هل حقا كل بدعة ضلالة؟.. الدين يجيب

آخر تحديث: الخميس 16 مايو 2019 - 10:21 ص بتوقيت القاهرة

عرض ــ محمود هاشم:

العبادات التى كلفنا بها أمور جاءنا العلم بها من الشارع وحده، فلو لم ينزل بها وحى ما اهتدينا إليها، ولا فعلناها على هذا النحو الرتيب المبين الذى فصله الشارع.
فالصلوات الخمس، وأعداد ركعاتها، وأوقات إقامتها، وهيئات أدائها، تلك كلها أمور انفرد الدين بتشريعها، وهى وسائر المتعبدات الأخرى لا مدخل للعقل فى افتراضها هكذا كما وكيفا.
فى كتابه «ليس من الإسلام»، يرى محمد الغزالى أننا قد ندرك وجه الحكمة فى كثير من الطاعات المطلوبة، إلا أن ذلك لا يعنى استقلال العقل بالحكم، والنظر فى الأمور العبادية جملة وتفصيلا، بل مرد ذلك النقل المجرد عن عالم الغيب والشهادة، أما الشئون العادية فلها وضع آخر فى الحياة، إذ للعقل والتجربة مجالات واسعة فيها.
إنها موجودة قبل مجىء الدين، وقد تسير بعيدة عن هديه، وقد تلزم الحدود والآداب التى يسنها لها، ويوصى المؤمنين بالتزامها، فالمسلمون وغيرهم يأكلون ويشربون ويتناكحون، ويتعاملون بالبيع والشراء، ويضعون نظما شتى لحراسة الأمن وتنظيم العمران وسياسة الدولة، إلخ.
ولو أن دائرة الدين وقفت عند مراسيم العبادات التى لا اجتهاد للعقل بإزائها، وتركت الإنسان بعدئذ حرا فى التشريع لأموره العادية، لكان طريقا مبتسرا إلى الكمال، فلا غرو أن استن الإسلام للشئون العادية قوانين شتى، وجعل إنفاذها من تقوى القلوب، ففى الزواج شرع ألا تنكح المرأة فى عدتها، ولا تنكح مطلقها ثلاثا، وهناك محارم لا يصح نكاحهن البتة، كما أجاز للمسلم الزواج من أهل الكتاب، وفى البيع، شرع الإسلام لمنع الغرر والاحتكار والربا والغش.
ولا يضع الإسلام قيودا فى العاديات، ولا يبالى فيها باتباع أو ابتداع، بل يصح أن يساق فيها النص المحفوظ «أنتم أعلم بشئون دنياكم»، حيث يرسمها الشارع فى حدود تضيق أو تتسع، حسبما يراه أدنى إلى الصالح العلم، لذا لم يتدخل الدين فى هذه المعاملات إلا لرفع العنت وحماية الجمهور من ميوعة التشريع الوضعى أحيانا.
إذا تدخل الدين فى شئون الحياة المعتادة، فهو يدخل بقدر، دون حجر على حرية الأفكار، أو حد من النشاط الإنسانى، إلا أن بعض المسلمين أخطأ فى فهم العلاقة بين الدين وهذه العبادات، فمنهم من ظن أن كل جديد بعد رسول الله ابتداع، وتوقف فى قبوله، ومنهم من تأول بعض العاديات التى فعلها الرسول على أنها دين، واستحب الاستمساك بها تعبدا وتقربا إلى الله.
والفريقان مخطآن، فما استحدثه الناس من عاديات لم تكن فى عهد رسول الله وصحابته، لا يجوز رفضها ولا وصفها بما ينفر منها، فهى ليست بدعا بالمعنى الذى يحارب شرعا، ولا تضاد سنة ثابتة، كما فصَل العلماء مسألة اعتبار العاديات التى فعلها الرسول دينا يبر فاعلها ويأثم تاركها.
واتفق العلماء على أن الأمة لا صلة لها بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فى حدود طبيعته البشرية الخاصة، ولا تكلف باتباعه فيه، فقد أكل خالد بن الوليد ضبا، عاف رسول الله تناوله؛ لأنه لم يألف أن يطمعه فى أرض قومه، وخالد ــ فى هذا التصرف ــ لم يرتكب شيئا يعاب فيه.
أما العاطفة الجياشة بالحب فقد تكون لها مسالك تلتزمها وحدها، ولا يلزم الله بها أحدا من خلقه، فما روى أن عبدالله بن عمر كان يتحرى الطرق التى يسير فيها الرسول فيسير فيها، والأماكن التى تخلَى فيها فيقعد فيها، ولو لم تكن له حاجة، فهذا ــ من ابن عمر ــ لزوم ما لا يلزم، وجمهور الصحابة لم يلتفت لهذه الأعمال، ولم ير فى الأخذ بها أدنى قربة إلى الله.
الصحابة ــ وهم أعلم الناس بالدين وأحرصهم على اتباعه ــ كانوا يشاهدون من النبى أفعالا، ولما لم يظهر لهم فيها قصد القربة لم يتخذوها دينا يتعبدون به ويدعون الناس إليه، ولذلك أمثلة كثيرة:
فحينما كان النبى مهاجرا إلى المدينة أخذ طريق الساحل، لأنه أبعد عن العدو، ولو كان مجرد الفعل يدل على القربة لاقتضى أن يسلك كل مسافر من مكة إلى المدينة هذا الطريق وإن كان بعيدا، أيضا كان الرسول يتعبد فى الغار مع أبى بكر الصديق حينما كان مختفيا من أعدائه المشركين، ولو كان محض الفعل يفيد الندب، لذهبت الصحابة إلى الغار للتعبد فيه كما كان يفعل الرسول.
والعاديات التى فعلها الرسول جاءت خضوعا للبيئة التى كان يعيش فيها، أى أنها أفعال تعم المسلمين والمشركين من سكان المنطقة الحارة وحدها، فكان يستحسن لبس الأبيض اتقاء للحرارة، ويرخى غطاء رأسه ليقيه من وهج الشمس، وهذ العاديات ــ فعلية أو قولية ــ ليست من رسالة الإسلام.
ولعل تأخر المسلمين فى بعض الميادين يرجع إلى فرضهم قيودا شتى على نفسهم باسم الإسلام، فعاشوا فى سجون هذه القيود المزعومة، ومن هنا وهت صلتهم بالدين، ووهت بالدنيا، وهزموا فى الميدانين معا، على حين انطلق غيرهم لا يعوقه شىء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved