بي بي سي: القصة الحقيقية للمحرقة النازية بعيون أحد الناجين

آخر تحديث: الأحد 17 مارس 2019 - 4:30 ص بتوقيت القاهرة

يقول بريمو ليفي في كتابة "الجدول الدوري" الذي يسرد فيه سيرته الذاتية: "تكمن روعة عملية التقطير في أنها بطيئة وتحمل معان فلسفية. ثم إنها هادئة، قد تشد انتباهك وتتيح لك وقتا للتفكير في أمور أخرى، كما لو كنت راكبا دراجة. وعندما يتحول السائل إلى بخار ماء (غير مرئي) ثم يستحيل سائلا مرة أخرى، يتحقق النقاء، وهي حالة غامضة وآسرة، تبدأ بالكيمياء وتسمو إلى مراتب أبعد من ذلك بمراحل".

كان ليفي كيميائيا، وهذا لا يتجلى في اختياراته لموضوعاته فحسب، بل أيضا في عباراته الموزونة ودقة الوصف والتعبير في كتاباته النثرية. وكان ليفي أيضا إيطاليا يهوديا، ولما بلغ 24 عاما رُحِّل إلى معسكر الاعتقال النازي في أوشفيتز ببولندا.

ويجسد مقطع "التقطير" إسلوب ليفي في الكتابة وابتعاده عن التكلف في صياغة عباراته بقصد الإيضاح. ويرمز المقطع أيضا إلى رحلته الشخصية من تورينو إلى أوشفيتز ومنها مرة أخرى إلى تورينو، حيث أمضى بقية حياته في نفس الشقة التي ولد بها. إذ أزالت التجربة عن عينيه غشاوة الأنانية والزهو فأصبح ثاقب الفكر وبعيد النظر.

وفي الذكرى المئة لميلاد ليفي، نعيد قراءة كتبه الثلاث التي وثق فيها شهادته عن المحرقة، كان أولها كتاب "لو كان هذا رجلا" الذي شرع في كتابته فور عودته إلى وطنه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويصف فيه تجربته في معسكر أوشفيتز.

وبعد أكثر من عقد كتب "الهدنة"، الذي وصف فيه رحلته الحافلة بالأحداث من معسكر أوشفيتز إلى تورينو بإيطاليا. وبعد ثلاثة عقود وقبيل موته، كتب "الغرقى والناجون"، انتقد فيه بشراسه الأساطير التي نسجت حول المحرقة في حياته.

قهر الإنسان
كتب ليفي: "كنت محظوظا لأنني لم أرحّل إلى معسكر أوشفيتز قبل عام 1944". إذ اعتزم النازيون في هذه الفترة، التي اشتدت فيها رحى الحرب العالمية الثانية، أن يؤجلوا إعدام العمال اليهود ذوي الخبرة والمهارة لفترة ليست بالطويلة. ورغم ذلك فإن عدد الإيطاليين الذين رافقوا ليفي في القطار المتجه إلى أوشفيتز كان 650 شخصا، لم ينج منهم سوى 20 شخصا فقط.

وأدرك ليفي أن هذه المعسكرات، لا هي للإبادة ولا هي للعمالة، ولكن القصد منها قهر الإنسان وإذلاله. وبمجرد وصول الوافدين الجدد، قُسموا إلى مجموعتين، كان ليفي ضمن المجموعة الأولى، وجردوا من ملابسهم وحلقت رؤوسهم ووُشمت أرقام على أجسادهم.

ومنذ هذه اللحظة تغير أسلوب ليفي الوصفي، إذ تخلى عن المعالجة الفلسفية والتاريخية لتجربته، وشرع يصف أدق تفاصيل الحياة في المعسكر. وذكر ليفي غير مرة أنه كان يصيغ كتاباته على غرار تقارير المعامل الكيميائية. وفي هذا الكتاب كان يعرض الحقائق عرضا موضوعيا، وتبنى أحيانا أسلوبا تهكميا لا يبعث على الضحك. ولكن أغلب التفاصيل كانت مرعبة ومزعجة، وإن كانت حقيقية.

وفي المعسكر، كانت قسوة البرودة وشدة الجوع ينتزعان الأرواح من أجساد السجناء، الذين لم يجدوا أمامهم خيارا غير الطاعة. وكان المحظوظون منهم من أصحاب المهارات الاستثنائية يبقون على قيد الحياة لأكثر من ثلاثة شهور.

وفي صبيحة أحد الأيام كلف ليفي بمهمة يدوية عسيرة تفوق قدرته على التحمل، وسرعان ما شعر أن "الجهد أضناه وكاد يذهب ببصره وسمعه" وتحامل على نفسه، لأنه كان يعلم أن "الألم الشاق يحفزه على الاستفادة من مخزون الجسم من الطاقة"، وكان "الكابو" اليهود المكلفون بالإشراف على السجناء، يعرفون ذلك أيضا. إذ كان بعضهم يضرب السجناء بدافع الوحشية والعنف، والبعض الآخر كان يطيب لهم توجيه المواعظ أثناء التعذيب.

وعندما يحل المساء، لم ير السجناء في مضاجعهم سوى حلمين، أحدهما أنهم يحاولون سرد قصتهم لأصدقائهم وذويهم، لكنها لا تلقى إلا تجاهلا، والثاني أنهم يأكلون الطعام، وهذا الحلم كان يثير لعابهم ويحركون فكوكهم أثناء النوم. لكن مهما كان الحلم مزعجا، فهو أفضل من اليقظة. إذ كان وقع صيحة الجنود "استيقظ" في الفجر كوقع ضربة السوط.

وشعر ليفي أثناء كتابة هذه المشاهد أن اللغة تعجز عن وصف جريمة المحرقة، ويكتب: "نحن نقول 'الجوع'، و'التعب' و'الخوف' و'الألم' و'الشتاء'، وهي كلمات ابتكرها واستخدمها الرجال الأحرار الذين جربوا الراحة والمعاناة في منازلهم. لكن طول البقاء في المعسكرات كان سيفرز كلمات جديدة"

ولم يتوقف ليفي عن الملاحظة، "بفضول عالم التاريخ الطبيعي الذي وجد نفسه في بيئة وحشية لكنها جديدة". إذ راقب ليفي في أوشفيتز الحدود القصوى للطبيعة البشرية وقوانينها، وكأنها كانت تجربة لقياس قدرة البشر على تحمل أقصى الضغوط النفسية والغيبية (الميتافيزيقية). وكيف يتغير الإنسان تبعا لهذه الظروف، وكيف يؤثر ذلك على نظرتنا للإنسانية؟

دوّن ليفي هذه المذكرات في كتاب بعنوان "لو كان هذا رجلا"، وكتب أنه في المعسكر: "يفضل ألا تفكر".

الغرقى والناجون
وبعد أن أمضى ليفي 11 شهرا في أوشفيتز، حرر الجنود الروس سجناء المعسكر وقد اعتراهم الخجل من الفظائع التي رأوها. ويصف كتاب ليفي الثاني "الهدنة" رحلته من أوشفيتز إلى منزله في تورينو، لكنها لم تكن رحلة مباشرة، بل اتجه ليفي شرقا إلى روسيا وقطع رومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وألمانيا ليستقر به المقام في إيطاليا.

وفي الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان "ذوبان الجليد"، انقضى الشتاء وسطعت الشمس مرة أخرى، واسترد ليفي انسانيته كما استردت عظامه اللحوم والشحوم.

وعندما عاد إلى تورينو رأى الأحلام التي كانت تراوده في أوشفيتز رأي العين. إذ اشتدت رغبته في إطلاع الآخرين على قصته لكنه كان يخشى أن يعجز عن وصفها. وعاد إلى العمل في مجال الكيمياء بمصنع الطلاء الذي كان يعمل به قبل مغادرة تورينو، وكان يخصص أيام الآحاد للكتابة.

غير أن بقاءه على قيد الحياة ظل يؤرقه لسنوات، وكان يتساءل لماذا بقيت أنا دونا عن الآخرين؟ وما الذي يحدد مصيرك في أوشفيتز؟ وفي حالة ليفي، ساعده تمتعه بصحة جيدة وإلمامه باللغة الألمانية على تحمل المشقة في المعسكر. ولا شك أن الحظ كان حليفه أيضا، إذ التقى بشخص إيطالي من المدنيين ظل يهرب الطعام إلى المعسكر لمدة ستة أشهر، كما أصابته وعكة صحية في الوقت المناسب حين كان السجناء يساقون إلى الموت مع اقتراب الجنود الروس. وكان يقول: "لقد عاش أسوأ سجناء المعكسر، الأنانيون، العدوانيون، متبلدو المشاعر، المتواطئون مع السجانين، الجواسيس. كانت تلك هي القاعدة، أن يغيّب الموت أفضل السجناء".

كان ليفي يصف ذاك النطاق الأخلاقي بين النازيين وبين "الغرقى" الذين ماتوا دون أن يعانوا أو يهادنوا عدوهم، ب"المنطقة الرمادية". وهذه المنطقة تضم ليفي وغيره من السجناء الذين تعاونوا مع العدو لتلافي المصير الذي لاقاه نظرائهم.

وتراوحت أشكال هذا التعاون من رتق أحذية النازيين في مقابل لقيمات إضافية من الخبز، إلى المساعدة في إدارة المعسكرات. وبين القطبين كانت ظلال التواطؤ والإكراه تخيم على المتعاونين، لتذوب الحدود الفاصلة بين البرئ والآثم.

وغيرت المحرقة رؤية ليفي للبشر، لكنه لم يعتقد أنها تكشف عن الطبيعة البشرية. ويقول: "خلافا للاستنباط البديهي، لا نؤمن بأن الإنسان يصبح عدوانيا وأنانيا وطائشا حال غياب المؤسسات المدنية. وهذا يقودنا إلى استنتاج واحد لا غير وهو أن الكثير من العادات الاجتماعية والنوازع الفطرية تتراجع وتُقمع إزاء الضرورات الملحة والإعاقات البدنية".

لكن ماذا عن النازيين؟ هل كانت تدفعهم رغبة منطقية في الإيذاء أم أنه في هذه الحالة، لا وجود للمنطق؟ من الصعب وصف المحرقة بأي مفردات تعكس معايير متحضرة. لكن ليفي يؤكد أنها ليست عصية على الفهم. إذا كان وراء المحرقة دوافع فرديه مفهومة، فإن بعض النازيين من غلاة المتعصبين وبعضهم انتهازيون، وبعضهم جبناء. لكن البشر إذا شكلوا تكتلا معا قد يرتكبوا أعمالا غير إنسانية.

وفي عام 1961، بعد مرور 14 عاما على ترجمة الطبعة الأولى من كتاب "لو كان هذا رجلا" إلى الألمانية، عانى ليفي من صراع داخلي عند كتابة مقدمة الكتاب، حين قاوم رغبته العارمة في تفريغ مشاعر الغضب واللوم واليأس التي كانت تعتريه تجاه النازيين. وقد اختار عباراته بعناية فائقة لا تخلو من تحد: "بما إنني ما زلت حيا، أود أن أفهمك أولا حتى أحكم عليك".

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved