
كما كتب فهمى لسعد زغلول في رسالة بتاريخ 18 أغسطس يقول: «أخبرتكم بجوابى المؤرخ في 15 الجارى نمرة 15 عن المسعى الذي يبذله كل من إسماعيل صدقى ومحمود أبوالنصر، لقد اجتمعت لجنتنا عدة اجتماعات للنظر في آخر اقتراح تقدم منهما والذي جاء فيه: أن يقدما اعترافًا للجنة بأنهما لم يخالفا الوفد في مبدأه وأنهما يحترمان قرارته (وما أرادا أن يقولا أنهما يقران الفود في خطته)، وفي مقابل هذا الاعتراف تقوم اللجنة بـ (إخبار الوفد تلغرافيا بطلب إعادة النظر في أمر فصلهما، وأن يتبع هذا التلغراف جواب من اللجنة بتفصيلات ماحصل، وأن لا يذكر في الجرائد شيء بخصوصهما قبل الاتفاق معهما).

• «سياسة العواطف تغلبت على سياسة المصلحة»

«ولما كان توقفهما عن الاعتراف بموافقة الوفد على خطته مع أنهما يصرحان بأن الخطة نتيجة من نتائج قرارات الوفد وأنهما يحترمان هذه القرارات. رغما من اعترافهما هذا لم يقبلا أن يعترفا بصراحة بعدم مخالفتهما للوفد في خطته، وهو النص الذي ورد في قرار الوفد القاضى بفصلهما لما لم يقبلا جاء بخاطرى أنهما يريدان أن يلعبا لعبة سياسية، بمعنى أنهما يعترفان الآن باحترام قرارات الوفد، ويتركان باب انتقاد الخطة وهى تنفذ القرارات مفتوحا لهما، فعارضت بشدة في قبول اقتراحهما، وأجمعت الأغلبية معى، وبذلك رفض اقتراحهما رفضا باتا بعد جدل طويل.

«وبعد ذلك طلبت من اللجنة أن تقرر نشر قرار الوفد بصفة رسمية بالجرائد، لأن في ذلك قتلهما حسبما هو ظاهر لى من شعور الأمة نحوهما، وهنا أتأسف غاية الأسف على أن سياسة العواطف تغلبت على سياسة المصلحة، ورأت الأغلبية الاكتفاء بما نشرته جريدة النظام بخصوص فصلهما، وهنا يجدر بى أن أعرف سعادتكم أن الرأى العام المصرى ساخط أشد السخط عليهما، ولقد صدرت في حقهما بعض النشرات غير ممضاة أسقطتهما إلى الدرك الأسفل. وإني أؤكد لكم أنهما إذا كانا يعلمان أن شعور الأمة هكذا ما كانا جازفا بعمل ما كان من شأنه انفصالهما عن الوفد».

وغدا حلقة جديدة...

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved