حسين حمودة: نجيب محفوظ كان يترقب آراءنا فى «أحلام فترة النقاهة» كتلميذ.. وأملى علىّ اثنى عشر حلما كاملا كان يحفظها

آخر تحديث: السبت 17 أغسطس 2019 - 10:43 ص بتوقيت القاهرة

إسماعيل الأشول:

ــ كان يستقبل يحيى حقى وتوفيق الحكيم واقفا ويغلق الجاكيت الذى يلبسه
ــ علينا وضع متحف نجيب محفوظ على خريطة المزارات السياحية المصرية
ــ سيرة «أولاد حارتنا» كانت تأتى دائما مقرونة بالإحساس بالتجربة الظالمة التى تعرض لها
ــ روى سيرة حياته بشكل غير مباشر فى رواياته «الثلاثية» و«المرايا» و«قشتمر»
لسنوات طويلة، اقترب الناقد الأدبى الكبير دكتور حسين حمودة من الروائى الكبير الراحل نجيب محفوظ، بل إنه كتب بخط يده اثنى عشر حلما من «أحلام فترة النقاهة»، أملاها عليه أديب نوبل، حين غاب عنه سكرتيره الحاج صبرى.
ومع افتتاح متحف نجيب محفوظ أخيرا، زادت الحاجة إلى الاستماع إلى أصفياء الأديب الكبير الراحل، بحثا عن المزيد من ملامح تجربة أدبية فريدة لا تزال آثارها قائمة حتى يومنا الراهن.
تولى حمودة رئاسة، تحرير دورية «نجيب محفوظ»، قبل أن يتعثر إصدارها، لأسباب يرويها فى حواره التالى مع «الشروق» الذى يكشف فيه عن وجود مقالات وقصص لنجيب محفوظ لم تصدر فى كتب بعد، مطالبا بإصدار تلك الأعمال، ولو فى طبعات محدودة، من أجل إتاحتها للدارسين.
عن عالم نجيب محفوظ، ونظرته للأدب والجوائز والنقاد وأساتذته أمثال يحيى حقى وتوفيق الحكيم الذى كان يستقبلهما واقفا، وعن علاقة أديب نوبل الراحل بالدين، وتجربته القاسية مع أزمة روايته «أولاد حارتنا»، دار الحوار التالى: 
> مع افتتاح متحف نجيب محفوظ أخيرا، اقترحت إعادة إصدار الدورية التى كانت تصدر عن المجلس الأعلى للثقافة برئاسة تحرير حضرتك، حاملة اسم أديب نوبل الراحل.. فلماذا توقفت؟ وما الذى يعوق إعادة إصدارها؟
ــ بعد وفاة نجيب محفوظ تشكلت لجنة من كبار المثقفين للعمل على تخليد ذكرى نجيب محفوظ، واقترحت إقامة مركز ثقافى ومتحف باسمه، كما تم اقتراح إصدار دورية سنوية كبيرة خاصة بمحفوظ، تنشر فيها دراسات عنه وقراءات لما يكتب عنه وشهادات حوله إلخ.. على أن تصدر هذه الدورية بشكل مؤقت عن المجلس الأعلى للثقافة، إلى حين الانتهاء من تجهيز المركز فتصدر عنه. وتحقق هذا بالفعل، وصدرت تسعة أعداد كبيرة سنوية عن المجلس، ساهم فيها كبار النقاد والمبدعين والناقدات والمبدعات من مصر والوطن العربى، بالإضافة إلى بعض الدراسات المترجمة من لغات كثيرة.. صدرت الأعداد الثلاثة الأولى برئاسة تحرير أستاذى الدكتور جابر عصفور وكنت نائبا له، ثم صدرت الأعداد الستة الأخيرة وكنت رئيس التحرير لها.. وكانت الدورية تصدر بانتظام حتى السنوات الثلاث الماضية؛ حيث بدأ تعثر إصدارها بعد أن تعقدت طرق صرف المكافآت الرمزية لمن يكتبون فى الدورية، وبعد هذا التعثر توقفت المجلة، تقريبا، عن الصدور.
> وما الطريقة الأمثل لاستثمار متحف نجيب محفوظ فى التعريف بالروائى المصرى والعربى الأبرز طيلة القرن الماضى؟
ــ هناك طرق متعددة فى الحقيقة، منها أن تتوفر وأن تتاح أعمال محفوظ والدراسات عنه وأفلامه وسيناريوهاته للدارسين والباحثين من كل أنحاء العالم، وأن يتم تنظيم «ورش إبداع»، فى الأدب والسينما، داخل المركز، وأن يوضع المتحف على خريطة المزارات السياحية المصرية، بحيث يزوره من يهتمون بالثقافة من زوار مصر من خارجها، وأن تقام بعض الندوات الدولية حول السينما المصرية وحول الأدب المصرى، انطلاقا من تجربة محفوظ، وأن يقوم المركز بتنظيمها بعد الإعداد الجيد لها، وأن يُخصص جزء داخل المركز لمتابعة موضع الأدب المصرى، والسينما المصرية، على خريطة الأدب العالمى والسينما العالمية، وأن يقام موقع إلكترونى متجدد للمركز.. وهكذا.
> وماذا عن علاقة الصداقة التى ارتبطت بها مع محفوظ.. كيف ومتى كان اللقاء الأول؟
ــ اللقاء الأول كان بعد تعافيه من التجربة المأساوية التى ارتبطت بمحاولة اغتياله ونجاته بما يشبه المعجزة. كانت هناك لقاءات مع مجموعات مصغرة من الأصدقاء، كل يوم فى مكان مختلف، باستثناء يوم السبت الذى كان يخصصه الأستاذ نجيب للبيت. أنا كنت محظوظا بأن أكون ضمن مجموعة يوم الإثنين. كنا نقضى عدة ساعات نتناقش ونتحاور ونتحدث عن كل شىء، ونضحك ونتواصل إنسانيا. واستمرت لقاءاتنا طيلة اثنى عشر عاما.
> حين غاب سكرتيره الحاج صبرى لأسباب مرضية، أملى عليك أديب نوبل الراحل اثنى عشر حلما من أحلام فترة النقاهة.. فما الذى تذكره من تفاصيل تلك الأيام؟
ــ فى أحد اللقاءات كان الأستاذ يبدو عليه توتر وضيق واضحان، وبعد إلحاحنا فى السؤال عما يضايقه قال لنا إن الحاج صبرى لم يأت إليه منذ أسبوعين، وتمنى له الشفاء، وبعد حوار طويل أشبه بالاستجواب منا، كشف لنا أنه قد «كتب بداخله» بعض الأحلام ولم يستطع أن يدونها بعد، وألححنا عليه كى يمليها علينا، ووافق بصعوبة، لأنه لا يريد أن يثقل علينا، وجهزنا الأوراق وأملى علينا الأستاذ اثنى عشر حلما كاملا، كان يختزلها بداخله، بنصها الكامل وحتى بعلامات ترقيمها، وكتبتها أنا كلها وراءه. وبعدما أنهى الأستاذ من إملائه تغيرت ملامحه تماما.. شعر بالراحة، وتلاشت معالم الضيق والتوتر.
> ما الوقت الذى استغرقه إملاء محفوظ الأحلام لحضرتك؟
ــ استغرق أقل من ساعة.
> وما سر الأحرف الأولى التى كان يشير لها أديب نوبل فى بعض الأحلام إشارة لأسماء بعض الأشخاص؟
ــ لعل هذه الأحرف اختصارات لبعض الأسماء من الشخصيات التى عرفها محفوظ فى حياته، كما هو الحال فى روايته «المرايا»، ولكنه عبر عنها فى «المرايا» باستخدام أسماء أخرى غير الأسماء الحقيقية، واختزلها هنا، فى «الأحلام»، فى حروف.
ولكن هناك حروفا أخرى فى نصوص «الأحلام» أتصور أنها لا تشير إلى شخصيات محددة بعينها، بقدر ما تمثل شخصيات متخيلة، أو تمثيلات لـ«حالات» ورؤى، وهى بذلك تخضع للمنطق الفنى الذى تخضع له نصوص الأحلام كلها، وهو منطق يهتم بتقديم «خلاصات» مصفاة دون تفاصيل؛ حيث تمتزج وتتداخل الحكمة والأمثولة والشعر والداخل والخارج والحقيقة والخيال. بهذا المعنى يمكن أن يكون استخدام الأحرف جزءا من التعبير عن قيم أو أفكار أو تصورات أو رؤى أكثر مما يشير إلى شخصية محددة.
> وهل من الممكن أن نذكر من كانوا المقصودين بالضبط؟
ــ لا أستطيع أن أزعم معرفتى بالمقصودين، عرفت بعض الشخصيات التى تشير إليها الأحرف على سبيل التخمين، وليس اليقين، لكنى لا أملك القدرة على الزعم بأننى توصلت إلى شىء مؤكد.
> قلت فى تصريح سابق إن محفوظ ظل حتى آخر عمره يعمل ككاتب مبتدئ.. كيف كان ذلك؟
ــ ظل الأستاذ بعد كل مرة ينشر فيها اثنين أو ثلاثة من «الأحلام» ينتظر رأينا فيها. كان يرقب ويترقب آراءنا بقدر من التوتر الخفيف، وكأنه «تلميذ» ينتظر نتيجة عمله، أو كأنه كاتب مبتدئ «مكافح» يشق طريقه، رغم كل ما حققه من قبل، فى رحلته الطويلة الحافلة. والحقيقة أن هذا كان درسا بليغا فى الإيمان بقيمة العمل الدائم والدائب وبقيمة الإبداع وبقيمة التجدد. كان الأستاذ أشبه بـ«تلميذ أبدى» كما كتبت فى مقالة عنه.
> وماذا عن بداياته بالفعل، وخاصة ما يتعلق بأعماله التى لم ترق له فمزقها، مثل روايته «ما وراء العشق»، أو سيرته التى كتبها تحت عنوان «الأعوام»؟
ــ هذا جانب مفهوم، فيما أتصور. لقد كان، ككل كاتب حقيقى، القارئ الأول لأعماله. وبالتالى إذا لم يرض عن عمل كتبه، أو شعر أنه لا يمثل ما يريد التعبير عنه، «يركنه على جنب» أو يتخلص منه. وقد وعى محفوظ هذا منذ زمن بعيد. ومجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» كانت مجرد مختارات استصفاها من بين عدد كبير جدا من القصص التى كان قد كتبها ونشرها فى صحف ومجلات من قبل.
> وكيف رصدت علاقة نجيب محفوظ بالنقاد، فى ظل العبارة المنسوبة إليه بأنه لم يكن يعير اهتماما إلا لمن يحترمه منهم؟
ــ خلال حواراتنا التى تطرق بعضها إلى الكتابات النقدية عنه، كان يحترم الجميع، وإن كان يتغاضى عن بعض الكتابات «المغرضة». وللأسف بعض هذه الكتابات المغرضة كانت أقرب للسباب أو الاتهامات الباطلة. نجيب محفوظ كان يهتم بكل كتابة نقدية جادة عنه، ويتعامل معها باعتبارها تقدم شكلا من أشكال التلقى المهم لأعماله. وهو قد تسامح مع بعض «النقاد»، أو المحسوبين على النقد، حتى وإن سبه بعضهم فى كتابات سيئة تتمسح بالنقد.
> حين أصدر روايته «أولاد حارتنا» تعرض لهجوم حاد، حتى إن إحدى الصحف نشرت صورته مجاورة لصورة الكاتب البريطانى من أصل هندى سلمان رشدى، باعتبارهما من المسيئين للإسلام؟ بم كان يتحدث عن تلك الأزمة معكم؟
ــ الحقيقة أن كلامنا عن «أولاد حارتنا» كان قليلا. وكانت «سيرتها» تأتى دائما مقرونة بالإحساس بالتجربة الظالمة والمأساوية التى تعرضت لها هذه الرواية وتعرض لها الأستاذ، أقصد محاولة اغتياله. حديثنا وحديثه عن هذه الرواية كان يستعيد ويستدعى أوقاتا مؤلمة فى حياته. لكنه كرر معنا، غير مرة، وبأكثر من صياغة، العبارة المختصرة الدالة التى قالها حول هذه الرواية: «مأساة أولاد حارتنا إنها رواية اتقرت [قرئت] ككتاب»، وكان يقصد أن من اتهموها واتهموه لم يفقهوا شيئا من جوانبها الإبداعية، وأنهم أساءوا قراءتها، ولم يدركوا الطرق الصحيحة لقراءتها.
> وكيف كان ينظر نجيب محفوظ إلى من اعتبرهم أساتذته وعلى رأسهم يحيى حقى وتوفيق الحكيم الذى قال فيه: لولاه ما كنت أديبا؟
ــ كان يكن لهؤلاء احتراما لا حدود له، أقرب لاحترام التلميذ لأساتذته. وكان هذا الاحترام سمة لعلاقته بكثيرين ممن اعتبرهم أساتذته، سواء ممن التقاهم مثل طه حسين، أو ممن لم يعش حتى فى عصرهم ولا فى مجتمعاتهم، مثل ديستويفسكى وتولستوى وكازنتزاكيس. والحكايات معروفة حول احترامه الزائد ليحيى حقى وتوفيق الحكيم، حتى ولو كانوا أصدقاء يجلسون بأريحية على مقهى. ومن هذه الحكايات أنه كان ينهض فور مجيئهما و«يزرر الجاكيت» الذى يلبسه. 
> عقب محاولة اغتياله الفاشلة كان نجيب محفوظ يتدرب على الكتابة فى كراسات احتفظ بها الطبيب النفسى يحيى الرخاوى.. ألا ترى أن تلك الكراسات جديرة بالنشر؟
ــ هذه الكراسات جديرة بالنشر كصور، كما هى، على أن تلحق بها دراسات توضيحية تتوقف عند تسلسلها وسياقها وتواريخها، وقام الدكتور يحيى الرخاوى بكتابات مهمة فى هذه الوجهة، ونشر بعض ما كتب فى واحد من أعداد «دورية نجيب محفوظ».
> وهل تتوقع وجود أعمال لا تزال غير منشورة لنجيب محفوظ حتى اليوم؟
ــ هناك بعض النصوص التى نشرت متفرقة فى مجلات ودوريات فى فترة مبكرة، مثل الثلاثينيات، ومنها مقالات تم جمع الكثير منها. مثلا أغلب المقالات الفلسفية جمعت فى كتابين للأستاذ رءوف سلامة موسى وللدكتور أحمد عبدالحليم عطية. وهناك أيضا قصص قصيرة نشرت فى الفترة نفسها، ولكن الأستاذ لم يرض عنها فيما بعد ولم يضمها لمجموعاته القصصية، كما أشرت. المقالات والقصص التى لم تصدر فى كتب تستحق أن تجمع، وأن تصدر فى طبعات حتى ولو كانت محدودة، مصحوبة بتوضيحات لسياقها التاريخى ولمستواها الفنى كما تصوره الأستاذ، كى تتاح للدارسين على الأقل.
> ألم يكن السؤال حول عدم كتابته سيرته الذاتية جزءا من الحوار بينكم فى جلساتكم مع أديب نوبل؟
ــ كان هذا السؤال مطروحا عندما كان يثيره أحد الضيوف. وإجابات الأستاذ نجيب عن هذا السؤال معروفة: أنه بث سيرة حياته بشكل غير مباشر فى بعض أعماله. ويمكن أن نفكر، من هذه الناحية، فى روايات مثل «الثلاثية» و«المرايا» و«قشتمر»، وأن نضيف «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة» اللتين تجسدان جوانب من سيرة الأستاذ بطريقة إبداعية مختزلة. كذلك كان الأستاذ يشير فى إجابته عن هذا السؤال إلى عملين مهمين، هما حوارايات مطولة معه: كتاب جمال الغيطانى «نجيب محفوظ يتذكر»، وكتاب رجاء النقاش «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته».
> كوفئ نجيب محفوظ بجنيه واحد من مجلة «الثقافة» عن نشر أولى قصصه.. ثم نال جائزة الدولة التقديرية ومن بعدها جائزة نوبل، وقال فى تصريح منسوب له إن الجنيه الأول أسعده أكثر.. كيف كان نجيب محفوظ ينظر للجوائز؟
ــ كانت الجوائز تفرحه فى المحطات الأولى من حياته، وبعد ذلك أصبحت عبئا عليه، فيما أتصور. فى زمن مبكر كان بحاجة، مثل كل الناس، إلى القيمة المادية للجائزة، لكنه كان ينفقها على أصدقائه عندما كان يحصل عليها. فيما بعد لم تعد النقود تمثل جزءا من اهتماماته. وحضرتك تعرف كيف قام بتوزيع القيمة المالية لجائزة نوبل، فلم يخصص لنفسه منها شيئا، وجعل ثلثها لأسرته، وثلثها لابنتيه، وثلثها للمرضى الذين يراسلون جريدة «الأهرام» طالبين الدواء، لكنه، مثل كل البشر، كان يسعده تقدير عمله طبعا..
> روى أديب نوبل ذات مرة أنه مر بلحظات شك فى مقتبل حياته انتهت به إلى قناعة بأن القلب الوسيلة الأكثر نجاحا فى كل ما يمس العقائد.. فكيف تصف لنا علاقته بالدين فى حياته؟ 
ــ علاقة نجيب محفوظ بالدين، فيما أرى، كانت علاقة رحبة. لقد انطلق من القيم الدينية السامية كما تصورها وتمثلها وتشبع بها، وصاغ حياته على أساسها، دون تطرف ودون ادعاءات شكلية ودون تظاهر. وأضاف لهذا ملامح من روح التصوف والزهد، ولكن أيضا بنوع من الرحابة واتساع الأفق، أى دون أن ينعزل، كما فعل بعض المتصوفة، عن نهر الحياة المتدفق المتجدد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved