86 عاما من المعاناة والجري وراء الأمل: بهاء طاهر تغريبة وطن لا يزال يبحث عن ذاته

آخر تحديث: السبت 16 يناير 2021 - 12:27 ص بتوقيت القاهرة

شيماء شناوى

♦ قضى سنواته الأولى بين صفارات الإنذار وأصوات الغارات والشعور الدائم بالخطر
♦ جسد فى «شرق النخيل» حالة القلق الاجتماعى التى عاشتها مصر بعد هزيمة 1967
♦ «أنا الملك جئت» هى الرواية الأقرب لقلبه كتبها كمسعى لفهم ما هو غامض فى الحياة
♦ كتب «خالتى صفية والدير» بعد 15عاما من مغادرة مصر خوفًا من تنامى التيارات المتشددة
♦ قدم ثلاثية نجيب محفوظ فى عمل درامى لأول مرة
♦ حولت أغلب مؤلفاته إلى أعمال درامية وسينمائية ومسرحية وبعضها أُنتج فى هذه الوسائل مجتمعة
♦ يحلم أن تعود للثقافة قيمتها فى المجتمع وأن يستأنف المثقفون مشروع الطهطاوى التنويرى

«كتابات بهاء طاهر من هذه الكتابات الهامسة التى تنساب إليك فى هدوء آسر بليغ، وتربِّت على مشاعرك فى نعومة ورقة مهما بلغت حدتها الدرامية وعمقها الدلالى. إنه قصاص شاعر متصوف تفيض شاعريته وصوفيته برؤية إنسانية حارة تُغريك برومانسيتها الظاهرة عما وراءها من حكمة وعقلانية وإحساس عميق بالمسئولية والالتزام». هذا ما قاله الكاتب الكبير محمود أمين العالم عن بهاء طاهر الأديب الكبير، الذى تمر هذا الأسبوع ذكرى ميلاده الـ86.

قضى «طاهر» سنواته الأولى بين صفارات الإنذار وأصوات الغارات والشعور الدائم بالخطر، كبر الطفل ليواجه مصيرا آخر ليس فيه حرب عالمية بل هزيمة تلتها سلسلة حروب مصرية، وحرب أخرى يقف وحيدًا فى جبهتها ضد معركة أُقحم فيها بعد اتهامات تلاحقه بالانتماء إلى الشيوعية، واختيارات محدودة أفضلها كان الغربة الإجبارية.

فى 13 يناير 1935، ولد بهاء طاهر، الذى بدأ شغفه بالأدب والتاريخ منذ الصغر، وفى المرحلة الثانوية رأس الجمعية التاريخية بمدرسة السعيدية، وأقام أول ندوة بعنوان «مذبحة المماليك» انتقد خلالها ما فعله محمد على باشا آنذاك، فى وقت كانت مصر لا تزال تحت لواء النظام الملكى.

فيما بعد سرد «طاهر» فصولا من تاريخ وطنه بأحداثه السياسية والاجتماعية والاقتصادية عبر مؤلفاته المختلفة. ففى مجموعته القصصية الأولى «الخطوبة» تناول قصة الإنسان الذى يحاول التعبير عن نفسه فيواجه بالقمع، ليرصد من خلال هذه القصة «القمع» كإحدى السمات السائدة فى حقبة الستينيات، اتبعها بالمجموعة القصصية «بالأمس حلمت بك»، وفيها سلط الضوء على معاناة العرب فى الغرب من عنصرية وإحساس بالوحدة والغربة، والرفض أيضًا متمثلًا فى قصة شخصية الراوى البطل، وشخصية البطلة الشابة الأوربية الشقراء «آن مارى».

ربع قرن تقريبًا قضاها بهاء طاهر فى تغريبة إجبارية بدأت فى منتصف السبعينيات كتب عنها يقول: «أعرف أننى انتزعت كانتزاع الزرع من الغيطان عندما غادرت مصر، غادرتها وارتحلت بين أكثر من دولة، قضيت قرابة العشر سنوات ما بين باريس وروما ونيروبى وغيرها.. وبعد أن دُرت عبر العالم، استقر بى الحال فى جنيف مترجمًا للعربية فى الأمم المتحدة، ولمدة اثنى عشر عامًا متتابعة».

هناك فى جنيف التقى بالسويسرية «ستيفكا أنا ستاسوفا»، الحبيبة والزوجة التى كانت أفضل ما منحته الغربة إياه: «أحببتها حبًا صامتًا، كحب الشمس للشروق، لكننى كنت بائسًا فى هذه الفترة، وكل شىء يغلّ لسانى، وكانت جميلة، كجمال بريق ضوء القمر.. لم يطرأ على بالى أن أنزلق، كنت أعتبر أن اقتحام قلب امرأة فى هذا التوقيت بالتحديد لا يعدو أكثر من انزلاق برىء، رغم براءته لم أمل إليه». لكن «ستيفكا» قالت له بعد ذلك إنها رأت فى عينيه الحب. أنا مؤمنة بقضيتى معك، وسأفوز بها بهاء»

غياب بهاء طاهر عن الوطن كان ابتعادًا جسديًا فقط، إذ ظل على تواصل مع كل الأحداث التى تمر بمصر والوطن العربى.
ففى روايته «شرق النخيل» الصادرة عن دار الشروق، جسد حالة القلق الاجتماعى التى عاشتها مصر بعد هزيمة 1967 وما تبع ذلك من أشكال مقاومة وصراع امتد إلى من عصر «ناصر» إلى «السادات» وحالة الاستنفار والكر والفر بين الطلاب والمواطنين المطالبة بدق طبول الحرب ومراوغة السلطة فى تحديد ميعاد خوضها. وذلك من خلال أحداث القصة التى تدور فى بيئة صعيدية عن صراع على قطعة أرض ما بين أصحاب الحق والمغتصبين له، ليتضح لكل من يقرأ الرواية تطابق الشبه بين أرض المؤلف وأرض سيناء.

بعد غياب 10 سنوات عن مصر، كتب طاهر روايته «قالت ضحى»، التى صدرت عن دار الشروق، وعاد بها إلى أقدم الأساطير الفرعونية «إيزيس وأوزوريس»، فى محاولة منه للإجابة على سؤال لماذا حدث ما حدث فى فترة الستينيات، وكيف يمكن أن تحطم الأحلام على صخور الواقع، والرواية تسلط الضوء على أحداث واقعية منها حرب اليمن والاشتراكية وعوامل الفساد التى كانت تنخر فى بناء كان يبدو من الخارج شديد التماسك والصلابة. «الظلم.. لا يبيد.. ما الحل؟ أن تحدث ثورة على الظلم؟».

تبقى المجموعة القصصية «أنا الملك جئت» الصادرة عن دار الشروق، هى الأقرب لقلب بهاء طاهر كما يقر هو ذلك، ويرى أنه كتبها كمسعى لفهم ما هو غامض فى الحياة. فمن خلال حدث قصصى قائم على علاقة غرامية تربط طبيب عيون بارز بفتاة غربية شديدة الرقة والعذوبة، قبل أن تُصاب بمرض عقلى تنقل على إثره إلى مصحة أمراض نفسية، ليشعر البطل بأن حياته انتهت، ويقرر أن يغرق فى العمل، وبرغم ما وصل إليه من شهرة يكتشف أن الغرق فى العمل ليس عزاءً بل عليه أن يبحث عن معنى آخر لوجوده ليس فى العمل بل فى البحث، ولذا يخرج إلى الصحراء وهناك يسأل نفسه هل خرج ليبحث عن شيء فى الخارج أم أن ما يبحث عنه داخل نفسه.

يقول بهاء طاهر إن رواية «خالتى صفية والدير» والتى كتبها بعد خمسة عشر عاما من تركه لمصر، ويتناول فيها العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، هى نتاج خيال صافٍ ليس فيها أى وقائع حقيقية حدثت فى القرية، وإنما كتبها كتنبؤ وخوف من أن يمس النسيج العام للمصريين بأذى فى ظل تنامى التيارات الدينية المتشددة فى ذلك الوقت من حقبة السبعينيات.

ارتباط بهاء طاهر بالإذاعة المصرية جاء فى مرحلة مبكرة من عمره، حيث اعتاد الاستماع إليها من خلال صوت عميد الأدب العربى طه حسين، ثم أصبح من تلاميذ مدرسة الإذاعة الثقافية، قبل أن يبدأ عمله فى البرنامج الثانى الثقافى، وقدم مع زملائه مجموعة كبيرة من روائع المسرح العالمى ومؤلفات أعلام المسرح العربى ومنها ثلاثية الأديب نجيب محفوظ، حيث قام بإخراجها لتكون المرة الأولى التى يتم فيها إنتاج الثلاثية بشكل درامى.
حظيت أغلب مؤلفات بهاء طاهر بفرصة تحويلها إلى أعمال درامية وسينمائية ومسرحية، وبعضها تم إنتاجه فى هذه الوسائل مجتمعة، ومنها رواية «خالتى صفية والدير» والتى نُفذت كمسلسل تلفزيونى ومن قبله مسلسل إذاعى، ثم تحويلها إلى عمل مسرحى من إنتاج البيت الفنى للمسرح. كذلك نالت روايته «واحة الغروب»، فرصة إنتاجها كمسلسل إذاعى 2002، قبل إنتاجها كمسلسل تلفزيونى 2017، فيما اختارت الإذاعة المصرية تحويل روايته «قالت ضحى» إلى مسرحية تُذاع عبر موجات شبكة البرنامج الثقافى، كذلك حظيت قصته «بيت الجمالية» بالإنتاج كمسلسل تلفزيونى 1996.
لم يتنازل «طاهر» فى حياته يومًا عن دوره كمثقف، ظل متمسكًا بالقلم كسلاح وحيد لفارس رأى وسمع وخبر من الزمان ما يمكنه من إبداء الرأى بكثير من الحكمة والتروى إزاء أغلب القضايا المجتمعية، وكان آخرها ثورة يناير والتى أرخ لها من خلال عدة مقالات تضمنها كتابه عن دار دون «أيام الأمل والحيرة»، ومن خلاله قدم رصدًا لصورة الوضع المصرى الداخلى إبان ثورة 25 يناير والسنوات التى تلاتها وحالة التخبط والارتباك التى سيطرت على الشارع المصرى آنذاك، مسلطًا الضوء على الدور البطولى للشباب المصرى فى تغير مسار الأحداث، وكيف أصبحت بطولتهم وقصص الشهداء منهم أيقونة لثورة أدهشت العالم.

وبالرغم من أن «طاهر» أحد أبرز وجوه النخبة المصرية والعربية إلا أنه لم يغض البصر عن مساوئ تلك النخبة من المثقفين ويرى أن الكاتب لا يجب أن يكتب من برج عاجى، بل يتأثر بشدة بالمجتمع والبيئة المحيطة به، ويسعى سواء عن وعى أو غير وعى لأن يكون ما يكتبه وسيلة لإحداث تأثير فى هذا الواقع، وحين سُئل فى حوار تلفزيونى أجراه معه الإعلامى محمد الدسوقى رشدى 2013، حول تأثير النخبة فى الوقت الراهن أجاب: «نخبة متشرذمة لا تجتمع على موقف ورأى واحد، وهذا جعل تأثيرها ضعيفا فى المجتمع»، مشيرًا إلى أن قضية مثل تجديد الخطاب الدينى التى يتبناها عدد من المثقفين، ينبغى أن يتم تناولها بالكثير من الحرص والعناية «أنت تتعامل مع مجتمع نسبة الوعى لديه محدودة، فلابد من تناول المسار بالكثير من الحرص والحذر والرقى، وإلا خّلق هذا التناول الكثير من المشاكل».

حين سئل «طاهر» عن أهم حلم له قال: «أن يعود للثقافة قيمتها فى المجتمع، وأن يكون لدى المثقفين العزم على استئناف المشروع الذى بدأ مع رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وقاسم أمين، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم ممن صنعوا المشروع الثقافى العظيم فى مصر، وأن تلقى الثقافة من مؤسسات المجتمع الاهتمام الذى يتيح لها تأدية دورها فى النهوض بالمجتمع وتقدمه».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved