بيت العيلة.. مكان وزمان وبشر

آخر تحديث: الأحد 13 مايو 2012 - 4:35 م بتوقيت القاهرة
دينا درويش

ما زال قصر سراج بحى جاردن سيتى العريق يستقبل أفراد العائلة فى مناسبات العرس والعزاء. يتعاقد ورثة البيت ـ البالغ عددهم أربعين ـ مع شركة متخصصة لتنظيفه كى يسترجعوا من سندرة الذكريات ليلة من ليالى زمان. تلك الأيام يتردد صداها فى ذاكرة الدكتور مصطفى سراج الدين الذى يمثل الجيل الثالث للعائلة، فيحكى عندما كان فى الخامسة من عمره وارتدى بدلة «اسمونكج» بمناسبة حفل زفاف نائلة، ابنة عمه فؤاد باشا سراج الدين، الذى يعتبر أول عرس يقام فى القصر منذ أن انتقلت اليه العائلة عام 1928. ويقول: «احتفلنا منذ عامين تقريبا فى القصر بخطبة صغرى بنات عمى ياسين، وحرصنا أن تكون مراسم الاحتفال مماثلة إلى حد كبير لما جرت عليه تقاليد العائلة فى عصرها الذهبى». الدكتور مصطفى سراج الدين مصطفى، الذى دخل عقده الستين، عاش فى هذا القصر حتى سن السادسة عشرة وعاد مؤخرا من الولايات المتحدة كى يتابع تطور قضايا الحراسة.

 

مجرد التجول داخل ردهات القصر هى بمثابة إزالة الأتربة عن حقبة مهمة فى تاريخ مصر تشابكت خلالها حياة ثلاثة أجيال من العائلة مع الأحداث السياسية المهمة فى تاريخ البلاد. داخل الجراج يحتفظ حفيد فؤاد باشا سراج الدين بسيارته الكاديلاك البيضاء التى حملها «الوفديون» المخلصون خلال خطاب وطنى ملتهب بالإسكندرية بعد عودة حزب الوفد للحياة السياسية، عقب سنوات من التجميد السياسى والاعتقال فى الحقبة الناصرية. نوافذ القصر الزجاجية العالية تبدو بدورها شاهدة على العصر. فقد تهشمت ذات مرة أثناء محاولة لاغتيال النحاس باشا الذى كان يقطن فى القصر المقابل قبل أن يشتريه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. ثريات تتدلى من علٍ يرجع تاريخها لأكثر من مائة عام لتضىء الأعمدة المرمرية التى جلبت خصيصا من منجم واحد بإيطاليا حتى تكون من نفس لون المدفأة التى اعتمدت لأول مرة فى مصر على نظام التدفئة المركزية عبر وصلات أسفل أرضية القصر. أما مصاعد الطعام والأفراد داخل القصر فقد صممها المهندس السويسرى ـ ألفريد شندلير. يروى الدكتور مصطفى: «القصر فى الواقع منجم للتاريخ والذكريات، فكل ركن من أركانه يحكى حكاية بشر ويدل على نمط حياة فى عصر ولى. وعلى الرغم من أن للقصر مكانة كبيرة لدى أفراد العائلة لكننا قمنا بعرضه للبيع أكثر من مرة، فلا يوجد واحد من أفراد العائلة يستطيع شراءه أو الإنفاق على صيانته أو استئجاره، لأن تكاليف المعيشة عالية جدا ولا تتناسب مع طبيعة الحياة اليوم. فقد كان لدينا فيما سبق حوالى 6 سفرجية و6 سائقين، بينما تتولى خدمة كل سيدة تعيش فى البيت وصيفة مخصصة لها، فضلا عن عدد من الطهاة يعدون الطعام لأكثر من مائة شخص يوميا، لا سيما وأن البيت كان مفتوحا للساسة وموظفى الدائرة بكفر الشيخ وغيرهما من الزوار الذين كانوا يترددون على البيت بشكل منتظم».

 

أما الكاتبة سامية سراج الدين فتقص فى روايتها «بيت العائلة» (عن دار الشروق، 2009) أن أكثر ما تفتقده هو هذه الأيام الطيبة التى ولت بلا رجعة لأن طبيعة الحياة فى بيت مفتوح للكافة تجعل هناك سهولة للترحيب بالضيف، فى أى وقت من أوقات اليوم، موضحة فى كتابها: «كنا نفترض أن الضيف الذى يهبط علينا فجأة سيبقى معنا للغذاء أو كنا نطلب منه أو بالأحرى نلح عليه. ربما تكون قواعد الاتيكيت التى نتبعها عالمية بصورة أو بأخرى، ولكن روح إكرام الضيف كانت بدرجة لا تبارى، وكأن شأننا فيها شأن أهل الريف الذى نشترك معهم فى أصولنا». 

 

يرجع تاريخ تأسيس هذا القصر إلى العام 1908 عندما شيده كارل بيرليه، الاقتصادى الألمانى ذو الأصول الفرنسية، كل ركن من الأركان تزاوج بين طراز «الجوتيك» السائد فى كنائس ألمانيا القديمة وطراز الملك لويس السادس عشر الفرنسى. وقد عهد بيرليه ـ مؤسس البنك العقارى والذى أراد أن يستقر فى مصر ـ بتشييد القصر إلى المهندس الايطالى كارلو برونبلينى الذى استجلب مهرة الحرفيين من الأسطوات الأرمن واليونانيين والإيطاليين لمعاونة العمال المصريين. لكن بيرليه الذى عشق مصر توفى بعد دخول القصر بأسبوع، فقامت ابنتاه بتأجير المسكن للسفارة الألمانية.

 

ويبدو أن الحراسة كانت نصيب القصر لفترات طويلة من تاريخه، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى وضع البيت تحت الحراسة لأول مرة ضمن أملاك الحكومة الألمانية. وبعد اتفاقية فرساى عام 1919، تم بيعه لسيدة سويدية، أقامت به مدرسة داخلية وقام الكاتب سمير رأفت بنشر صورة تلميذات هذه المدرسة على غلاف إحدى المجلات التى سجلت مرحلة من عمر القصر. لكن سرعان ما أفلست المدرسة لأن أولاد الذوات كانوا يفضلون إرسال بناتهم لمدرسة الميردى ديو الداخلية التى تقع على بعد خطوات من القصر. ثم اشترته أسرة سراج الدين باشا فى نهاية عشرينيات القرن الماضى. واختار بعض أبنائه الثمانية الزواج والاستقرار بواحد من أجنحته الأربعة، بينما اختار آخرون الاستقلال خارج نطاق القصر وإن ظل فؤاد سراج الدين باشا مقيما به حتى مماته، رغم ظروف الحراسة. بل وتغيرت الأدوار، فتحول الباشا من وزير للداخلية إلى معتقل سياسى، ثم رئيس أكبر حزب معارض يجمع توكيلات لتأسيس حزب الوفد الجديد عام 1979. يقول إبراهيم، حارس القصر: «كثيرا ما كنت أسمع من الحراس بالمنطقة أن القصر ظل لحقب طويلة مركزا يدور فى فلكه رواد المنطقة والأحياء المجاورة، وكثيرا ما كان يتم تقديم خدمات مختلفة للناس من هذا القصر حتى بعد الثورة».

 

كان البيت أيضا بمثابة همزة الوصل التى ربطت بين أبناء وأحفاد سراج الدين الذين وحدتهم محنة التأميم والحراسة كستين أسرة مصرية أخرى. فقد بدأت العائلة تبيع مقتنيات القصر من صينى وأطقم فضية وغيرها من أجل التعايش مع الوضع الجديد. يضيف الدكتور مصطفى: «لقد أصبح علينا أن نواجه الحياة بـ75 جنيها فى الشهر، فكنا نبيع أطقم الصينى التى كان يصل عددها إلى 48 على شكل دستة من 12 قطعة، وبهذه الطريقة استطاع أهلنا أن يعلمونا كى نتمكن من تغيير وضعنا». وكما كان القصر يعج بالزوار قبيل ثورة يوليو 52 أصبحوا يتجنبون ارتياده خوفا من بطش المخابرات، أما اليوم فقد صار البيت هو المكان الذى يجتمع فيه أبناء العائلة من الجيل الرابع الذى نشأ معظمه فى المهجر، بعد رحيل العديد من أصحاب القصر خلال العصر الناصرى. يستطرد الدكتور مصطفى سراج الدين: «سنشترط على من يشترى القصر ألا يغير من طبيعته المعمارية ولا من طرازه الخارجى أو الداخلى، وبما أن ذلك غير مضمون فنحن بصدد إجراء مقابلة خاصة لأى مشتر، نستشف منها نواياه الحقيقية».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved